علاقة الجيش بالسياسة في الجزائر(2) -تطور هذه العلاقة منذ1962 إلى اليوم-

رابح لونيسي
lounici.rabah2008@yahoo.fr

2018 / 7 / 28

علاقة الجيش بالسياسة في الجزائر(2)
- تطورهذه العلاقة منذ1962 إلى اليوم-


البروفسور رابح لونيسي
- جامعة وهران-


يجمع المتتبعون والمؤرخون أن جيش ما وراء الحدود بقيادة هواري بومدين هو الذي أوصل بن بلة إلى الرئاسة في 1962، والذي يعد إنقلابا على المؤسسات الشرعية للثورة، وعلى رأسها الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية المنبثقة عن المجلس الوطني للثورة، وبعد ما أنقلب بومدين على بن بلة في 1965 قال عبارة شهيرة للصحفي المصري لطفي الخولي "أن الدبابة التي وضعته في الحكم هي التي أخذته منه"، وقد توطد الحكم العسكري أكثر في عهد بومدين، وتحول السياسيون إلى مجرد موظفين لدى العسكريين، ولعل الإستقرار الذي عرفته الجزائر في هذه الفترة، يعود أساسا إلى أن بومدين جمع بين السلطتين العسكرية والسياسية وركزهما في يده، وقد وضحنا بالتفصيل في كتابنا "الجزائر في دوامة الصراع بين العسكريين والسياسيين" مظاهر وأدلة إختفاء الصراع بين الطرفين، فبومدين كان يجسد السلطتين العسكرية والسياسية، خاصة وأن بومدين قد جمد جهاز جبهة التحرير الوطني كليا، وحوله إلى مجرد جهاز يحشد الدعم، ويقوم بالدعاية ويقدم التبريرات لسياساته، ليعطي لها الشرعية، فقد عبر المؤرخ محمد حربي أحسن تعبير عن ذلك، عندما قال "إن بومدين قد حول الحزب إلى باخرة راسية لا يجب لها أن تتحرك كما لا يجب عليها أن تغرق"، وتفاقم في هذه الفترة ضعف السياسيين مقارنة بالعسكريين، مما كان له تأثير كبير على كفاءة الممارسة السياسية، وترسخت في السياسي ذهنية إنتظار إشارة العسكري، مما أثر سلبا فيما بعد على العمل السياسي كله في الجزائر، وهذه الذهنية لازالت سائدة إلى حد اليوم لدى الكثير من السياسيين سواء في السلطة أو في المعارضة، والذين لم يتخلصوا من هذه الذهنية لعدم قدرتهم على القراءة السليمة للتطورات الكبيرة التي حصلت داخل المؤسسة العسكرية وتركيبتها البشرية، خاصة في السنوات الأخيرة، فبقي هؤلاء السياسيين يتحسسون موقف المؤسسة العسكرية من أي قضية لينساقوا وراءها، كما نجد اليوم البعض من السياسيين قد أدركوا مدى القوة والصلاحيات الواسعة جدا التي أكتسبتها مؤسسة الرئاسة بقيادة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في السنوات الأخيرة مقارنة بالمؤسسات الأخرى، ومنها المؤسسة العسكرية، فأصبح هؤلاء السياسيين يتحسسون موقف الرئيس أكثر للإنسياق وراءه، ونشير إلى أن كلا الصنفين من هؤلاء السياسيين تحركهم الإنتهازية والوصولية.
عندما توفي الرئيس هواري بومدين عام 1978، تدخل الجيش في تعيين الرئيس الشاذلي بن جديد وإبعاد كل من محمد الصالح يحياوي وعبدالعزيز بوتفليقة المرشحين القويين لخلافة الرئيس بومدين، وقد لعب المقدم قاصدي مرباح المسؤول الأول على جهاز الأمن العسكري، أي جهاز المخابرات، الدور الرئيسي في هذا التعيين، لكن في نفس الوقت تزايدت قوة حزب جبهة التحرير الوطني بعد مؤتمرها الرابع، أين كان من المفروض أن يكون هو صاحب القرار في تعيين الرئيس، لكن أمام قوة نفوذ الجيش، تحول هذا الحزب الوحيد في البلاد إلى مجرد مزكي لمن عينه الجيش، لكن رغم ذلك أصبح الحزب قويا، لتعرف الجزائر في بداية الثمانينيات من القرن الماضي صراعا خفيا بين مؤسستي الجيش والحزب الذي كان على رأسه الرجل القوي محمد الصالح يحياوي، وانتهى هذا الصراع بإنقضاض الجيش مرة أخرى على الحزب الذي أراد أن يستقل ويصبح له دور في صناعة القرار، فتم إحداث تغيير في قانونه الأساسي بمناورة من العسكريين، أين تم تخويل الأمين العام للحزب، وهو في نفس الوقت رئيس الجمهورية والقائد الأعلى للقوات المسلحة صلاحيات واسعة، إن لم نقل السلطة المطلقة على الحزب، وبذلك عاد الجيش للتحكم من جديد في جهاز الحزب بواسطة الرئيس بن جديد الذي عينه الجيش .

يبدو لنا في الظاهر أثناء فترة حكم الرئيس الشاذلي بن جديد، بأن هذا الأخير كان يتحكم فعلا في المؤسسة العسكرية في الثمانينيات، بل يمكن للبعض القول إن بن جديد أبعد الجيش على الأقل ظاهريا عن التأثير الكبير في صناعة القرار آنذاك، ولم يعد الجيش إلى الساحة وبقوة إلا أثناء الأزمة التي دخلت فيها الجزائر بعد أحداث أكتوبر 1988، وكان هذا التدخل يتزايد كلما اشتدت الأزمة العامة في البلاد، ليبلغ أوجه في نهاية عام 1991، وذلك بعد فوز الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الدور الأول من الإنتخابات التشريعية التي جرت يوم 26 ديسمبر1991، فكان للجيش دورا رئيسيا في إيقاف المسار الإنتخابي، والمجيء بمحمد بوضياف إلى سدة الحكم، فأصبحت قيادة المؤسسة العسكرية هي التي تصنع الحكام إلى درجة أن صرح رئيس الحكومة بلعيد عبدالسلام علانية بذلك في إحدى خطبه، وكان ذلك في لحظة غضب على بعض اللوبيات الإقتصادية والإعلامية التي دخل في صراع معها وتطالبه بالإستقالة، فقال بصريح العبارة في أن الجيش هو الذي أتى به، وأنه باق، إلا إذا أراد الجيش غير ذلك، فكان هذا الإعتراف أحد أسباب إقالته فيما بعد .
نعتقد أن تدخل الجيش في هذه الفترة، يعود إلى الظروف الصعبة التي كانت تعيشها الجزائر، وللدور الكبير الذي أنيط بالجيش في محاربة الإرهاب والحفاظ على كيان الدولة، ويبدو لنا أن الأمر طبيعي في ظروف كهذه، وهو نفس الأمر الذي يمكن أن يقع لأي دولة مهما كانت قوتها، فمثلا ألم يكن للجيش الفرنسي الكلمة الأخيرة أثناء حربه في الجزائر مابين 1954 و1962؟، أفلم يأت الجيش الفرنسي بديغول إلى الحكم عام 1958؟، وأصبح يتدخل في كل صغيرة وكبيرة، ويعرقل سياسات ديغول عندما أراد أن يخرج عن طوعهم وتنفيذ المهمة التي كلفوه بها، لكن ولحسن حظ فرنسا، أن ديغول كان ذكيا ومناورا، فاستطاع أن يعيد الجيش إلى الثكنات، ليتكفل فقط بوظيفته العسكرية المنوطة به.
ولايمكن لأي ملاحظ موضوعي بالنسبة لحالة الجزائر أن ينفي أنه بمجرد إنخفاض وتيرة الإرهاب في الجزائر منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي، لم يعد الجيش يتدخل بشكل كبير في الشؤون السياسية، رغم مبالغة البعض في الحديث عن هذا التدخل، بل بدأ الجيش في الشروع في الإحترافية والإبتعاد قدر الإمكان عن السياسة، لأنه اكتوى بنار التسعينيات التي دفع فيها ثمنا باهظا في عدة مجالات، بداية من الأرواح والإشتغال بمكافحة الإرهاب، بدل تطوير قدراته القتالية على خوض الحروب الكلاسيكية، فأصبح الجيش اليوم يتدارك التأثيرات السلبية لهذه السنوات الحمراء، ولايمكن لنا فهم وقراءة ردود نائب وزير الدفاع وقائد الأركان العامة قايد صالح الأخيرة على مقري وغيره وكل مطالب من الجيش بالتدخل إلا في هذا الإطار الذي وضحناه الآن.
يتبين لنا مما سبق أنه كان للمؤسسة العسكرية في الجزائر تأثير كبير في الحقل السياسي في العقدين الأولين من عمر الدولة، ثم تراجع هذا التأثير نسبيا، ليعود بقوة أثناء فترة التسعينيات لأسباب خاصة أشرنا إليها سابقا، ليبدأ في العودة من جديد إلى مهامه الأصلية أو الدستورية، بل الدخول في الإحترافية وترك السياسة للسياسيين، ونعتقد انه بدلا من التركيز على دور الجيش فإنه يجب الإنتباه إلى قوة أوليغارشيا مالية بدأت تستولي على دواليب الدولة شيئا فشيئا، ووصلت إلى حد إقالة الوزير الأول محمد تبون، وهي المسؤولة عن قوانين الميزانية المجحفة في حق البسطاء من الشعب، ولانستبعد أن يلجأ هؤلاء البسطاء إلى المؤسسة العسكرية لإنقاذهم من براثن هذه الأوليغارشيا المالية المتطفلة والمرتبطة مصالحها بقوى رأسمالية خارجية، ومنها باريس، فلأصحاب المال اليوم التأثير الأكبر في صناعة سياسة البلاد، ولانستبعد أن تصبح القوة المالية في الجزائر هي القوة الرئيسية في صناعة الرؤساء في المستقبل، أما المؤسسة العسكرية فلم يبق لها إلا دورها الطبيعي بصفتها مؤسسة من مؤسسات الدولة، وكلما قويت المؤسسات السياسية عادت المؤسسة العسكرية إلى طبيعتها ، ويحدث العكس في حالة ضعف هذه المؤسسات .
بعد تطرقنا إلى كل هذه المراحل التي مرت بها المؤسسة العسكرية في الحقل السياسي، يجب علينا الآن أن نفسر، لماذا كان لها دور كبير في العقود الأولى من عمر الدولة ؟، ولماذا توكل إليها دائما مهمة إنقاذ الدولة والحفاظ عليها؟ .
وما دمنا قد سبق لنا أن ربطنا ذلك بالظروف التاريخية لنشأة الدولة، فما علينا إلا العودة إلى دور الجيش في هذه النشأة وعلاقته بالسياسيين، وبعبارة أخرى العودة إلى الجذور التاريخية لتفسير ظاهرة دور المؤسسة العسكرية في الحقل السياسي وصناعة القرار السياسي الجزائري .

يتبع

المقالة الثالثة: الجذور التاريخية لعلاقة الجيش بالسياسة


البروفسور رابح لونيسي



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن