مباحث في الاستخبارات (128) علم الجهل Agnotology

بشير الوندي
basheer_alwendy@yahoo.com

2018 / 8 / 1

مدخل
-------------
قد يستغرب البعض من وجود علم اسمه علم التجهيل او علم صناعة الجهل , وقد يراه متناقضاً في ذاته فكيف بعلم ومعرفة مهمتها نشر الجهل ؟ّ!! , ولكن مايبدو تناقضاً هو في حقيقته ليس كذلك , فهذا العلم يركز على تخريب المنظومة الفكرية للافراد والمجتمعات من اجل تمرير اهداف معينة من خلال اساليب عدة منها التخويف ومنها التضليل بالارباك ومنها التشكيك ومنها ترسيخ معتقدات زائفة او الالتفاف على معتقدات وتفريغها من محتواها واغراقها بالخرافة وغير ذلك من الاساليب .
ومن هنا جاء اهتمام الدوائر الاستخبارية والدوائر الدعائية الحكومية والشركات الكبرى , في اهمية امتلاك ناصية هذا العلم والالمام بأدواته وخباياه.
--------------------------------------
علم من اجل الجهل
--------------------------------------
يُعرِّف الباحث روبيرت بروكتور علم الجهل" Agnotolgy بأنه "العلم الذي يدّرس صناعة ونشر الجهل بطرق علمية رصينة"! , والجهل هنا ليس انعدام المعرفة فقط وانما هو مُنتَج مشوّه مشوب بالزيادة او بالبتر والنقصان ويحوي على معلومات مفبركة الغرض منها تدمير الوعي من خلال عمليات تلاعب ذهنية .
وبالرغم من قدم ممارسة التجهيل من قبل الانظمة الاستعمارية والحكومات , الا ان الشكل العلمي قد تم على يد خبراء التسويق في الشركات التي تنتج منتجات اثبتت الدراسات العلمية مضارها البالغة على صحة الانسان كشركة كوكا كولا وشركات التبغ .
فحين تمت محاصرة منتجاتهم والتثقيف عليها علمياً واثبات ضررها , قامت تلك الشركات بضخ الاموال الى مراكز بحثية لاصدار دراسات مزيفة ذات صبغة علمية لإثبات العكس , فشركات التبغ والسكاير تبنت دراسات تشكك بالعلاقة بين السكاير والاصابة بالسرطان , كما فعلت شركة كوكا كولا الامر ذاته للتشكيك بالعلاقة بين السمنة ومشروبها .
الا ان الامر لم يعد متوقفاً على الشركات والكارتلات , فقد تلقفت الحكومات والدول الاستعمارية ودوائر الاستخبارات الامر وطورته ليصبح علماً يساعدها في تكبيل الشعوب وتسهيل انقيادها .
وقاد علم صناعة الجهل الى البحث عن افضل الطرق لتوزيع هذا الجهل بين أطياف المجتمعات ، فانبثقت الحاجة لماعاد يُعرف بشركات العلاقات العامة التي يعتبرها نعوم تشومسكي الابن الشرعي للحكومة الأمريكية , فكان لها تطبيقاتها البارزة في تضليل الرأي العام الأمريكي والزج به في الحروب وفي غزو العراق لاحقاً.
وتشكلت مؤسساتٍ تابعة لحكومات الكثير من الدولٍ الُعظْمَى تخصصت في هندسة التجهيل وصناعته وتسويقه بعد ان تتم سلفنته بأغلفة مثيرة ومن ثم تسويقه على نطاقٍ واسع على فئات المجتمعات في العالم لاسيما الاقليات الاجتماعية والدينية والبسطاء , بالاضافة الى المتدينين من ذوي التأثير على اتباعهم وعلى سواهم من المغفلين.
------------------------------------------
الاستخبارات وعلم التجهيل
------------------------------------------
كان استخدام الجهل منذ القدم , اي منذ صكوك الغفران التي كانت تضمن الجنّة لصاحبها والتي صاحبتها صكوك غفران كثيرة ومنوعة في كافة الاديان والمذاهب .
وقد اعتبر القادة والزعماء والحكومات تجهيل الشعوب الطريق الافضل لإنقيادها , ولكن الاستخبارات اصبحت تعتبره سلاحاً مؤثراً واضافة معرفية كبيرة في احد اهم تخصصاتها في الحرب النفسية والاشاعة ودراسة التضاريس البشرية للمجتمعات المستهدفة , سواء كان استخدام هذا العلم على شعبها في الداخل او على شعوب الدول العدوة والمستهدفة والمراد استعمارها .
وتذهب اجهزة الاستخبارات لدراسة معتقدات الشعوب وموروثاتها وطقوسها ومعتقداتها , وتضع خطوط بيانية لفهم المجتمع المستهدف وخصوصياته بشكل دقيق لتحديد نقاط الضعف التي يمكن النفاذ منها لترسيخ افكار ما كمسلّمات وتحطيم مسلّمات اخرى والتلاعب بالعقل الجمعي لتحقيق اغراض محددة (راجع مبحث 25 الحرب النفسية , مبحث 43 الاستخبارات وعلم النفس, مبحث 67 المعلومات الموجهة , مبحث 88 الاعلام والاستخبارات , مبحث 89 صناعة الرأي العام , مبحث 90 التضاريس البشرية , مبحث 96 الخداع والتضليل , مبحث 107 السحر والشعوذة.
-----------------------
آلية التجهيل
-----------------------
تعمل آلية التجهيل المجتمعي على اساس أن الانسان يمتلك ثلاث آليات عقلية مترابطة أولها الإدراك عبر الحواس والاطلاع ليستوعبها الانسان ويترجمها الى مادة معرفية خام , ثم ليقوم العقل بتحليلها وفق متراكماته الثقافية المخزونة سابقاً , واخيراً ليترجمها ويحيلها من معرفة خام الى معرفة ذات دلالة تشكل وعيه وحكمه على الاشياء .وهنا يأتي صناعة الجهل في شل التفكير السليم وعدم القدرة على تحكيم المنطق في القياس والتحليل ، ثم لتتحول تلك الاراء غير المنطقية إلى بديهيات صلبة لايمكن مجادلتها لتصبح من المكونات الثقافية للمجتمع مع استمرار وديمومة إفقار التفكير والبحث والنقد ، وتكون المسألة اخطر واكبر حين ترتبط بقناعات دينية تتحول إلى ثقافة مقدسة تحمل قوة دفع ذاتي لانهاية لقسوته وتحجره.
-----------------------
طرق التجهيل
-----------------------
تعتمد صناعة الجهل على طريقين اساسيين هما :
1- سياسة التخويف :
تعتمد سياسة التخويف على خلق عدو او خطر ما وتضخيمه في اعين المجتمع وجعله هاجساً وكابوساً ذو ديمومة بحيث يتم تسيير المجتمع في اتجاه محدد على طريقة أمّا ..أو , فمرة تستخدم الحكومة واجهزة مخابراتها الارهاب كشماعة للخوف ومرة تخيفك من دولة او تخيفك من انتشار مذهب ما ...وهكذا , ويمكن عن طريق التخويف تمرير الكثير من الصفقات على الشعوب وتسييرها الى الحروب وهي تهتف بحب الوطن وتتوعد الاعداء بالموت دون ان تدري ان الاهداف من وراء ذلك قد تكون اهداف دنيئة .
2- التشكيك المفضي للحيرة :
ان إثارة الشكوك هو ثاني طرق التجهيل ففيها يتم استهداف مسلّمات العقل وادخاله في دوامة من الحيرة ، فيتم اطلاق معلومات مضادة للمسلّمات والتشكيك بها مما يولد وفرة من المعلومات المتضاربة التي تصعّب اتخاذ القرار المناسب ، فيدخل الفرد والمجتمع في دوّامة من الضبابية والحيرة والتيه والجهل حول ما يجري مما يزيد العبء الذهني عليه ويثير عنده الملل فينزع للقبول بمسلمات جديدة لتحل محل قناعاته السابقة الراسخة ليتخلص من تلك الحيرة .
ولتحقيق العاملين السابقين يجري اعتماد اعلام مضلل يسعى لاثارة الشك والرعب وبتر المعلومات وتسييلها وتشويهها ودراسة الأفعال المقصودة والمتعمدة لإشاعة الحيرة والشك والخداع ونشر الجدل لاستنزاف طاقة المجتمع.
ولاشك من ان الميديا ومنصات التواصل الاجتماعي قد سهلت كثيراً من مهمة صناعة الجهل , فظهرت الجيوش الالكترونية التي ساهمت في تشويه القناعات , كما كان لانتشار الصورة تأثيراتها الجسيمة التي لطالما اظهرت نموراً من ورق يلبسون الزي العسكري ويلتقطون الصور في جبهات القتال وينشرونها من مقارهم المكيفة وكأنهم هم من يديرون المعارك الضارية .
كما ان ما جاء من حركات منحرفة في العراق كجند السماء وابن الله وسفير الله هي من مصاديق صناعة التجهيل .
------------
خلاصة
------------
صناعة الجهل من الصناعات التي تستهدف شعوبنا بالذات منذ التوجه الاستعماري لمنطقة الشرق الاوسط . وهي صناعة لاخضاع شعوبنا , ومن هنا فان الالمام باسرار هذا العلم مهمة للغاية في بلادنا باعتبارها مطمع لكثير من الدول عربياً واقليمياً ودولياً .
كما ان الهشاشة المجتمعية في العراق والتنوع الاثني والمذهبي والقومي تجعل بلدنا في وضع مثالي لاستهدافه بصناعة الجهل وهو امر له الكثير من الدلالات والاسقاطات والعلامات والامثلة الحية. فلابد هنا من الاهتمام بالوعي التام بمخاطر هذا العلم ومراقبة نتاجاته وتفاعلاته وصدها بالوعي والتلاحم , والله الموفق



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن