لمحة حول العقائدي

حمودي عبد محسن
hamudi59@hotmail.com

2018 / 8 / 4

الحلقة الأولى:
العقائدي شخصية عصامية متجذرة في عقيدة صقلته على معايير وتقاليد ومثل وأعراف معينة، وهو لا يرى في تكونه الروحي سوى أنه الأفضل والأحسن والمتفوق دون الآخر لأن الآخر لا يلاءمه ويتناسب مع تطلعاته الدنيوية أو الروحية، فعقيدته لا تقبل الشك، ولا فيها ريب، وقلبه لا يطمأن إلا فيها يقينيا سواء كان ذلك سلبا أو إيجابا، وهو يعتز بها، ويكمن فخره بها، فهي أشبه ببلورة ناصعة البياض بالنسبة له، ويسمى هذا بالجمود العقائدي والتحجر الفكري حيث لم يعد العقائدي يطيق التغير والتطور اللذان يتناسبان مع الحداثة والتجدد، فهو قد وضع غشاءا أسودا على عينيه، فلم يعد يرى سوى عقيدته التي هي الأصح، ولم يتقبل المخالفة أو العقلانية المتنورة أو الحقيقة المنطقية المناقضة لجموده، وهذا ولد عند ولادة المجتمع الذكوري الأبوي، وتواصل مع الزمن كما نعرف من خلال الرؤية التحليلية عبر المصادر المتوفرة لنا، خاصة بظهور مجتمعات العبيد، ففلاسفة الإغريق قد عانوا من العقيدة الجامدة، وحاولوا التحرر من بعض قيودها، وخير مثال على معاناة سقراط حيث جدب بآلهة الإغريق، وتهكم وسخر منها، فكان مصيره الموت بالسم الذي اختاره لنفسه بالرغم من أن طلابه حاولوا تهريبه إلا أنه رفض ذلك محتجا أنه يدعو للالتزام بتنفيذ القانون، فلا يستطيع أن يناقض نفسه، ويهرب من حكم الموت حتى ولو كان الحكم جائرا ظالما. هذا وكان الحاكم تيرياس المستبد احد طلابه كما كان أفلاطون أيضا أحد تلامذته، فشتان بين مستبد دموي كتيرياس وبين فيلسوف عظيم كأفلاطون المشهور بالحوارات الفلسفية.
هذا، وقد ساد العقل المشوه، وترسخ سياسيا واجتماعيا ما قبل القرون الوسطى مهما كانت بعض أفكار الفلاسفة ذات أفكار نقية تفسر الوجود، وعلاقة الفرد بالذات الربوبية، وحقيقتها، وصفات الرب، وقدرته، وكذلك ساد جدل أزلية الوجود وما وراء الطبيعة، وعلاقة كل ذلك بالفرد الإنساني لاسيما ظهرت فلسفة أخلاقية كالبوذية والتاوية والكنفوشية. حينئذ كانت الأديان الإبراهيمية الثلاثة تجتاح الشرق برؤية جديدة للإله الواحد، فاليهودية أرست الربا، وأرست حكم الصدوقيين والفريسيين كطبقة غنية ارستقراطية جشعة تتمثل بمناصبها المريبة الكهنوتية والسياسية التي تأتمر بقرارات الرومان، فضاق بهم المجتمع اليهودي الفقير، ليظهر شاب اشتراكي ثائر ضد الظلم، ويدعو إلى حكم العدل بين المرأة والرجل، وهو أول شخص في التاريخ حاول إنقاذ المرأة من عبودية المجتمع الذكوري. هذا وقد اتخذ الإمبراطور الروماني قسطنطين المسيحية كمنهج لحكمه بعد أن عانى اليهود والمسيحيون العذاب والموت على أيد سابقيه، فهنا تحولت المسيحية كأيديولوجية للحكم الذي أدخلها في حيز آخر، فحدثت هيمنة الكنيسة، وحدثت الانقسامات التي أدخلت أوربا في حروب دامية راح ضحيتها الملايين كحرب الوردة الحمراء والبيضاء التي وردت في إحدى مسرحيات شكسبير التي استمرت عشرة سنوات، وكذلك حرب الثلاثين عاما التي اجتاحت أوربا ومزقتها حيث كانت الطغمة الحاكمة بدعم الكنيسة تزج الملايين من الشعوب، لتحارب وتموت باسم السيد المسيح، واشتهر قساوسة تلك الفترة المظلمة ببيع صكوك الغفران التي جلبت واردات ضخمة، لتذهب إلى جيوب رجال الكنيسة تاركين الفقراء في حلمهم وصلاتهم، لدخول الجنة الموعودة. نعم، تلك الحروب كان يطلق عليها حروب الأباطرة الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت، فكانت المجازر المرعبة التي حدث آنذاك راح ضحيتها الأبرياء، فمجزرة باريس عام 1572 ضد البروتستانتية بأمر من الملك شارل السابع تقشعر لها الأبدان، فقد دقت النواقيس في الليل لينادي القساوسة في كل مكان بإبادة كل بروتستانتي، فحمل الجنود أسلحتهم، وحمل أهل باريس أسلحتهم البيضاء، واقتحموا البيوت، وقتلوا الرجال والنساء والأطفال بأسلوب لا رأفة فيه ولا رحمة فيه، فكانوا يسحلونهم في الشوارع موتى أو مدميين بجروحهم، ويستقبلون موتهم ببشاعة. تلك كانت مذبحة همجية اقترفت باسم السيد المسيح. هذا وإن البابا في روما قد فرح فرحا شديدا لهذه المذبحة وباركها باسم الرب برسالة وجهها إلى الملك شارل السابع.
وحين ظهور الإسلام أعاد بلورة المجتمع العربي آنذاك في تكوين جديد حيث ألغيت الوثنية، وألغي الوأد، وقضى على الكثير من العادات البالية، وتوحد العرب بكلمة القرآن الكريم بعد أن كانوا متنازعين يغزو بعضهم بعضا. هذا ولم يلبث أن تحول الدين من إسلام قرآني إلى إسلام الحديث في عهد الخلافة الأموية والعباسية، ليرسي حكم الأباطرة الاستبدادي، وتحوله إلى وراثة عائلية ـ عشائرية أي أب يورث أبنه خلافا لمفهوم الشورى سواء كان ذلك في الخلافة الأموية أو العباسية مما أضاع جذوة التاريخ وأسهم بظهور أكثر من سبعين فرقة ثم تحول بعضها إلى مذاهب اعتقاديه لها رؤيتها الخاصة تخالف بعضها بعضا، فكان التمرد، وكانت الانتفاضة والثورة والحرب بين الأخوة، وكان الكل يهتف باسم الله أكبر بالرغم من ظهور حركة فكرية تجديدية. كانت تتناسب مع التطور والتوسع وهي حركة المعتزلة إلا أنها فشلت، وتعرض أصحابها إلى التنكيل والبطش وحرق كتب علمائهم، فانتهى الأمر بالسلطة الاستبدادي إلى الضعف والتحلل والتفكك والفتن والنزاعات المتواصلة سيما وقد تعرض العلماء إلى تهم الزندقة والكفر والإلحاد، ودفع الكثير إزاء فكرهم المتنور إلى التشرد والجوع والمطاردة، ومورس القتل البشع ضدهم، خاصة أولئك الذين كانوا يدعون في نظريتهم إلزام خروج المؤمن على الحاكم المستبد الجائر الظالم. أجل، لم ينج من الاستبداد العلماء نتيجة رؤيتهم الفلسفية التي لم يتم استيعابها في عهد الحكم الأموي والعباسي، وكمثال على هذا الاستبداد ما تعرض له السهروردي الذي حكم عليه بالموت، وخيروه بطريقة الموت، فاختار الجوع في سجنه بينما سقراط في زمانه اختار السم في سجنه.
نلاحظ من خلال ما تقدم أن العقائدي الدوغمة كانت نظرته متعالية تجاه الآخر سواء انطلقت من الواقع أو اللاواقع، لتكون ميزة نتاج وتكوين ثقافي في السلوك والممارسة عبر تراكم تاريخي وكمي منفصلا عن التطور والتجدد خاصة وأنه لا يرى إلا انتماءه لعقيدته، وينبذ كل شيء خارجها، فقد مسخ نفسه في عقيدته، ليكون مؤمنا وفيا مواليا لها، ومختلفا متناقضا متصارعا مع العقائد الباقية سواء اقتربت منه أو ابتعدت عنه، فهو مقاتل على الدوام، ومتصارع على الدوام، ، وهو لا ينتمي إلا إلى فئته التي سخر لها أناه العليا في مركز محوري فكري يشد إليه وجوده الذي هو مداره الأول والأخير، وهذه الإشكالية العقائدية بل ومأزقنا الإنساني الذي ما زلنا نعاني منه كما كان في فرسان الهيكل، وكما اليوم في داعش.
لذلك سيبقى العقائدي مقيدا بأغلال عقيدته كعبد دون أن يشعر بعبوديته. هذا، فالعقيدة كبلته بمفاهيم دنيوية وروحية لا يحس بوجوده إلا من خلالها، فالعقيدة هي الأيمان بفكر سواء كان ذلك ايدولوجية شمولية أو منغلقة دينيا أو فلسفيا، أثنيا أم عرقيا، قومية أم أممية، لتمسخ صاحبها في منهج ثقافي اجتماعي تتحول بمرور الزمن والتلقين في أداء ممارسة وسلوك، لتصبح عادة وتقليد خاصة، وقد اختلطت العقيدة بالدين والسياسة والأيديولوجية، وامتزجت بالاقتصاد ـ الاجتماعي للفرد.
وهنا لابد الإشارة إلى التلقين الذي هو بحد ذاته الإعداد من أجل التضحية بالنفس لعقيدته التي ارتبط بها ثقافيا بفعل تغيرات بيئية ذهنية ومؤثرات خارجية روحيا وماديا، لتكون أخلاق وسلوك في نسق منهجي متواصل، فهو يخضع لمؤثرات حسية مدركة تصهره عقليا، وهو يتلقاها في العادة والتقليد أو المدرسة المنهجية، فتظهر خصائصها في التضحية كرمز دنيوي أو أخروي، فالعقائدي يرى نفسه أنه الأفضل بين الناس، وهذا ما يقوده إلى نمط تفكير واحد محدد سواء في الكره أو الحب، وهذا هو بالذات النمط الفكري المعقد الذي يطلق عليه الانسلاخ من ذاته أي ينسلخ العقائدي من كل المكونات، ليفرض نفسه وفرديته كنتاج سلوك مهما كانت جذورها ونظمها وواقعيتها ونظرته هو للآخرين، فهنا يحدث القطع والتباعد مع المعتقدات الأخرى ثم التنافر والتخاصم والعداء، والتاريخ الحديث يرينا ذلك سواء كانت سابقا أو حاضرا. هذا، وأن العديد من الأيديولوجيات تسعى إلى إنشاء الدولة العقائدية سواء كانت شمولية أو قومية أو دينية التي بعضها اندثرت بفعل المتغيرات التاريخية أو الحروب كالنازية الألمانية التي أنتجت هتلر المؤمن بالتفوق الآري، وكما العقائدية الفاشية التي أنتجت موسوليني، وكما العقائدية اليابانية المهتدية بالسومراي وقدسية الإمبراطور أنتجت الدكتاتورية العسكرية أما في النقيض الآخر من ذلك وهو الماوية الصينية التي تركت في تاريخها أبشع وسيلة لتصفية المعارضين بتلك الثورة الثقافية، وكذلك العقائدية السوفيتية التي أِنشأت ستالين، فالتلقين الفردي والاجتماعي حافزان أساسيان لتثبيت العقيدة منهجيا كي يصبح العقائدي على استعداد تام للتضحية في سبيل عقيدته التي آمن بها. هذا وسيكون لنا حديث خاص عن العقائدية الصهيونية ـ الامبريالية.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن