كلمات من دفتر الاحوال... (17)

كاظم الموسوي
Kmousawi@gmail.com

2018 / 7 / 7

في اول حفل للتعارف بين الطلبة الجدد والقدامى وأسرة التدريس ومنظومة العمل في الاكاديمية، وهو تقليد سنوي متعارف عليه للتواصل والتعارف والتقييم للأعمال السابقة واللاحقة وفهم الأجواء الاكاديمية، جلست جانبي زميلة بلغارية، طالبة دكتوراه ايضا في اختصاص العمل الحزبي، وهي ابنة محافظ لمدينة في الشمال الشرقي لبلغاريا، وعرفت أن أغلب الطالبات الأخريات بنات او اقارب مسؤولين في الحزب أو الادارة، بشكل أو بآخر. جرى اللقاء بيننا على سجيته، اسئلة اولية، من اين انت؟ ماذا ترغب أن تدرس؟. كم لغة تتكلم؟ وامثال تلك الأسئلة الاولية، واستمرت السهرة.
كلفت أن ألقي كلمة الطلاب الجدد، في بداية الحفل ضمن البرنامج الاول، والقيتها باللغة العربية، وكان المترجم العراقي في الأكاديمية الرفيق ضياء مجيد قد وقف الى جانبي يترجم الى البلغارية، فاختصرتها بتحية الأكاديمية وشكر القائمين بالحفل والوعد بأن نكون طلابا جادين نستفيد من خبرة ومعرفة رفاقنا البلغار، الذين وفروا لنا هذه الفرص الثمينة. وبعدها بدأت وصلات غناء منوع وموسيقى شعبية وجلسة مفتوحة لمن رغب البقاء فيها.
سألتني مرة كاترينا عن الموسيقى التي احب، فقلت لها الكلاسيكية، والموسيقى الهادئة فدعتني الى حضور بحيرة البجع في دار الأوبرا في وسط صوفيا، واستمتعنا وامتعنا تشايكوفسكي، الذي ألفها عام1887 وعرضت في تلك السنة اول مرة على مسرح البولشوي في موسكو، وقد شاهدتها اكثر من مرة، هناك على مسرح البولشوي، او على الشاشة الصغيرة، في التلفزيون. وتكررت زياراتنا لدار الأوبرا، تقريبا مرة كل شهر، وصرنا نتابع برنامجه الموسيقي وندعو اصدقاء معنا ايضا. فالموسيقى لغة الروح، لا تحتاج إلى كلمات وجمل محكية.. بل جمل موسيقية جذابة، تشد السمع وتطرب الاذان وتلفت الإنتباه والانظار. ولا يمل تكرار الحضور ولا يكل المرء من التمتع بما يراه ويسمعه من ابداع فني حقيقي وخلق جمالي متفرد. نقرا محتوياتها في المختصر الذي يباع في بدايات العرض ونغرق في روعة الأداء والإبداع.
الدخول الى المجتمع البلغاري ومعرفة عاداته وتقاليده ووسائل عيشه ولاسيما الوسط الثقافي والسياسي منه يتم بالتدريج وببساطة وألفة حميمة، وعبر الصحافة والتلفزيون والراديو والحياة الجامعية والعلاقات التي تتولد منها. فهو مجتمع مفتوح وليس ثمة تعقيدات اجتماعية أو سياسية تعزله عن الاجانب القادمين اليه، لاسيما القريبين منه جغرافيا. وهناك أكثر من رفيق لنا متزوج من سيدة بلغارية.. ورغم اننا، العراقيين الدارسين، في الاكاديمية ندرس ونعمل بشكل سري، بحكم ظروفنا الحزبية والسياسية، التي لا تسمح لنا الإعلان او التواصل مع غيرنا من الطلاب العراقيين في الجامعات مثلا، او العراقيين الاخرين المقيمين في المدن قبلنا. ورغم ظروف السرية تلك كانت هناك خروقات مبررة حزبيا، او تصنعها اعمال اضطرارية، واحيانا صدف غير مقصودة. في كل الاحوال كانت الزيارات او اللقاءات الاعتيادية شبه محرمة وممنوعة حزبيا، هذه تقاليد متوارثة ولا تجديد أو فهم معاصر لها، وربما إصرار فيها يعكس العقلية الإدارية طيلة تلك السنوات وحتى الان، بعناوين مختلفة.
كان الرفاق العرب، او اغلبهم، لا يعرفون او يتعاملون فيما بينهم مثلنا، واغلبهم يتحركون باسمائهم الصريحة، وشبكات معارفهم واسعة، رغم أن أحزابهم قد لا تكون علنية او مجازة في بلدانهم. وكنا نحرج احيانا او نتجاوز الأمر كما اعتدنا على أسمائنا السرية في الزيارات او الاحتفالات الحزبية او المناسبات الخاصة بكل حزب أو شعب. وكانوا يطلبون مشاركة الحزب فيها، ولابد من إلقاء كلمة أو حضور مشارك. وقد ساهمت في عدد منها وادرت احتفالات حزبية لاشقائنا بطلب منهم وبموافقة طبعا. وشكلت هذه النشاطات علاقات إيجابية مع العديد من الرفاق من تلك المنظمات.
تعود كاترينا من زيارة أهلها في الاجازات محملة بما تموّنه امها لفترات الشتاء، او ما تعده من وجبات طعام شعبية، تجهزها في مواسم الخضروات والفواكه لايام أخرى. وهي عادات شعبية معروفة في الارياف، حتى عندنا في بعض مناطقنا، في شمال العراق أو أطراف الفرات والجنوب او في الريف السوري واللبناني عموما. وكانت الوجبة الرئيسية من أنواع الزيتون والفلفل المخلل وزيت الزيتون والاجبان المخثرة والباذنجان والفلفل والبطاطا المحشوة وغيرها من الانواع المعروفة، مضافا لها قناني الركية المعتقة من سنوات. الامر الذي ينوّع وجبات طعامنا واكلاتنا اليومية، وموائد ولائمنا لبعض الاصدقاء المقربين منا.
دعانا الرفيق ضياء، الرفيق ابو علي (حسين سلطان) وانا، اكثر من مرة الى بيته وقضينا سهرات ممتعة مع الذكريات والاحاديث الشيقة عن اخر التطورات والاحداث الجارية هناك في الوطن البعيد، او هنا في الوطن القريب. وكذلك كان الرفيق ليث حميد، يدعونا إلى بيته في العاصمة والى بيت اهل زوجته في القرية، والبلغار لا يختلفون عن اهلنا في قرانا وريفنا، كرماء ويحبون الضيوف ويتسابقون في ضيافتهم بما لديهم، وكان أغلب البلغار يملكون بيوتا لهم في القرى في انحاء بلغاريا، يقضون ايام الاجازات والاعياد فيها، اذا كانوا من أهل المدن اساسا.. مثلما حصل مع الرفيق ضياء واهل زوجته البلغارية. ( ذكرتني صور فوتوغرافية عن تلك الحفلات العائلية الحميمة والتي لها طعمها الخاص بيننا ومن يشاركنا فيها، واحدة منها تضم الرفيقين الراحلين ابو علي وأبو دنيا (ماجد عبد الرضا) ومدرسة اللغة البلغارية وليث وزوجته البلغارية). وكذلك كان الرفيق نوزاد نوري، له قصصه الخاصة، في كل دعوة لنا بمناسبة عيد ميلاده الذي يتكرر كلما رغب ذلك، دون تحديد سنة له، يأتي ويحملنا في سيارته الفولكس واغن القديمة، السلحفاة، والتي كلما نصعد فيها أو ننزل منها نبقى فترة متعجبين كيف حملتنا وكيف ضمتنا وكيف اوصلتنا، وكيف يدخلها الرفيق ويخرج منها. والرفيق نوزاد مشهور بطرائفه الكثيرة، التي تتعلق بالطعام والشهية المفتوحة، إضافة إلى تاريخه النضالي المشهود له فيه. من بين تلك الطرائف المتداولة أن أحد الرفاق القياديين زاره بعد إجرائه عملية شطف الشحوم في المستشفى ونصحه أن يأكل الخضروات والمواد الجافة والمشويات ولا يكثر من اللحوم والنشويات، فرد عليه بعد أن دعاه إلى وليمة دسمة من كل ما لذ وطاب، طيب رفيق و(ليّة الطلي)، ذيل الخروف، من اين تاتي؟، ماذا يأكل غير الحشيش؟! وكنا نضحك كثيرا عند تلك الطرائف والقصص التي تعتبر ماركة مسجلة للرفيق نوزاد. مثل قنينة الويسكي الثانية التي منعه رجل الجمارك في المطار من أخذها معه، ففتحها وأخذ يشربها مباشرة، وصاح به الرجل: ماذا تفعل؟! فرد عليه: اشربها كلها ولا اسلمها لك. ليس عندي ممنوع وغير مسموح في الويسكي. كما حصل مع رفاق آخرين لقاءات ودعوات وزيارات لهم في أماكن سكنهم، خاصة خارج العاصمة، في المدن الاخرى، وفيها طرائف ممتعة ظلت متداولة فترات بيننا، او عرفنا منهم أماكن جديدة تستحق الزيارة والتعرف عليها، عن تجربة ومعايشة ملزمة.
كانت هذه الدعوات واللقاءات الأخوية العائلية تقرب بيننا وتشد من الأواصر والتفاهمات في المواقف والافكار، لاسيما بعد عناء البحث والدراسة والاستشارات، ولكنها تجر علينا، او على بعضنا، ما لا يحمد او يرغب به. لاسيما وأن الأجواء كانت ملغومة ومشحونة بكثير من التناقضات والصراعات او العلاقات غير الصحية في أحسن تقدير لها. كانت الشبهات بالتكتل وتجمع المخالفين لسياسات لم تثبت صحتها، كما كانت بلاغات الحزب وقيادته تفتح بالسطر الذي يقول أثبتت التجربة صحة مقولات وسياسات الحزب التي قادته بالاخير إلى ما وصل إليه من اوضاع لا يحسد عليها ولا تغنيه عملا وبناء حزب جديد مؤثر وقدير، ولديه كل ما يجعله يواصل تاريخه ونضاله وصموده ومحطاته المعروفة.
بلا شك لا تمر الايام بلا مزعجات. فقد تلقيت والرفيق ابو دنيا وكذلك مع الرفيق ابو علي دعوات أخرى من "رفاق" آخرين و"أصدقاء" عديدين ولكن بعضها لم ينته بخير أو يستمر كما تمنيناه، فبعض من هؤلاء افسدها بما لا يليق به من رفقة أو صداقة أو حتى معرفة عابرة. إذ تكشف أن ثمة فهما خاطئا للتحزب أو عضوية الحزب، وكذلك العلاقات التنظيمية أو الوعي السياسي عموما. فحين خسر هؤلاء وفاء وحرصا نزيها افتقدوا الود والاحترام والتقدير ايضا.
ضحك صاحبي وهو يردد مقولات للامام علي، تمكنت من تسجيل هذه؛ "الصاحب مناسب والصديق من صدق غيبه، رب بعيد أقرب من قريب وقريب أبعد من بعيد، والغريب من لم يكن له حبيب، وقطيعة الجاهل تعدل صلة العاقل، ومن لم يبالك، فهو عدوك، لا خير في معين مهين، ولا في صديق ظنين "!.

لقراءة النصوص الأخرى يمكن العودة إلى المدونة:
http://www.kadhimmousawi.blogspot.com



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن