إلِكْترا: الفصل التاسع 1

دلور ميقري

2018 / 6 / 17

" الرانج روفر "، لاحت في العتمة كأنها إحدى نجوم السماء، الفضية، المتلألئة فوق رؤوسهم. يُقال، وفق عقيدة قديمة، أنّ النجومَ هيَ أرواحُ البشر الفانين. لئن كان الأمرُ كذلك، فإنّ " مسيو جاك " يتطلع إليهم من مكانه في الأعالي. مزقة من روحه، على أيّ حال، كانت ترافقهم حقاً: عدد من لوحاته، من المفترض أن يُشاركوا في معرضٍ بمناسبة ذكراه الأولى، سيقام في مساء الغد بغاليري كان يملكه في مدينة الصويرة.
وإنها لوحاتُ صديقها الراحل، المسببة قلق السيّدة السورية، التي قبعت صامتة وراء سائق سيارتها فيما عيناها ترقبان كتلَ الفولاذ تجري بسرعة الصاروخ فوق طريقٍ لا يصلح حتى لعربات تجرها الدواب. فبين تلك اللوحات، المرقّشة بفرشاة المعلّم الكبير، مَن تُصوّر نساء عاريات، أو أشبه، قد تثير شهيّة رجال البوليس لتأملها فيما هم يؤملون برشوةٍ كيلا يحتجزونها بحجّة أنها تنتمي للفنّ الإباحيّ ( بورنو ). وربما تتفاقم القضية في نظرهم، حينَ ينتبهون إلى حقيقة أنّ النماذج النسائية ذات ملامح محلية.
لم يكن لمخاوف " سوسن خانم " من أساس، بعدما مرت سيارتها بسلام من أمام آخر دورية بوليس تخفرُ الطريق. أكتفوا برؤية أوراق السائق، بينما عيونهم تقتحمُ الجمالَ الأنثويّ، الموزع على مقعديّ السيارة. " زين "، كانت تجلس بالقرب من شقيقها، قائد الرحلة، كي تسليه خلال الطريق حتى لا يدهمه النعاس أو الشرود. كذلك كانت أوامر الخانم، المستسلمة بنفسها إلى أفكارٍ تداعبُ الرأسَ المجلل بالشعر الأشقر الغزير، بينما بصرها المخترقُ بلورَ السيارة يودّ السباحة بين النجوم علّه يحظى بلمحةٍ من روح الصديق المصوّر. في غمرة فوضى النجوم الأرواح، ميّزت عيناها صوراً لا مرئية لعالمٍ قد أضمحل، أو كاد؛ عالم مراكش، كما عرفته هيَ في خلال الأعوام الخمسة من إقامتها في المدينة: " كأنكم روحُ المكان؛ ازدهر بحضوركم وانهارَ بغيابكم. أما مراكش، أما المدينة الحمراء؛ مدينة النخيل والبهجة ـ فإنها باقية لا تغيب ولا تضمحل سوى في أذهاننا، المشوّشة والمضطربة، خشية شبح الموت "، خاطبت في سرّها كائناتِ الأعالي فيما رأسها يميل رويداً على صدرها مستسلماً لعذوبة النسيم البحريّ.
صباحاً، استيقظوا ثلاثتهم على دويّ هبوب الهواء الخريفيّ، المصطكّ له أباجور نوافذ حجرات النوم. على أنّ السماء كانت كدأبها في الصيف المنصرم، صافية مع بعض السُحُب المعتادة على مداعبة الشمس. وكعادة الخانم خلال عطلتيّ الصيف المنقضيتين، نزلت مع جماعتها في رياض " دار الكردي "، الذي يقعُ في القصبة عند مدخل السقالة الداخلية من ناحية السوق القديم. صاحبُ الرياض، وكان رجلاً في السبعين ذا مظهرٍ حيويّ يجعله أصغر من سنّه، قال للسيّدة السورية في أول مرة حلّت لديه: " هذا النزل، كان بالأساس داراً لتاجرٍ من أصلٍ شاميّ، استقرّ في المدينة في أواسط القرن التاسع عشر ". آنذاك فوجئ الرجلُ بنفسه، حينَ ردت الخانم بالقول وهيَ تشير إلى معاونيها الشابين: " لقد نزلت هنا، في الحقيقة، بناءً على رغبتهما. لأنهما من سبط ذلك التاجر، الشاميّ! "
" إذاً فأنتما ولديّ السيّد راغب، رحمه الله، تاجر الأثاث المعروف؟ "، تساءل صاحبُ الرياض مدهوشاً فيما نظراته تعبرُ الشقيقين. ثمّ أضافَ، بعدما أومأ كلاهما رأسَه إيجاباً: " لقد حزرتُ ذلك من النظرة الأولى! فإنني عرفت والدكما عندما كنتما صغيرين، وكان يمرّ عليّ أثناء تمضيته شهرَ رمضان في الصويرة. كان يصطحبُ أحياناً ابنه الأكبر، ماذا كان اسمه؟ "
" اسمه لاوند، وهوَ مَن ورثَ صنعة أبينا. أما شقيقي هذا، فإنه أختار دراسة الاقتصاد "، أجابته الفتاة مبتسمة. وكانت هذه شيمتها، في كلّ مرةٍ يتوجّه فيها أحدهم بالسؤال في وجود " آلان "؛ وذلك لكونها تكبره بعامين كما نعلم. رداً على ما أبداه الرجل من فضول، بشأن اسم شقيقهم الكبير، الغريب، تعهّدت " زين " أيضاً إجابته بالقول: " إنه اسمُ أحد أسلافنا، بحَسَب ما علمنا من الوالد.. "
" آه، نعم. إنني أذكر الآنَ قوله لي ذات مرة بأنه من أصل تركيّ. "، قاطع كلامها فيما كان يمسح هيئتها بنظرة إعجاب. وكانت " زين " يومئذٍ مكتسية بفستان تقليديّ من النسيج الورديّ المخرّم، أكسَبَ قوامها الأهيف، الممتلئ، سحراً لا يُضاهى. قالت له مصححة: " بل إنّ جدّنا الأول كان كردياً من التابعية العثمانية "
" هذا شيءٌ طريف قياساً لاسم أبيكِ، العربيّ! "
" لقد ذكرَ لنا الوالد بهذا الخصوص، أنّ أباه سمعَ في إحدى ليالي صباه هاتفاً مجهولاً في المنام يطلب منه تسمية ابنه البكر راغباً "
" ولعل بعضهم، بسبب هذه الأسماء الغريبة، كان يظن أنّ والدكِ يهوديّ؟ "، عادَ العجوزُ المتظارف إلى نفس النغمة. تدخل شقيقُ الفتاة، فقال للرجل: " كانت علاقة أبي، كما وأجداده من قبل، وثيقة بيهود الصويرة. بل إن رياضكم هذا، وفق ما أعلمنا الوالدُ، انتقل إلى ملكية جدّنا الأول من رابي يهوديّ كان زعيماً لطائفته في ذلك الزمن ". صاحبُ الرياض، كان قد تضاحك بسرور لما عرفَ اسمَيْ الشقيقين. ثم مدّ يده، مرةً أخرى، ليصافحهما في حرارة بوصفهما ابنيّ صديقٍ قديم ـ كما عاد وكررَ، بينما كان نظره مركّزاً على الفتاة.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن