نفهم الحياة من ذكرياتنا وإنطباعاتنا البدئية العفوية

سامى لبيب

2018 / 7 / 27

نحو فهم الإنسان والحياة والوجود (83) .

هى مشاهد متفرقة من دفتر حياتي لا أسردها من باب تميزها وروعتها بل كمنحى لتقديم أفكار عن ماهية الإنسان ونفسيته وفكره , أي أسلوب جديد لنقد حالات فكرية سائدة لنبتعد عن صرامة الفكر الفلسفي المنطقي وإن لم تبتعد عنهما تماماً , لتتعامل مع الافكار ببكارتها وعفويتها ,ولأعتبر تميز هذه الذكريات في أنها إمتلكت القدرة على التأمل والغوص فى أعماقها حتى ولو جاء هذا في مرحلة لاحقة من النضوج الفكرى .
ذكرياتنا تمثل معنى وقيمة وماهية الحياة كما أتصور , فالإنسان يعيش على رصيد من الذكريات والمعارف بغض النظر عن دسامتها أو ندرتها , جمالها أو قبحها ,عمقها أو بساطتها ,فهى تمثل فى النهاية معنى وقيمة الحياة ,فبدون الذكريات لا وجود للحياة.
ذكرياتنا البدئية لها جمالها وروعتها الخاصة كون مشاهدها عفوية تخلو من الخوف والمحظورات والتابوهات والمحرمات التي لم تعرف طريقها بعد .. أي أننا أمام عقل حر يعبر عن مكنوناته بلا خجل ولا خوف ولا مراوغات في تفاعله مع المواقف والأحلام , لنحظى من هذه التجربة علي ثراء إنساني يكون شخصيتنا متى حافظنا على هذه النقاوة .
أنا أدعو جميع قراء مقالاتي الأعزاء أن يستعيدوا ذكرياتهم الجميلة ليتوقفوا أمامها بعيون حكمة وخبرة السنين , فبلاشك سيخرجوا بنتائج ومفاهيم رائعة كونهم عاشوا ذكريات صادقة بعقول وقلوب بريئة لا تعرف المراوغة والتدليس بالرغم أنها لن تخلو من الإستسلام وعدم التوقف حينها بحكم الحداثة والبراءة , ولكن حين إسترجاع تلك الذكريات الآن فسنكتشف براءة الفكر والإحساس وعظمة عقل متحرر من القيود , لأقول ربما عقولنا فى مرحلة الطفولة والصبا أصدق حالا من عقولنا الآن فهى عقول لم يصل إليها النمطية و التابوهات والخوف .
سردت فى مقالين سابقين بعض من ذكرياتى وهنا أستكمل بعض الذكريات الأخرى وأتوسم لاحقا الإيفاء بذكريات جديدة .

- أنا وحفيدي .
هذه الذكرى أحدث ذكرى فلم يمر عليها سوى أربعة شهور .. أكبر متعة أحظى عليها هى مداعبتى ولهوى مع حفيدي فمعه أحس بجمال الحياة .. فى يوم إصطحبته لحديقة للهو والإنطلاق والأرجوحات وعمره حينها الثلاث سنوات والنصف ,لأريد أن أشاكسه وأشقيه فخطر في ذهني أن أختبأ بعيداً عنه وراء حائط مبنى صغير فلا يلحظني , لأجده يقف مستغرباً خائفاً مالبث أن إنخرط فى البكاء والعويل لأهرول نحوه وأقول : أنا أهو , ليهرول نحوي محتضناً ساقي لينتابه الإرتياح والضحك ويضربنى بيده الصغيرة كعتاب أننى تركته وحيداً .
إرتبط هذا المشهد في عقلي بمنشأ فكرة الإيمان بالله , فهكذا نؤمن بالإله كأب يحمينا من الإغتراب والخوف والمجهول , فهو الأب الخفي الذي يتكأ عليه الإنسان في العالم عندما يعتريه الخوف والإغتراب وعدم الأمان ليجد من ينجيه ويحميه ويستره .. مازال مشهد إنفعالات حفيدي باقية حتى الآن لتجد حضورها فى الإيمان بالإله الحامي .. ومازال الإيمان بالإله يتكأ على طفولية الإنسان .

- أنا وحلقات الذكر .
فى سن السادسة عشر كانت لى تجربة صوفية فى حلقات الذكر ,فكان هذا المشهد يشدني وأتحسس فيه بمصداقية خاصة من إناس بسطاء بالتأكيد لا يمارسون الدجل , وهذا ما حثنى أن أحضر إحدى حلقات الذكر وأبدى رغبتى فى الإنخراط بحلقة ذكر مما أثار إستغراب زملائى المسلمين والمسيحيين على السواء كونى من خلفية مسيحية ولى ميول لادينية تستخف بالخرافة والغيبيات , ولكنه وجد ترحيب من زملائى المسلمين لعل هذا يدعونى للدخول فى الاسلام بالرغم أنهم ينظرون لحلقات الذكر كفلكلور ودروشة عبثية ليس لها معنى .!
بالرغم من هذا الفهم إلا أننى أحسست بمصداقية ما , فليس من المعقول أن يكون هؤلاء البسطاء المنحدرين من أصول فلاحية وعمالية يمثلون ويدجلون , لإنخرط فيها وأمارس نفس الأداء فى الذكر بالترنح يميناً ويساراً وترديد كلمة الله ومع التكرار المستمر الذي يماثل بندول الساعة فقدت الإحساس بجسدي ! وياله من إحساس رائع لا أستطيع وصفه وتوصيفه .
حللت هذا المشهد بعد ذلك لأجد ان حلقات الذكر شبيه باليوجا من حيث فقدان الإحساس بالجسد مع الإختلاف فى الأداء حيث الإعتناء بالتكرار الرتيب المنظم المتكرر ليفقد الانسان قدرته على الوعى بالجسد ليدخل فى حالة تشبه التخدير .
جربت هذا النمط من حلقات الذكر فى غرفتى لأمارس حركة بندولية مطابقة مع ترديد مقولة "فنكوش" لأحظى على نفس الشعور , ومن هنا أدركت أن الإنسان هو الذى يصنع حالته الشعورية والنفسية متى كان واعياً لذلك مدركاً لحالة دماغه أما غير ذلك فلترتع الخرافة والقداسة .

- أنا وأمى والأيقونة .
لا أستطيع أن أنسى عيون أمى .. فعيونها كانت جميلة , لم يكن جمالها فى رسمها ولونها بالرغم أنها كانت كذلك ولكن جمالها فى أنها عيون متدفقة بكل الأحاسيس والمعانى .. عيون تخبرنى بما تريد قوله .. عيون ترسل الحب والحنان والألم في صمت .. أحببت عيون أمي فمنها جاء حبي للحياة وكل ما فيها لأصيغ مفاهيمي ومشاعري وأحاسيسي من خلال عيونها .
العيون لا تكون مجال للرؤية فحسب بل هى لتصدير وتوريد المشاعر , فبها ومنها تنطلق أحاسيسنا معبرة عما في داخلنا بدون كلمات كثيرة وأحاديث مملة .. علمتني عيون أمي التحدق فى عيون الأخرين والإحساس بهم عندما أريد الإبحار فى داخلهم .
أتذكر الطفولة الأولى وكيف تسرب المقدس إلى عقلى .. أتذكر أول مرة أمد يدي لتقبيل أيقونة للعذراء .. أول مرة أقبل صورة برهبة وخشوع حين وقفت أمي أمام الأيقونة تشعل شمعتها وتصلى .. لمحت عيونها الجميلة مليئة بالحزن والألم التي لم تصمد كثيرا لتدمع .. وضعت يدي الصغيرة عليها لأحنو عليها وأسألها عن بكاءها .. لم تخبئ الأمر وقالت : جدتك مريضة جداً وتشرف على الموت .. أنا أصلى لكي تشفع العذراء لرب المجد أن يشفيها وينجيها من الموت .. وجدتنى أطبطب عليها وأمد يدي لألمس الصورة وأقبلها .. من هنا جاء حبنا للمقدس ولكل الأعتاب والصوامع والجوامع والحسينيات .
لقد فهمت فيما بعد ما هو المقدس بدون كلمات وشرح وتأويلات .. لأن الكلمات مهما صيغت ببلاغة فلن تسعف المقدس ولن تقدر على تمريره .. فمن خلال المشاعر والأحاسيس التي تتدفق في داخلنا ومن خلال أحبائنا تمر أصعب الأمور وأكثر الأمور خيالاً وعدم موضوعية .. لا يكون الإيمان إلا هكذا .. مشاعر صغيرة تتسلل في داخلنا عبر مواقف بسيطة ولكن تم إرسالها عبر عيون وهمسات من نحبهم .. كل من يقول بأنه مؤمن بقناعة عقلية هو موهوم .. فالإيمان بداية لا يستطيع أن يتكأ على عقل لأن العقل لن يسعفه , المشاعر فقط تسعفه .
قد يحاول البعض أن يبحث فى تلاليف الدماغ عن شئ يبرر إيمانه ويجعله متماسكاً , ولكن يظل السبب الأول ليس له علاقة بأي عقل وأي منطق , وهذا يفسر لماذا هناك من يتشبثون بالإيمان في عشرات الملل والمعتقدات ..لأن عيون أمي غير عيون أمك غير عيون كل الأمهات .
من إشعاع المشاعر والأحاسيس المنطلقة من عيون أمي وكل الأمهات تستطيع أن تفسر لماذا نحب ونؤمن ونعتقد لتتخلق "العاطفة والهوية والإنتماء "..لماذا خرافاتى جميلة وخرافات الآخرين خاطئة .. نحن نتمسك بخيالات وأوهام لا يوجد ما يسعفها ويثبتها غير عيون أم وإحتواء أب .

- أنا والحشيش .
كانت تجربتى الأولى مع سيجارة حشيش فى السنه الأولى الثانوي لأكتشف عالم رائع مع الحشيش , حيث هدوء الأعصاب وإنطلاق وجموح الفكر والخيال , ليطرأ على ذهنى أشياء فى منتهى العمق والجمال لدرجة أننى فى مرات بعدها حرصت على إصطحاب ورق وقلم لأدون ما يدور في ذهني أثناء التحشيش لأكتشف تأملات في منتهى العمق تخوض فى النفس البشرية والطبيعة والحياة والجمال.
لم أكن أعتنى بالحرص على جلسة تحشيش مع الأصدقاء تبحث عن الضحك والسخرية الشديدة , بالرغم أن الحشيش يوفر هذا ويخلق جو ممتع من المرح والضحك لتهب صاحبها قدرة رائعة على السخرية الطريفة الغير المُتهجمة ولا الجارحة بحكم ان الحشيش جبان أى يمنح الجبن لصاحبه أو قل بالأحرى يجعله وديع عكس شرب الخمور .. المهم أننى أستمتعت بحالة من الإبداع الفكرى والفنى فى ظل حالة تحشيش ليتفتق ذهنى عن تأملات عميقة فى الحياة والإنسان مع وفرة من الصور الفنتازية .
لست بصدد الترويج للحشيش فقد ودعته نهائياً بعد مرحلتى الجامعية ليكون سردى لهذا المشهد داعياً لطرح فكرة لا أرغب منها التحقير بل أضعها موضع الإحتمالية لأقول : لما لا يكون أصحاب النبوة والقداسة مارسوا التحشيش ليخلقوا عالم فنتازى من الخيال والغيبيات كما تأجج الخيال فى ذهنى عندما كنت أحشش ,
تأثير الحشيش على الدماغ واضح ومؤثر وهو نبات ليس من إنتاج العصر الحديث بالطبع , وقد ذكر لنا التاريخ طائفة الحشاشين مثلا , فهل يمكن أن يكون أصحاب النبوة والقداسة من مدخنى الحشيش بغض التظر عن إدراكهم لتأثير الحشيش أم لا , ليعيشوا أجواء وخيالات الدخان الأزرق .. هذه رؤية ليست جازمة ولكنها أفضل حالا من توصيف الأنبياء بالفصام والصرع .

- أنا والنمل .
أتذكر مشهد طريف فى طفولتي فقد كان ببيتنا حديقة صغيرة بها مجموعة من شتلات الأزهار المتنوعة , ليحرص أبى على زراعتها ورعايتها علاوة على شجرة نخيل وبطارية صغيرة لتربية الأرانب .
كنت ألهو أنا وأخى فى هذه الحديقة لنطارد جحور النمل بها , ونمارس عليها ساديتنا وتوحشنا لنتفنن فى إيذائها فلا نكتفي بإغراق الجحور بكوب ماء , بل تفنن أخى فى أساليب جهنمية ما بين ملأ الجحر بأعواد الكبريت وتغطيته بأوراق الجرائد ثم إشعاله وفى ذات مرة أحضر ما يعرف بالبمب وأحاطه بالجحر ثم أشعل النار ليعطى فرقعات قوية تنتهي بحريق صغير ..كنت أحسد أخي على ذكاءه وإجرامه وأتمنى أن أحذو حذوه في هذا الخيال الجهنمى والذى يبدو أنه إستقاه من الأفلام الأمريكية حينها .
يبدو أن الغيرة قتلتني عندما كنت أجد نفسي تابعاً لإبداعات أخى ولست مبادراً بها لأمارس فعل إستهجان بعدها لما يفعله أخى وأجد دماغى يقودنى إلى التفكير فى النمل وأقول : هل سيعاقبنا الرب على ما فعلناه مع النمل بإبادتها بهذه الطريقة لأجد سبيلي عند الكاهن معترفاً له بهذه الخطيئة ليبتسم إبتسامة عريضة دون أن يعقب .
أرجع منزلي وأفكر فى أمر النمل الذي دمرناه تدميراً , وأقول أليس هذا خلقة ربنا يعنى هو خلقها كما خلقنا وخلق كل الكائنات الحية , فهل الإعتداء عليها بقتلها هو التعدى على حقوق ومنتجات الرب ؟.. بالطبع لم أتعاطف مع النمل ولم تكن إنسانيتى مُلتهبة نتيجة أننى مارست إيذاءها , فقد أتعاطف حقيقة مع كلبي , ولكن فكرتى كانت أنها من خلق الله شأنها شأن كل الكائنات الأخرى فلماذا لا يكون فعلنا بقتلها خطيئة ؟ ولماذا لا أحس بالقسوة كما أحسها عندما أرى أحد يجر كلب بحبل من رقبته ؟.

- أتذكر مشهد آخر كان له وقع فى نفسي ليلقى بظلاله داخلى حتى الآن , فكما ذكرت أن حديقة المنزل إحتوت على بطارية أرانب لتتكون علاقة عاطفية مع تلك الأرانب الجميلة الوديعة , لأشهد فى ذات يوم أمي تسحب أرنبين من أذنيهما وتتوجه للمطبخ حيث شاركتها خالتى فى ذبحهما ثم سلخهما لأستاء من هذا المشهد ويستبد بي الإمتعاض والقرف , فأرفض من يومها تناول لحوم الأرانب , لأتخذ هذا الموقف حتى الآن بألا أتناول الأرانب بالرغم من مرور عشرات السنين .

- أنا ومعلمتى وفلسفة الخلق ,
عندما دخلت المدرسة أجد المعلمة تصف لنا الله وخلقه , فتذكر أن الله خلق كل الحيوانات والطيور للإنسان فمنها يأكل ويتدفئ بفروتها ويصنع حذاءه وشنطته فلا يوجد كائن إلا ونستفيد منه فكلها من أجلنا ,, لأجد سؤال يلح علىّ عن فائدة الذباب والصراصير تلك الكائنات المُقرفة التى تلوث غذائنا وتصيبنا بالأمراض , لترتبك المعلمة وتطرح السؤال على الفصل لعل أحد يعطيها إجابة تسعف بها نفسها ولتعد بمكافأة للفائز , لأجد اننى طرحت سؤالاً محرجاً قد يؤثر على علاقتي مع معلمتي لأفكر ملياً في محاولة إيجاد إجابة متقمصاً فكراً مراوغاً , لتلمع فى ذهنى إجابة لأعلن لمعلمتي عن توصلي لها فتسمح لى , فأقول ان الله خلق الذباب حتى يقف على الطعام فيلوثه فنصاب بالمرض والحمى فندعوه أن يشفينا فيشفينا فنقول الحمد والشكر لك يارب , لتطلب معلمتى التصفيق لى على إجابتى العبقرية .!
أحس بعدها أننى كنت محتالاً نصاباً فى إجابتي تلك ولكنها لم تبعد عن جوهر الفكر الدينى البائس الذي يروج لفكرة الإبتلاء كإختبار , هكذا الإنسان بارع فى خلق المناورات والتحايل عندما يتشرنق داخل الفكرة ويحاول أن يسعفها بأي طريقة .

- مازالت هذه المشاهد الصغيرة تطرح أسئلتها لأجد الآن إجابات لها تتحرر من قيود الفكرة المرتبكة , فنحن لا نحس بالجُرم أو القسوة عندما نقتل ونذبح الحيوانات والطيور ونبيد الحشرات بالرغم أن الله هو من خلقها بل يحثنا على ذبحها لنستفيد منها ولكن يلفت الإنتباه أنه لا يحلل أكل الحيوانات إلا مذبوحة من الوريد للوريد وليس بأي طريقة أخري فلا يجد المؤمنين سبباً لذلك سوى أن تناول الدم حرام .
أفهم بعد مدة سبب حرمانية الدم والتي جاءت من إعتقاد الإنسان القديم بأن الروح تسرى فى الدم بناء على ملاحظته أن الدم المسفوك يؤدى إلى الموت , لذا يكون ذبح الحيوان وتصفية دمه ضمان بعدم وجود روحه لتصبح وسيلة القصاص هو الذبح من الوريد للوريد , فهل مشهد الذبح البشع يكتفي بهذا الإعتقاد ليصبح هكذا تعاملنا مع الحياة أم قد يعترى الأمر رغبات عميقة بممارسة القسوة والعنف والإبتهاج برؤية الدماء .. أعتقد ان هذا المشهد أيضاً ترجم رغبة الإنسان فى ممارسة العنف والسادية ليتجلى بمشهد الدم , وللأسف مازلنا نمارسه ونحتفى به .

- تهافت إله أم أوهامنا النرجسية .
بدايات هذه الخربشة الجنينية في الثانية العشر من العمر عندما شاهدت برنامج في التليفزيون المصري عن الكون وعالم الفضاء لتتكاثف معرفتي بالكون من خلال ولعي بقراءة معلومات عنه ولتتولد خواطر وتأملات جديرة بالإعتناء .
كنت أحدق فى السماء ملياً ناظراً للنجوم التى ترصع السماء وأسترجع كلام معلمتى التى قالت بأن كل نجم من هذه النجوم تعادل شمسنا أو أكبر وأنها تبدو صغيرة لبعدها عنا كثيراً , فكانت حيرتي تزداد من هذا الوجود الهائل وليأتي هذا البرنامج بصوره ومعلوماته السلسلة لتطلق تأملات عديدة ولتفجر بركان من علامات الإستفهام المصحوب بالإندهاش لتهوى بشدة على جدران الإيمان التي كانت تهتز بشدة من رعاية الرب للقصص الوحشية الهمجية لشعب الله المختار بالكتاب المقدس .
محتوى البرنامج الذي تم تقديمه حينها عن حجم الكون الهائل وكيف أنه يحوى مئات المليارات من المجرات ومئات المليارات مثلها من النجوم التى تعادل كل منها حجم شمسنا وأكبر , ولأعلم أن الشمس تعادل مليون مرة حجم الأرض وأن النجوم اللامعة فى السماء هى نجوم إنفجرت وانهارت ليكون تعقيب أمى الطيبة على هذا المشهد العبثى "سبحان الله " .!
دماغي إنطلق فى تأملات عميقة قادتنى إلى اللادينية سريعاً ومازالت تلك التأملات تشكل حجر زاوية للشك لأقول : ما هذا الإله الذي خلق كل هذا الكون الهائل ليهتم بالقاطنين على سطح حبة رمل في صحراء مملكته الشاسعة , كيف لإله بهذه العظمة والمُلك والقدرة يدس أنفه فى حياتنا ليراقب هذا الذى يكذب على أبوه وذاك الذي يتلصص على جارته الحسناء .. ماهذا الإله العظيم الذى يهمل النجوم التى تنهار ليعتنى بوضع قشرة موز فى طريقي .. كيف إله بهذا المُلك والعظمة يعتنى بإرسال رسل ليلبى رغباتهم العاطفية والتوسعية .. ما قيمة هذه الأرض التافهة ليرسل إبنه ليصلب فداء عن خطية العالم .. لماذا أخفق الرب في خلق حياة في كل الكواكب الخربة .!
تتوالد وتتناسل أسئلة كيف وكيف ولماذا لأخلص لنتيجة , إما أن هذا الإله تافه أو عبيط كحال رئيس أمريكا الذي يشرف على شئون أمريكا والعالم لينصرف عن ذلك ويستهويه مراقبة جحر نمل فى حديقة البيت الأبيض فهل الإله هكذا أم يمكن القول أننا نعيش نرجسية هائلة خلقت هذا الوهم .!
أقول وأنا فى هذه اللحظة أننى مازلت أثمن هذا التأمل وأجده قوياً حاضراً يخرج لسانه لبلاهتنا وسذاجتنا ونرجسيتنا المنفوخة , فلا أحتاج للإبحار في عالم الفكر والفلسفة لتبيان إستحالة وجود إله , فالمشهد يقول بأن وجود إله عظيم يعتنى بالأرض والإنسان بهذا الشكل الفنتازى هو وهم غبي ,فإذا كان هذا الإله موجوداً فهو تافه , وللتقليل من قسوة هذا الكلام فلو كان موجوداً فهو غير عابئ ولا مُهتم بإيمانك به والتدخل في شئونك , لذا وجدت نفسي حينها أنحت فكرة الإله بمنظور الألوهييين بالرغم أننى لن أقرأ حرفا عن فكر الألوهيين والربوبيين .

- أنا والساحر .
كان هذا فى السنه الأولى من المرحلة الإبتدائية عندما إستقدمت مدرستنا ساحراً ليقدم عرضه للأطفال , وبالفعل قدم هذا الساحر عروض مبهرة نالت دهشة وإعجاب وتقدير الأطفال فقد كان يخفى أشياء ثم يستحضرها ببراعة فائقة ليحظى على إعجاب وتصفيق شديد دام تأثيره لعدة أيام ولدرجة أن أحد زملائي إنحنى يقبل يده وهو يغادرنا .!
ظل مشهد الساحر يطاردنى دوماً ليقتلنى الفضول لمعرفة كيف يفعل ذلك لتكون الإجابات إما ساذجة مُفرطة في سذاجتها بأنه ساحر كسحرة فرعون أو هناك حيل يمارسها بمهارة وخفة فلا نفطن إليها .. فى مرحلة النضوج الفكري فهمت شيئا مد ظلاله إلى سؤال لماذا يؤمن الإنسان بإله .. لأكتشف الإجابة التي يرددها عتاة المفكرين الماديين بأن الإنسان يَعبد الإله من جهله وليبدد الفجوات المعرفية والعجز كحال الساحر , فنحن لا نعرف كيف يؤدى ألعابه السحرية ليحظى على إعجاب وتقدير شديد , كذا نحن لدينا ألغاز وغموض شديد في الحياة فتكون الإجابة السهلة لقد فعلها الساحر المدعو الله .. نحن عبيد لما نجهله .

- جراح قلب وسطوة مال .
هى قصة مشاعر مذبوحة تم ذبحها بقسوة على مذبح مجتمع برجوازى لا يقيم وزنا للإنسان ومشاعره .. كنت فى العشرين من العمر وهى كانت فى الثامنة عشر .. كان الحب يجمعنا ليخلق فى داخلنا درجة عالية من الشفافية والجمال .. لم أكن أحبها فحسب بل كنت أعيش فيها .. تسرى فى عروقى وشرايينى وكل وجدانى , لأصل حينها إلى إدمانها وإحساس غريب أننى لم أأتى لهذه الدنيا إلا لكي أحبها .
هى كانت متدفقة فى حبها وحنانها .. تعطينى إحساس هائل بمدى جمال المرأة عندما تحب .. فى بعض الأحيان لم نكن نتكلم بقدر ما كانت عيوننا تحكى قصص كثيرة .
لم يكن لهذا الحب أن يستمر طويلا وسط مجتمع قاسى لا يحفل بمثل هكذا مشاعر .. تمر سنة على مشاعرنا الجميلة لتنكشف قصة حبنا على الملأ .. ولتشكل مصيبة لها ومحاكمات قاسية من والدها وأخوتها , ولم أستثنى من هذا الأمر فقد مارس والدي كل القسوة فى التأنيب والتوبيخ كأنني مارست عملاً إجرامياً .
بدأ أبى حفلة توبيخه وكأنه وجد الفرصة لإفراغ كل طاقات غضبه نحوى لميولى اللادينية وفكرى الماركسى .. ليصرخ ويقول : ماذا تظن نفسك ؟ أنت شاب لسه فى المراحل الأولى من حياته الجامعية وأصرف عليك لتتعلم وأنت رايح تحب بنات الناس ..عايز أعرف بتحب ليه .. وتملك إيه علشان تحب .. هل تعرف تأكل نفسك .. أنت دائم المشاكل ودائم الجنوح نحو أفكار غريبة .. لماذا لا تكون مثل أخيك ماشى فى حاله ومهتم بدراسته .
تدخل خالى محاولاً أن يخفف من الذبح المُمارس تجاه كرامتى وإنسانيتى .. يا إبنى أنت مازلت صغير وغدا سيكون المستقبل لك وحينها سيكون عندك القدرة أن تحب وتتزوج .. أنا أعترف أن الفتاة جميلة ولكن لن تكون لك .. ومثل هكذا جميلات ستجد أن أهلها سيزوجوها فى أقل من سنة وستقول :خالى قاللى .
إستغرقت فى التفكير حول مقولة أبى : ماذا تملك لكي تحب ؟ ..عندما تملك المال إبقى حب .. لم تتركنى هذه المقولة هكذا ..لقد فتحت عيونى على بشاعة المجتمع البرجوازى والتى كنت أقرأ عنه كثيراً .. لقد خرجت الفلسفة من الصالون ومن حيز التفكير النظري والفوقي لتمس واقعي وتمر بأصبعها على جرحى .
مجتمع لا يحترم ولا يقدر مشاعر بدون المال .. مجتمع لا يحترم إنسانية الإنسان .. مجتمع لا يحفل بمشاعر وأحاسيس جميلة بل يُجرمها ويَدوسها بأقدامه الثقيلة ..مجتمع لا ينظر إلى المرأة سوى كوعاء للجنس لا يعتليه إلا من يدفع ويقدر الثمن ..لا يوجد وزن لحب أو مشاعر .. هناك تقدير فقط كم تدفع من الدنانير والإبل لتشترى الحب والجنس .. وفى الحقيقة تشترى الجنس .
إذا كنت تملك المال فلك أن تمارس إنسانيتك وتستأثر بمن تريد .. لك أن تعتليها , أما إذا كنت مفلساً فحتى المشاعر والأحلام والحب العذرى المُحلق فى السماء فليس لك فيه , فأنت تافه وتعتدى بمشاعرك تلك على من سيدفع ويشترى مستقبلاً .
إذا كنت قد آلمنى جراح قلبى فإن حبيبتى قد أصابها تلال من الألم .. لقد ذبحوا مشاعرها وصوروها كأنها عاهرة ستجلب لهم العار , فالسيد المشترى لابد أن يحظى بفتاة بسوليفانها سواء عذرية الرحم أو عذرية المشاعر .
مع القهر الهائل التى تناله الفتاة الشرقية تستسلم وتنبطح للقهر .. وفى مرحلة متقدمة تتعاطاه وتستعذبه ليصل إلى تلافيف دماغها أنها أنثى وأن هناك طابور من الذكور الذين يريدون إعتلائها ولن نسمح لأى إنسان كل ما يملكه فى الحياة هو المشاعر فى أن يقترب .. سنسمح لمن يقدر على أن يدفع ويقدر بالذهب والفضة .
مشاعر وقيمة الإنسان تذبح على مذبح البرجوازية .. لا معنى للمشاعر بدون مال .. أنت إنسان تافه لا يجب أن تحب طالما أنت مُفلس ..الأغنياء فقط يحبون ويمرحون .

دمتم بخير.
لو بطلنا نحلم نموت .. طب ليه مانحلمش .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن