المسألة الفلاحية والانتفاضات الشعبية

هيفاء أحمد الجندي
hayfaa.joundy@hotmail.com

2018 / 8 / 5



كانت فرنسا،في نهاية القرن الثامن عشر، قروية ومهنية وكان الفلاحون وقبل انطلاق التجارة الكبيرة، وظهور الصناعة وتقدم الرأسمالية، يرزحون تحت ثقل النظام القديم والاقتصاد التقليدي.
وكانت الطبقات الشعبية ،عاجزة عن إدراك حقوقها، ومدى قوتها، وكانت الحقوق التقليدية، في مجتمع النظام القديم الارستقراطي، تميز ثلاث طبقات:الإكليروس والنبلاء والطبقة الثالثة وكانت الأرض تشكل المصدر الوحيد للثروة، وكانوا الذين يملكونها،أسياداً للذين يعملون فيها،وهم الأقنان.لم يكتف النبلاء، بإرهاق الطبقة الوسطى واستنزافها، بل تجاوزوا ذلك إلى إرهاق الفلاحين،واستنزافهم أيضاً وكانت مستحقات الإقطاعيات والأعشار والضرائب تلتهم،القسط الأكبر من دخل الفلاح،ولم يستفد من هذا الوضع إلا أقلية من الفلاحين،الذين كان لديهم فائض مستمر للبيع في السوق،أما الباقون، فقد لحق بهم الضرر،بشكل أو بأخر وبخاصة عندما تسوء المحاصيل،وتسود السوق أسعار المجاعات.
لقد استمرت فرنسا،بلاداً قروية في جوهرها،وكان الإنتاج الزراعي يسيطر على الحياة الإقتصادية، وهنا تكمن أهمية المسألة الفلاحية خلال الثورة،وأهمية الفلاحين في تاريخ الثورة والتي لم يكن بمقدورها أن تنجح،ولا أن تتغلب على البورجوازية لو بقيت الجماهير الفلاحية سلبية، وكان الحافز الأساسي لتدخل الفلاحين،في مجرى الثورة،مسألة حقوق الأسياد، واستمرار الإقطاع وهذ االتدخل تسبب بانهيار النظام القديم الإقطاعي.
وفي الأرياف، كان العمال اليدويين والمياومين الزراعيين، يؤلفون بين القرويين الأحرار بروليتاريا زراعية ، يتزايد عددها باستمرار وعلى حساب الفلاحين المالكين،ومع ارتفاع الأجور، كانت تزداد ظروف معيشة هؤلاء البروليتاريين خطورة بسبب ارتفاع الأسعار، وكان عدداً كبيرا،ً من الفلاحين الصغار، لا يملك إلا أرضاً محدودة، إما عن طريق التمليك أو التأجير فكان عليهم،أن يجدوا مصادر إضافية في العمل المأجور، أو في الصناعة القروية،وكان الملاكون الكنسيون والنبلاء، يعطون أراضيهم بالمزراعة، وفي أغلب الأحيان بالحصة وكانوا يحتكرون كل الأراضي المعروضة للتأجير، على حساب ضرر المياومين والقرويين الصغار،فأثاروا ضدهم حقد الجماهير الفلاحية وغضبها مساهمين بذلك بتحويلها إلى بروليتاريا.
وعلى هذا النحو، كان المجتمع الفلاحي،يحتوي ظروفاً ومتناقضات بمقدار ما يحتوي مجتمع المدن:المزارعون الكبار والفلاحون المزارعون بعقد والمزارعون بالمناصفة وصغار القرويين الملاكين والمياومين.
وقد جعلت الردة الإستقراطية،التي تميز بها القرن الثامن عشر، النظام الإقطاعي أشد إرهاباً، فكانت الأحكام الإرستقراطية ترهق الفلاحين، والأسياد يهاجمون الحقوق الجماعية،وحق استعمال الأملاك العامة.
وإبان الأزمات، وفي عامي 1788-1789 كان الفلاح المتوسط، يعيش في الأيام الطبيعية، من دخل أرضه، ولكنه قد يضطر في مرحلة الأزمة، إلى شراء الحبوب بأثمان مرتفعة، بعد أن يسدد العشر وحقوق السيد.
وعشية الثورة الفرنسية، كانت فرنسا تعاني من تخلف الأرياف، ولم يكن أصحاب الامتياز، يبحثون إلا عن زيادة مداخليهم، دون الاهتمام بكل المشكلة الزراعية وكانت تثير البورجوازية،امتيازات الضرائب والألقاب، ورغم الخلافات بينها وبين الجماهيرالشعبية، فإن الإثنتين وقفتا ضد الارستقراطية،لأن العمال والحرفيون كانوا يشتكون من النظام القديم، وكانوا يكرهون النبلاء،بسبب امتيازاتهم وغناهم العقاري ولقد اشتد هذا التناقض الجوهري لأن عمال المدينة، كانوا يتحدرون من أصل فلاحي.
وفي نيسان عام 1789 انفجرت في باريس، أول مظاهرة وضد أحد أرباب العمل(صاحب مصنع لصناعة الورق) وكانت الأسباب الاقتصادية-الاجتماعية هي التي حركت هذه التظاهرة،وكان لهذه الاحتجاجات الشعبية،وفيما بعد نتائج سياسية تجسدت في زعزعة الحكم.
وكانت الطبقات الشعبية، تطالب بتخفيف الأعباء الضريبية، وعلى الأخص إلغاء الضرائب الغير مباشرة، والأتاوات واستمر الخبز المطلب الأساسي للشعب، وفي عام 1788 كانت الأزمة الزراعية،أعنف مما عرفه القرن، ولقد ظهر القحط في الشتاء، فكثر التسول الناجم عن البطالة،وشكل هؤلاء العاطلون عن العمل والمتضورون جوعاً أشد عناصر الجماهير الثورية.
أحد لا يستطيع أن ينكر،أهمية الجوع، في إطلاق الثورة، وقد حرك البؤس،الجماهير الشعبية،فضلاً عن أن التراجع الإقتصادي والأزمة الدورية التي انفجرت في عام 1788 كانتا مسؤوليتن و بالدرجة أيضاً عن أحداث ثورة 1789.
عدا عن المعطيات الاقتصادية، ينبغي البحث أيضاً،في الأسباب العميقة للثورة الفرنسية، أي في تناقضات النظام القديم، ومؤسساته وبين الحركة الاقتصادية-الاجتماعية من جهة أخرى، وعشية الثورة، استمرت أطر المجتمع ارستقراطية وكان نظام الملكية العقارية ، ما يزال إقطاعيا ًوكان عبء الحقوق الإقطاعية والعشور الكنسية ، يثقل كاهل القرويين، في الوقت الذي كانت تتطورفيه وسائل الإنتاج والمبادلات التجارية ، التي عليها كانت تبنى القوة الاقتصادية البورجوازية،فكان التنظيم الاجتماعي-السياسي للنظام القديم،الذي يكرس امتيازات الارستقراطية العقارية،يعطل نمو البورجوازية.وبات يطرح على جدول الأعمال مسألة إزاحة الطبقة السائدة، لتخلفها طبقة سائدة جديدة، أقدر منها على متابعة سيرورة تقدم الإنتاج.وهذا الصراع بين الطبقة السائدة القديمة،وبين الجديدة المرشحة لخلافتها،هو في حقيقة الأمر،توتر و تأزم بين صراع علاقات الإنتاج وقوى الإنتاج، واللحظة التي يتصاعد فيها،ضغط قوى الإنتاج على علاقات الإنتاج،إلى حد تفجيرها،هي لحظة ثورية حاسمة حقاً،لأنها اللحظة،التي يتحول فيها الضغط الكمي،إلى انفجار نوعي ويتحقق من جديد،التطابق المطلوب، بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، وهو التطابق الذي يتم،عن طريق نسفها،واستبدالها بعلاقات جديدة، قادرة على احتواء كل ما تراكم من قوى الإنتاج،وعلى توفير شروط أفضل، للمزيد من تراكمها وتطورها.
والثورة ليست ضرورية، بالنسبة للبورجوازية الصاعدة، إلا بوصفها الوسيلة الوحيدة للإطاحة بالطبقة التي كانت سائدة قبلها.
وهكذا تكون العلاقات الاجتماعية في الأرياف، قد بطلت تدريجياً،بفعل تغلغل العلاقات الرأسمالية، ولقد خلق الإقطاع،الشروط التي كانت باستطاعة الطبقة البورجوازية،أن تنمو فيها،ولقد قادت أقلية بورجوازية مع الطبقة الثالثة، ثورة 1789 يساندها ويدفعها في مراحل الأزمة، شعب المدن والأرياف،وبفضل التحالف الشعبي، فرضت البورجوازية على الحكم الملكي، دستورا،ً منحها جوهر الحكم واكتملت الثورة في تموز،وحلت السيادة المطلقة،بفضل تحالف نواب الطبقة الثالثة.
وبعد استيلاء البورجوازية على السلطة، والتي كان لها منظور ليبرالي، من الوجهة الاقتصادية، فقد تركزت سياساتها تجاه الفلاحين، في إغلاق الأراضي العامة وتشجيع أصحاب المشروعات الريفية"الفلاحين الملاكين" وعاد شعب الأرياف وانتفض من جديد، وهو الذي انتظر بفارغ الصبر، جواباً على مطالبه ،خلال صراع الطبقات، ولكن لم تستجب البورجوازية المنتصرة، وزادت الأزمة الاقتصادية من حدة الاستياء، ولم يحصل الفلاحون،على محصول يكفي قوتهم،وتعمقت الأزمة الصناعية،في المناطق التي تنتشر فيها الصناعة الفلاحية، فكثرت البطالة، وانفجرت أربع ثورات، وكانت الثورات الزراعية،موجهة وقبل كل شيء،ضد الإرستقراطية،والحقوق الإقطاعية،إضافة إلى البؤس الناجم،عن الاستثمار المزمن،ونقص المعيشة والغلاء والخوف من المجاعة. وكل هذه العوامل،تضافرت لخلق مناخ من الخوف، فخرجت الأرياف منه متبدلة وقضى التمرد الزراعي،مع ثورة الفلاحين،على النظام الإقطاعي،وما لبث أن ظهر التناقض من جديد،بين الطبقة البورجوازية والفلاحين، فعلى غرار النبلاء، كانت بورجوازية المدينة،تملك العقارات،وكانت تملك إقطاعات، وتجني من القرويين ضرائب،وأصاب البورجوازية الرعب من اندلاع ثورة الفلاحين،والتي يمكن أن تهدد مصالحها المباشرة، والتجئت إلى القمع،كي تسحق الثورة، ووقعت على أثر ذلك صدامات بين العصابات الفلاحية والميليشيا البورجوازية. وأمام التهديد بثورة اجتماعية،توطد التحالف بين الطبقات المالكة ، من بورجوازية ونبلاء ضد الفلاحين،الذين يناضلون لتحرير أرضهم، وكان هذا المظهر من الصراع الطبقي، واضحاً حيث ساندت البورجوازية النبلاء، بينما تحول العطف الشعبي إلى الفلاحين الثائرين.
ولم يكن للمؤسسات الجديدة، من هدف، سوى تأمين سيادة للبورجوازية المنتصرة، ضد كل ردة هجومية،تقوم بها الارستقراطية والحكم الملكي،وكذلك ضد كل محاولة للتحرر الشعبي، وفي الوقت الذي كانت فيه،البورجوازية الرأسمالية تطالب بالحرية الاقتصادية، كانت الجماهير الشعبية تعبر عن عقلية معادية للرأسمالية.
ولا ضير من القول،بأن البورجوازية استفادت من حرية التجارة، وحرية الملكية بعد إزالة النظام الإقطاعي،وكانت حرية العمل،مرتبطة بحرية المشاريع، ولم يعد مسموحاً القيام بتجمعات شعبية، ومع ذلك شهد ربيع 1791 تكتلات عمالية،أثارت قلق البورجوازية التأسيسية،وكانت هذه الأخيرة ترتجف رعباً،من تقدم الحركة الشعبية، إذ وبمقدار ما كانت ترتعد فرائصها،خوفاً من الثورة الإرستقراطية المعاكسة،وكانت البورجوازية التأسيسية،تخشى ثورة الفلاحين،وتخاف من الحركة الشعبية في المدن، وتوحدت قواها،عقب التضخم المالي، في وجه الحركة الشعبية مخافة أن تتطور إلى ثورة اجتماعية،يطلقها القحط من جديد.
غني عن البيان القول،بأن الثورة الفرنسية،وبحسب توصيف المفكر سمير أمين،لم تكن مجرد ثورة بورجوازية،أحلت النظام الرأسمالي،محل النظام القديم،وسلطة البورجوازية، محل الإرستقراطية، بل هي ثورة شعبية ديمقراطية وفلاحية،تحوي بذور الثورة الاشتراكية ، لم تتوفر شروطها. ولم تدمر البورجوازية النظام القديم إلا بفضل،مساعدة الشعب والفلاحين، واليعاقبة الذين دفعوا بالإصلاح الزراعي،إلى ما هو أبعد، مما أراده دعاة التنمية والعمال الزراعيين.
وماذا عن أوضاع الفلاحين في بعض البلدان؟
كانت الأوضاع في الأرياف، بالغة السوء، وحصلت أكثر من مجاعة،دفعت المزارعين، إلى الهجرة ، وكان الألمان و قبل المجاعة الإيرلندية، هم المصدر لأكبر موجات المهاجرين،وبعد انتهاء الحروب الفرنسية، وفي عام 1847 مات نحو مليون شخص،جوعاً ومليونين أخرين،هاجروا وفي الفترة بين 1789- 1848 كان من سوء طالع المرء،أن يكون فلاحاً ، في الهند وإيرلندا، وذلك لأن تطبيق الليبرالية البريطانية،على الأراضي الهندية، لم يسفر عن قيام فئة من ملاك الإقطاعات ولا طائفة من صغار الفلاحين المالكين،بل أسفر،عن قيام شبكة معقدة،من الطفيليين المستغلين، للقرى الأمر الذي أدى،إلى تحويل الهند،إلى مزرعة غلال لانكلترا، وإلى تعاظم ديون الفلاحين وارتفاع نسبة الفقراء.
أما إيرلندا، فكانت بلداً متخلفاً على الصعيد الإقتصادي، يفتقر أهله إلى الأمن،وكان المستأجرون الذين يعيشون من الزراعة،على مستوى الكفاف، يدفعون الحدود القصوى للإيجار لمجموعة قليلة من أصحاب الأرض الأجانب، الذين لا يفلحون ولا يزرعون وكانت قد لجمت الصناعة، بفعل السياسة التجارية للحكومة الاستعمارية البريطانية وفي فترة لاحقة، بفعل منافسة الصناعة البريطانية، التي شجعت سادة الأرض وبأقصى عدد ممكن من المستأجرين ، الذين يدفعون الإيجار لفلاحة المزارع الجديدة،التي تصدر المواد الغذائية الى الأسواق البريطانية المتزايدة وحاولت الليبرالية الاقتصادية،حل مشكلات العمال بأسلوبها الفظ، وأرغمتهم على قبول العمل،بأجر زهيد أو الهجرة وكان العمال الزراعيون في واقع الأمر يعانون البؤس في كل مكان.
لا ضير من القول،بأن أوضاع الفلاحين كانت مروعة بين العامين 1815-1848 ولا شك بأن مستوى الفقر، كان أسوأ في الأرياف، ولا سيما في أوساط الفلاحين المأجورين، الذين لا يمتلكون الأرض أو كانوا يعيشون في أرض قاحلة.
وعجلت رسملة الزراعة،ودخول العلاقات الرأسمالية إلى الأرياف، بهجرة الفلاحين وحولتهم الى عمال مأجورين في المدن الصناعية.
من الجدير ذكره، بأن الحركات العمالية، لم تكن حركات بروليتارية في البداية سواء من حيث تكوينها أم من حيث إيديولوجيتها وبرامجها،أي أنها لم تكن تضم عمال المصانع والمعامل، أو حتى حركة تقتصر عضويتها على العمال المأجورين بل إنها كانت،جبهة مشتركة، تضم جميع القوى والنزعات،التي تمثل الكادحين الفقراء،وكانت هذه الجبهة المشتركة، قائمة منذ وقت طويل غير أن زعاماتها وتطلعاتها، وحتى أيام الثورة الفرنسية، كانت تتحدر من أوساط الطبقة الوسطى الليبرالية أو الراديكالية، فاليعاقبة واللامتسرولين، هم الذين أضفوا طابع الوحدة على التقاليد الباريسية الشعبية، وراحت الجبهة المشتركة،تتصدى للطبقة الوسطى الليبرالية، وللملوك والارستقراطيين، وما وحد صفوفها،كان برنامج البروليتاريا وايديولوجيتها، سيما وأن الوعي البروليتاري، ارتبط بما يمكن أن نسميه الوعي اليعقوبي، وكانا يكملان بعضهما البعض.
الثورة الروسية والمسألة الفلاحية:
لم يكن ماركس يحب روسيا كثيراً،وكان يرى فيها وطن الاستبداد الشرقي،ومعقل الرجعية الأولى في أوربا،وهو القائل:إذا كانت روسيا بلاد فلاحين،فهي بالضرورة بلاد همج،وعموماً كان حكمه قاسياً،على الفلاحين الطبقة التي اعتبرها،الأكثر جموداً وسكوناً وكان يقصد الفلاح،المحافظ البونابرتي النزعة،الذي اعتبر الثامن عشر من بروميير،نصراً مؤزراً لهم،لأنه اليوم الذي انتقموا فيه،من سكان المدن وأعلنت الامبراطورية من جديد،الامبراطورية التي هي،دولة الفلاحين المفضلة،وأقسى حكم أصدره ماركس،عليهم أن السلالة البونابرتية،هي سلالة الفلاحين وعلى وجه الخصوص،الفلاح الصغير،الذي لا يريد أن يتحرر من شروط وجوده الاجتماعي المتمثلة،في قطعة الأرض الصغيرة،الفلاح الذي يريد تدعيم الملكية،ووهم الملكية هي سر شقاءه،ولكن ما إن تبدأ،العلاقات الرأسمالية بغزو الريف،وتقوم البورجوازية،بسلب الأرض من الفلاحين،التي ملكتهم إياها بالأمس،حتى يعي الفلاح بأن حليفه الصادق ستكون البروليتاريا الصناعية.
وإذا لم يتجاوزالفلاح الصغير حس الملكية،سيكون رديفاً للقوى المضادة للثورة،ويمكن أن يمنح ثقته،لكل من يعده بحماية ملكيته الصغيرة،ضد القوى الاقتصادية التي تحاصرها ولذلك اعتبر ماركس،روسيا البلد المتخلف الزراعي الفلاحي،غير مؤهل لقيام ثورة ويعود ذلك،لعدم نضج الشروط الموضوعية والذاتية،كما أن القوى المنتجة،لم تصل للحد الذي يدفعها،الى اندلاع الثورة،وتوقع حدوثها،في بريطانيا،البلد الذي لم يعد فيه فلاحون، فضلاً عن تركز الملكية العقارية في عدد ضئيل من الأيدي وهو البلد الذي هيمن فيه الشكل الرأسمالي،على الإنتاج برمته، حيث يشكل فيه العمال المأجورين،غالبية السكان ووصل فيه الصراع الطبقي،والتنظيم النقابي للطبقة العاملة إلى أعلى درجة معينة من النضج والشمول الأمر الذي أدى إلى هيمنتهم على أسواق العالم.
لكن ماركس لم يكن متشدداً بمواقفه،وترك الباب مفتوحاً، بما يخص اندلاع الثورة في روسيا،معتبراً المشاعة الروسية،هي نقطة انطلاق التغيير الاجتماعي في روسيا وإنقاذها،سيكون مشروطاً،بقيام ثورة روسية.
وعلى هدى أفكار ماركس،وانطلاقاً من خصوصية التركيب الاقتصادي-الاجتماعي الروسي، قرأ لينين الماركسية قراءة روسية،وطوعها بما يناسب الخصوصية الروسية،سيما وأن الماركسية ليست نظرية مطلقة، ومخططاً إلزامياً لجميع المجتمعات الماركسية،وهي ليست سوى، تفسير لتكوين اقتصادي-اجتماعي محدد. لذلك،بدأ لينين بنقد أطروحات الشعبيين، أصحاب نظرية الاشتراكية الفلاحية واعتبرها بالغة الخطورة،لأنها تتوجه إلى الفلاحين، كطبقة متجانسة من دون إجراء أي تمايز،واذا كان الفلاح الروسي (والكلام للينين) فقيراً في وعيه السياسي والجهل السياسي سمة من سماته ،فإن نظرية الاشتراكية الفلاحية،ستساهم بإفقاره ويتذرع دعاة هذه النظرية،بأنها تريد إنقاذ الفلاح والمشاعة،وإنقاذ أرضه واستثمارها من جشع الرأسماليين،ولكن لا يعلمون بأن قطعة الأرض،هي سبب شقائه وبؤسه.لأن الرأسمالية والتي دخلتها روسيا حديثاً، ستثقل كاهله بالديون والفوائد، بسبب حيازته لقطعة الأرض هذه وانقاذ ملكيته، ليست إنقاذاً له،وإنما إنقاذًاً للقيود، التي تشد الفلاح إلى بؤسه،وإذ كلما غزت العلاقات الرأسمالية الريف،وحلت محل العلاقات الإقطاعية،كفت الطبقة الفلاحية،عن أن تكون واحدة،وانقسمت إلى بروليتاريا ريفية وبورجوازية ريفية،وحينها تصبح نزعة المغامرة الثورية،نزعة خطيرة فيما يتعلق بمنظور الثورة الاجتماعية في الريف،لأن هذه النزعة،لا تأخذ في حسابها تمايز وتناحر المصالح الطبقية،لتلك المروحة الاجتماعية الواسعة،المتمثلة فيما يسمى "الطبقة الفلاحية" ويمكن تميز ثلاث شرائح اجتماعية:
الفلاحون الأغنياء: الكولاك وهم يملكون الأرض،ويستأجرون عمل الغير ويكتنزون المال.
الفلاحون المتوسطون الذين يعيشون من عملهم،لا من عمل الغير ويقعون بين الأغنياء والفقراء.
الفلاحون الفقراء:الذين لا يملكون،وكلما وقعت مجاعة،وساءت المواسم،لحق الدمار بعشرات الألاف،من أصحاب الاستثمارات الصغيرة،وهؤلاء،سوف يبيعون ما تبقى لديهم،وسيهاجرون الى المدن،وسينضمون الى صفوف البروليتاريا الزراعية.
الفلاح الغير مالك وهو الذي يعتاش،من العمل المأجور،إنه توأم عامل المدن وحليفه في النضال ضد المالكين.
غني عن البيان القول،بأن المسألة الزراعية،هي محور الثورة الروسية،وهي التي أعطت الثورة طابعها القومي،وبهذا المعنى،كانت الثورة الروسية، ثورة فلاحية أكثر منها ثورة بلشفية،وكانت الأرياف،تمثل الجانب الأكبر، من إيرادات الضريبة الروسية،كما كانت الضرائب العالية،مع التعريفات الحمائية والاستثمارات الضخمة الوافدة،عنصراً جوهرياً،في مشروع تقوية روسيا القيصرية،عن طريق التحديث الاقتصادي،وحقق المزج بين رأس المال الخاص،ورأسمالية الدولة، نتائج مذهلة الأمرالذي أدى، إلى زيادة عدد البروليتاريا الصناعية،مع ما استتبع ذلك، من ولادة بواكير حركة عمالية،ملتزمة بالثورة الاجتماعية،وبالفعل فقد استثار النضال البروليتاري،أكثر من 50 مليون من الفلاحين، وفي خريف 1905 بلغت الحركة الفلاحية،أبعاداً أكثر من قبل،إذ كان العمال والفلاحون، يحصدهم الجوع والعمال يهيمون بلا عمل،وهم في معظم الأحيان،يفقدون كل شيء، ففي كل سنة، كانت تغلق بيوت عشرات ومئات الألوف من الفلاحين،والحرفيين ويسلمون حصصهم من الأرض للمشاعة مجاناً،ويغدون عمالاً زراعيين، ولم تتوقف الاضطرابات الفلاحية وتلاقت مع الحرة الاضرابية الجماهيرية في المدن،وسحقت انتفاضتهم هذه لأنها قامت بها جماهير، غير واعية، لا مطالب سياسية محددة لها ولم تهيأ وتحضر كما يجب وذلك لعدم كفاية الوعي الطبقي،والتنظيم الداخلي لطبقة البروليتاريا،وهذا ما جرى تدراكه ، عشية ثورة أكتوبر والفضل يعود، للقائد الثوري لينين، والذي اشتغل وبكل عبقرية ثورية،على العامل الذاتي وساهم بإنضاجه،مع أن القوى المنتجة لم تتطور إلى الحد الذي يدفع باتجاه الثورة ، ولم يكن هناك بورجوازية شبيهة ببورجوازية ثورة 1789 الفرنسية،التي ركزت قوى الإنتاج بين يديها وهذا التركز وحده،الذي يقدم الدليل،على أن الشروط الموضوعية للثورة قد نضجت،ولكن وبحسب ماركس،يمكن للعامل الذاتي أي "الأحزاب" والوعي أن يلعبا دوراً هاماً، ويعوضان عن نقض ونضج الشروط الموضوعية.
والأحزاب الثورية، تمكن العمال وعموم الكادحين،من تملك الوعي الثوري والوعي بشروط حياتها البائسة،وعندها فقط، سوف تعي رسالتها التاريخية،ويكون البؤس قد تحول الى وعي البؤس.
وعبقرية لينين،تكمن بقربه من الجماهير،ومعرفة ما تريده ، وكان تمرسه في الواقع السياسي، قد أنقذه من الجنوح نحو المثالية والحلول الشكلية،وأكثر ما كان يشغله هو كيفية إعطاء الطبقة، وعياً بذاتها،وبعينيتها،أي بمهامها وكان يدرك،بأن البؤس في الأرياف،لا يقل عنه في المدن،وكان الفلاح يجهل،من أين يتأتى هذا البؤس،وكيف يتخلص من هذا الفقر، وللإجابة على هذا التساؤل، ينبغي معرفة وضع الفلاحين الطبقي في الريف، إذ كلما اتسع التحالف بين العمال والفلاحين،وترسخ كلما أدرك الفلاح المتوسط، كل كذب الوعود البورجوازية،وتحالفوا مع العمال وتحولوا أي الفلاحين الى طبقة لذاتها،بعد أن وعوا شروط وجودهم وبؤسهم، وإذا لم يعمل على اجتذاب الفلاحين،فإن الرجعيين هم الذين سيتولون القيام بهذه المهمة، خاصة وأن تأليب الفلاحين على العمال والديمقراطيين،كان بمثابة سلاح،اعتمدته الأتوقراطيات الأوربية وحتى الروسية في مرحلة خلت، ولكن بعد الاضطرابات الفلاحية، قال لينين بأنه يمكن للفلاحين،أن يكونوا سنداً للعمال في المدن،لا عدواً لها، وعامل اليوم،هو فلاح الأمس،ويوجد ما أسماه لينين "العامل –الفلاح" أي العامل الذي يكون على استعداد،لأن يعود إلى مسقط رأسه، ليعمل في الأرض، كلما ضاقت به سبل العيش في المدينة.
والمسألة الفلاحية في روسيا،تختلف عنها في الغرب، فالفلاح في بلدان الغرب،هو فلاح المجتمع الرأسمالي البورجوازي،أما في روسيا، فهو وقبل كل شيء فلاح يشكو من المؤسسات والعلاقات الماقبل رأسمالية،ومن مخلفات القنانة،وفي الغرب انفصلت البروليتاريا عن الريف،وكرست انفصالها في مؤسسات حقوقية،ولذلك من واجب البروليتاريا في روسيا، أن تبقى على صلة وثيقة بالطبقة الفلاحية،وكانت هذه نقطة خلافية،ومثار جدل مع المناشفة ،الذين ركزوا، على رجعية الطبقة الفلاحية في الوقت الذي، ركز فيه البلاشفة،على الشروط التي تجعل من الفلاحين طبقة ثورية،واذا كانت بروليتاريا المدن، (والكلام للينين) هي القوة الرئيسية في الثورة الروسية، فإن مصير هذه الأخيرة، يتعلق بتطور الوعي الفلاحي،والطبقة الفلاحية بما تمثله من كتلة بشرية، سيكون لها الكلمة الأخيرة، ولا يمكن للبورجوازية، أن يكون لها أي دور ثوري،أو قيادي،لأن الرأسمال الروسي، لم يتطور على نسق تطور الرأسمال الأوربي، لقد ولد من الأساس احتكارياً وامبريالياً،بعكس الرأسمال الأوربي، والصناعة الروسية لم تكن نتيجة لتطور الصناعة اليدوية والورش الحرفية، بل كانت انتقالاً للصناعة الغربية التي بلغت مرحلتها الاحتكارية ووصلت إلى قلب روسيا، التي كانت ترزح تحت وطأة القنانة والإقطاع، واذا كانت الصناعة الروسية قد تحولت،من قبل الرأسمال المصرفي الأوربي،وكانت البنية الاحتكارية للصناعة الرأسمالية، تتناقض تناقضاً صارخاً مع مجمل البنية الاقتصادية-الاجتماعية لروسيا المتخلفة،وهذا يفسر تخاذل البورجوازية عن أداء مهمتها الديمقراطية في تحرير العلاقات الزراعية،من آثار الاقطاع والقنانة. ولقد خانت قضية الديمقراطية،وتأخرت عن أداء مهمتها الديمقراطية، في تحرير الفلاحين من ربقة مخلفات القنانة، وهذا ما يجعل تحالف العمال والفلاحين ضرورياً في الثورة الديمقراطية لماذا؟
لأن البورجوازية خانت الفلاحين،وستكتفي بإصلاح مزعوم وستقف إلى جانب الملاكيين العقاريين، وليس غير البروليتاريا، من يستطيع دعم الفلاحين مع أن الشرط الموضوعي، لا يسمح بتحرير الطبقة العاملة فوراً وكلياً، وليس أجهل الناس من يستطيع أن يتجاهل الطابع البورجوازي، للانقلاب الديمقراطي. وبحسب الرفيق لينين، لا يمكن الاعتماد على البورجوازية، لأن نضالها من أجل الحرية، سيكون فاتراً وتعوزه الحماسة، فثرواتهم ومكانتهم الاجتماعية، ومصالحهم الطبقية كلها مرتبطة بالنظام الاجتماعي القائم، وسوف يسعون الى تحقيق تسوية بطريقة أو بأخرى،ولكن لن يطيحوا بالنظام القيصري، كما أنهم لن يقفوا دون قمعه وإبادته لحركة الفلاحين، وهي لا تريد للثورة البورجوازية،أن تكنس بحزم وتصميم جميع مخلفات الماضي، لا تريدها أن تكون ديمقراطية منطقية،مع نفسها الى النهاية بل تريد أن تتم على نحو أبطأ متدرج متردد، وأن تحترم هذه التحولات بعض مؤسسات الإقطاع، وهي لا تريد الثورة، لأنها تحسب حساب المستقبل، أي حساب البروليتاريا التي لن تحجم بدورها، عن تحويل الأسلحة التي وضعتها الثورة نفسها، وهي الحرية والمؤسسات الديمقراطية والتي تكون قد أزهرت فوق مقبرة الإقطاع.
وهذا يحيلنا، إلى ذكر الأسباب، التي ساهمت بفشل الثورة الألمانية، والتي تتماثل ظروفها وبنيتها مع الثورة الروسية، لجهة ضعف البروليتاريا، مقارنة بالفلاحين الذين شكلوا قوة رجعية، تحالفت مع الجيش ضد الثورة، وتضافر على هزيمتها كل من البورجوازية والحركة العمالية القديمة،وكانت ايديولوجيا العالم القديم ما تزال تحتل خانات من وعيها، وكانت تحترم ملكية البورجوازية وحياتهم، إضافة إلى أنه لم يتم القضاء على العلاقات الماقبل رأسمالية، وبقايا الاقطاع وسلطات الكنيسة وكان الصراع الطبقي، يخطو خطواته الأولى، وباختصار لم يصبح ،الاغتراب الرأسمالي شاملاً، وزد على ذلك، أن الطبقة العاملة الألمانية كانت متأخرة في تطورها الاجتماعي-السياسي،عن الطبقة العاملة الفرنسية والانكليزية بمقدار تأخر البورجوازية الالمانية،عن بورجوازية فرنسا وانكلترا، فضلاً عن تحالفها مع الحزب الرجعي، وكان تأييدها للبيروقراطية الرجعية عبارة، عن مساومة رخيصة وخيانة صريحة لمبادىء الثورة الديمقراطية.
وخيانة البورجوازية الألمانية لقضية الثورة الديمقراطية، كانت متوقعة وإلى حد بعيد، فالبورجوازية بضعفها الاقتصادي، وظهورها المتأخر على المسرح السياسي هي بالتأكيد، بورجوازية عاجزة ،عن إنجاز المهام السياسية للثورة الديمقراطية وهذا ما يفسر تحالفها السياسي، مع الحزب الرجعي.وخيانة البورجوازية لقضية الديمقراطية، لا يعني شطب الثورة، من أعمال التاريخ، وإنما يعني بأن المهام السياسية لهذه الثورة، أصبحت مهام بروليتارية، وهذا ما اشتغل عليه لينين وكان المنظور اللينيني، ينطلق من منظور تنامي الطبقة العاملة، مع استمرار الفلاحين كقوة ثورية، وكانت البروليتاريا تتنامى بالفعل، لأن روسيا دخلت مرحلة التصنيع الواسع النطاق،وكان المهاجرون الشباب، الوافدين من الأرياف إلى المصانع في موسكو، يميلون إلى الراديكاليين البلاشفة لا الى المناشفة المعتدلين.
ولم يكن لينين، متغافلاً عن الشرط الأساسي، لتحالف العمال والفلاحين، وهي الحرية السياسية، وهو القائل بأن الجمهورية كانت أمراً واقعاً في فرنسا، ولم يكن يتهددها خطر جدي، وكانت تتوفر للطبقة العاملة الإمكانية التامة، لتطور التنظيم المستقل، أما في روسيا فالبروليتاريا الروسية، أمام مهمة الانقلاب البورجوازي الديمقراطي، وبدون هذا الانقلاب،يستحيل القضاء على بقايا الماضي أي بقايا القنانة والأتوقراطية ،التي تعيق تطور الرأسمالية، والتي سوف توفر للطبقة العاملة التنظيم الطبقي، والذي بدوره سوف يمهد للانقلاب الاشتراكي.ومن مصلحة الطبقة العاملة، أن تتم التحويلات في الاتجاه الديمقراطي البورجوازي، وبالوسائل الثورية. وكان ماركس على حق، حين قال: بأنه وفي مرحلة الثورة الديمقراطية، لا يقاتل البروليتاريون أعداءهم الحقيقيون، بل أعداء أعداءهم، أي بقايا الحكم المطلق، من ملاك عقاريين وبورجوازيين غير صناعيين، وبعد ذلك يمكن أن تحارب أعداءها الحقيقيين، وتصفية أعداء أعداءها ، هو الشرط الأول والمسبق لتصفية الحساب الثاني. وتحقيق الانقلاب الديمقراطي ،يرتكز على طبقة حرة من الفلاحين، وهذا يعني فيما يعني ،إلغاء الامتيازات الإقطاعية ،لأن العدو الرئيسي الذي تواجهه الثورة والطبقة العاملة، يتمثل في الحكومة الاتوقراطية المطلقة، المستندة الى قوة كبار الملاكين العقاريين. وتكون البورجوازية ثورية، عندما تقضي على الإقطاع والاوتوقراطية، وتكون ضد الثورة، عندما تتحالف مع الرجعيين ضد العمال لتقمعهم وتعرقل نموحركتهم.
لا ضير من القول، بأن ثورة أكتوبر، كانت ثورة بورجوازية ،لأن هدفها المباشر كان ديمقراطي بورجوازي، أي تحرير العلاقات الاجتماعية في روسيا، من مخلفات القنانة والإقطاع، وكانت ثورة لصالح الفلاحين، وعمالية في العاصمة وهؤلاء العمال، استولوا على السلطة وبرهنوا على أهمية تحالف العمال والفلاحين وضرورته، لإنجاز الثورة الاشتراكية ،في بلد لم تنضج فيه الشروط الاقتصادية الموضوعية للتحويل الاشتراكي.
ويحسب للينين، أنه وقف ضد المناشفة، الذين تبنوا رأي ماركس، بأن دور العمال في الثورة البورجوازية، ليس القيام فقط ،بدور المعارضة وانما الاستيلاء على السلطة، وبمساعدة الفلاحين، ولم يعتبر لينين، التحالف مع الفلاحين سوى الشرط الأساسي، لاستيلاء البروليتاريا على السلطة ،وفي بلد الأقلية العمالية والغلبة الفلاحية.
لقد انتصرت الثورة الروسية، بقواها الذاتية، في الوقت الذي سحقت فيه الثورة الألمانية ،وكان لزعماء الأممية الثانية من الاشتراكيين الديمقراطيين، اليد الطولى في هذه الفجيعة وجاءت هذه الخيانة، تأكيداً لنظرية لينين عن القشرة الإرستقراطية للطبقة العاملة.
لينين ، الذي فهم الثورة العالمية، فهماً تاريخياً عينياً، وبدالة تناقضات العصر الامبريالي، وكانت النظرية اللينينة، مجهوداً عبقرياً، لأقلمة الماركسية بنت الغرب الصناعي الأوربي المتطور، مع الشروط الخاصة بقطر زراعي ومتخلف.
ولئن كانت اللينينية ، قد خصت الطبقة الفلاحية، بنصيب أوفر من الاهتمام على عكس ماركس ،الذي جعل الطبقة الثورية حكراً على البروليتاريا، لأنها الوحيدة التي تعاني من شمولية الاضطهاد ،ولأنها الطبقة التي تخلق فضل القيمة، ولكن مع تحول البورجوازية الليبرالية ،إلى احتكارية امبريالية، لم تعد البروليتاريا المصدر الوحيد لفضل القيمة، وبرزت المستعمرات كمصدر إضافي، وأساسي لفضل القيمة وهذا ما منع حصول ثورة ،في بريطانيا وكما توقع ماركس، لأن جزء من فضل القيمة والتراكم الرأسمالي الضروري لتطور الصناعة، بات يأتي من الخارج وهذا انعكس ،بدوره على الوضع المادي والمعنوي للطبقة العاملة الانكليزية ،فمن جهة أولى ،لا تعود المصدر الوحيد ،ولا حتى الرئيسي لفضل القيمة، وتواجه من الجهة الثانية، وعلى صعيد الوعي الطبقي والحماسة الثورية، خطر تمييع حقيقي، كفيل بإرجاء الثورة الاجتماعية، إلى أجل غير مسمى، وبدوره قال انجلز: إن الطبقة العاملة الانجليزية، لن تسعيد ثوريتها إلا عندما يسقط الإحتكار الصناعي الانكليزي للسوق العالمية.
غير أن الوقائع أثبتت،بأن تفاؤل انجلس وماركس، بالمستقبل الثوري للطبقة العاملة الانكليزية، ليس بمكانه فالاستنتاجات التي استخلصاها،من تأثير الاحتكارات الرأسمالية،والأرباح الإمبريالية على ثورة البروليتاريا،ومشاركة الطبقة العاملة المتروبولية،في فتات أرباح المستعمرات ليست بالظاهرة العرضية.
ويبدو بأن ماركس وانجلز، لم يقدرا بأن الأمم الفلاحية، ستثبت بأنها أكثر ثورية في الانتقال نحو الاشتراكية، لأن العالم بات ينقسم إلى متروبولات ومستعمرات والطبقة الثورية، باتت تتجسد في فلاحي المستعمرات، وشعوب العالم الثالث، لأن العالم الكولونيالي، بات يشكل مركز العذابات الشاملة في عصر الإمبريالية،وفي هذا العصر، لا يعود في وسع أي ماركسي، أن يؤكد بأن البروليتاريا المتروبولية،هي عامل الثورة الوحيد، وكما أن استنتاجات الماركسية حول ثورية البروليتاريا تحتاج إلى مراجعة عامة ، وعلى ضوء تطورات الامبريالية العالمية، ولربما يكونا بوخارين وفرانز فانون، على حق عندما ربطا المسألة الفلاحية بالمسألة الكولونيالية والتي ليست في جوهرها، إلا تحالف عمال المراكز الرأسمالية مع فلاحي المستعمرات.
وساهم بدوره الريع الإمبريالي،أي علاقة الإرتباطالسيطرة بين رأسمالية عصر الإمبريالية،وأنظمة الإنتاج الفلاحي في التخوم، بزيادة الإفقار،الوثيق الصلة بمنطق التراكم الرأسمالي، الذي سرع التراكم الذاتي في المراكز،وأعاقه في التخوم.
ويمكن أن تكون الطبقات الشعبية في التخوم،(البروليتاريا والفلاحون)والتي تتعرض للاستغلال المزدوج، بسبب عدم اكتمال الهياكل الرأسمالية، حليفاً للطبقات المستغلة في الأنظمة الرأسمالية في المراكز،لأن فائض القيمة،سوف يتم تقاسمه بين رأس المال المالي الإحتكاري والبورجوازيات التابعة،وسوف ينتج عن خضوع كل مجتمعات الدنيا،لمنطق الربح،عدد كبير من العاطلين عن العمل، والمفقرين والمهمشين المبعدين،في التخوم. وفي المراكز ظنت الطبقات الحاكمة،أنها تستطيع أن تتجاهل،ولفترة طويلة،قوة التمرد لدى ضحايا سياساتها المباشرين،وأن خطر نقد النظام،لن يمتد إلى الطبقات الشعبية، وإلى فئات واسعة من الطبقات الوسطى،ويبقى أن ضحايا هذا المشروع، في الأطراف، يحتسبون بصورة مختلفة وأنهم يعدون بمئات الملايين من فقراء الضواحي،ومئات ملايين الفلاحين المحكومين بالانضمام،إلى العمال بسبب السياسات الليبرالية إزاء الزراعة،إذ لم يعد لدى الرأسمالية،التي بلغت شيخوختها، ما تقدمه للأكثرية من سكان القارات الثلاث الذين يمثلون بدورهم، أكثرية ساحقة من سكان الأرض، ورأسمالية اليوم تحكم على مليارات الكائنات البشرية، بأن تكون لا شيء، ولا شك في أن طاقة التمرد التي يحملها هؤلاء الضحايا،هي طاقة هائلة وصدقت نبوءة سمير أمين، حين اعتبر بأن الرأسمالية، تحضر كوكبة من أحزمة الفقر، وأن إفقار الطبقات الشعبية،مرتبط بالتطورات التي تحدث لمجتمعات الفلاحين، في العالم الثالث، وقد يعزز خضوع هذه المجتمعات ، لمتطلبات توسع الأسواق الرأسمالية، أشكالاً من الاستقطاب الاجتماعي،وسوف يفضي، إلى استبعاد عدد كبير من الفلاحين ، وهؤلاء الفلاحون الفقراء المحرومين من الأرض،سوف يهاجرون نحو المدن والعشوائيات وهذا ليس بمستبعد ،عن قانون التراكم ، وتاريخه الذي بدأ بعملية نهب الفلاحين الفقراء، وخلق فائض من السكان، لا يستطيع التصنيع المحلي استيعابهم بالكامل.
يتعرض الإنتاج الزراعي في الوقت الحاضر، لهجوم معولم من رأس المال الاحتكاري في إطار الاستراتيجية المسماة بانفتاح أسواق الجنوب والتطور الأكثر مأساوية يتمثل بإدخال الفلاحين في المجالات التي تسير وفقاً لمبادىء النيوليبرالية الأمر الذي أدى إلى نمو خطير في القطاع الغير رسمي وانتشار العشوائيات خاصة وأن الجماهير التي تسكن أكواخ القصدير،هي جماهير فلاحية جردت من أملاكها ونزحت إلى المدن حيث امتهنت أعمالاً هامشية، وحسب الإحصاءات، يشكل الاقتصاد الغير رسمي في أمريكا اللاتينية وعلى سبيل المثال ، أكثر من نصف قوة العمل ويشكل هؤلاء بروليتاريا غير رسمية،وإذا صار وثاروا ضد أوضاعهم المريعة، فلا شك أن المنظومة الرأسمالية العالمية ،ستهتز من جذورها لأن رسملة الزراعة ، خلقت فائضاً من الفلاحين الذين طردوا من الأرياف،ودون أن توفر لهم فرص عمل وهذا يعني بقاء نصف البشر من دون عمل، وهي نسبة أهل الريف إلى مجموع السكان.
لقد خلقت الرأسمالية ،مشكلة زراعية جديدة وضخمة في التخوم، تعجز عن حلها اللهم إلا إذا أفنت ، نصف البشرية عن طريق الإبادة الجماعية.
غني عن البيان القول، بأن الاستعمار شوه حركة تطور بلداننا، وسد أفق تطور القوى المنتجة،عندما أجهض إمكانية تطورها في أفق رأسمالي مستقل ، ومنع أي صناعة منتجة في هذه البلدان، ومخطىء من تحدث عن إنهاء الاستعمار من بلادنا لأنه كان موجوداً وإن بشكل غير مباشر،من خلال ما سماه "مهدي عامل" العلاقة الكولونيالية ولن يتحطم هذا الإطار الكولونيالي،والذي سيحرر بدوره القوى المنتجة، إلا من خلال صراع طبقي طويل الأمد، كما تجسد في الانتفاضات الشعبية ، حين ثارت الشعوب ولا سيما في الأرياف ،ضد طغم مالية ريعية ، صادرت الأراضي الزراعية من الفلاحين ، كي تستثمر رساميلها في القطاع العقاري ، وساهمت سياسات اللبرلة والخصخصة ورفع الدعم، بإفقار الشرائح الدنيا وصغار المنتجين والحرفيين الذين تضرروا من انفتاح الأسواق، وتم لجم أي استثمار في القطاع الإنتاجي ووجد الفلاح نفسه محاصراً ، وشعر بصعوبة في الحصول على وسائل الإنتاج وتراجعت الظروف المعاشية للأغلبية ، والتي هاجرت الى المدن والتحقت بالاقتصاد الهامشي والعمل الرخيص ،ونتج عن هذا التوسع ،كوكبة من العشوائيات وأحزمة الفقر ولولا الطابع الريعي للسلطات، كان يمكن استيعاب هذه الفئات المهمشة ،في مجالات حرفية كثيفة العمالة ، وبرهنت هذه التحولات ،على صحة نبوءة المؤرخ إريك هوبسباوم الذي اعتبر بأن الثورات ،سوف تختمر وتنضج وتندلع في الأرياف ، لأن الثورة الزراعية، جعلت ملايين الفلاحين فائضين عن الحاجة.
وفي الأونة الأخيرة، تعرضت فئات واسعة من أبناء الطبقة الوسطى، لعملية البلترة ودخل المدرسون وموظفو القطاع العام والعاملون في البنوك إلى صفوف الطبقة العاملة ،وصاروا يشكلون ، إحدى أهم الفئات الأكثر كفاحية، ويتوقع الاقتصاديون انهياراً جديداً، قد يصيب العملات والحكومات، الأمر الذي سوف يهدد النظام المالي العالمي، وسوف يؤدي إلى انخفاض مستويات المعيشة، وزيادة إفقار الغالبية وإلى احتدام الصراع الطبقي.
المراجع:
تاريخ الثورة الفرنسية البير سوبول
تاريخ الثورة الألمانية العفيف الأخضر
الاستراتيجية الطبقية للثورةجورج طرابيشي
عصر الثورةاريك هوبسباوم
لينينالاعمال الكاملة المجلد الثاني
اشتراكية القرنسمير أمين
لينين والثورة الروسية



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن