وماذا بعد؟

خالد صبيح
khalidsabih@gmail.com

2018 / 6 / 12


في رواية ماركيز الشهيرة (في ساعة نحس) يسأل احد الاشخاص صاحب سيرك عن سبب قتلهم للحيوانات التي يطعمون بها الأسود والنمور بدلا من تقديمهم اليها حيّة، فاجابه صاحب السيرك:

ـ لكي لا نوقظ فيها غريزة الافتراس.

واذا استعرنا معنى غريزة الافتراس عند الضواري ونقلناه مجازيا الى عالم السياسة سنجد تجسيدا واضحا له في نزعة القمع وما ينتج عنه من إقصاء ومصادرة، وأيضا في تكريس ثقافة بلون واحد للمجتمع، وهذا هو بالضبط ما يعبر عنه بصورة جلية في الوقت الحاضر خطاب تيارات اليمين العنصري في بلدان اوربا، التي استيقظت غريزة الافتراس لديها بعد تحولات زادت من حظوظها في اكثر من بلد اوربي.

ولهذه التحولات حكاية.

لنحاول أن نمسك إذن بأحد خيوطها.

في الاسبوع الماضي طردت حكومة النمسا اليمينية ستة ائمة مساجد واغلقت مساجدهم في ماوصفته بمكافحة الاسلام السياسي. سيفرح كثيرون، من خلفيات اجتماعية وثقافية عديدة في اوربا، لهذه الخطوة، وسيتمنون تكرارها في بلدانهم، لان الاسلاميين شكلوا عبئا نفسيا واجتماعيا ضاغطا على المجتمعات الاوربية التي يحيون فيها بمحاولتهم تكريس خصوصية متنافرة مع قيم هذه المجتمعات، هذا عدا المخاطر الامنية التي يشكلونها هناك. وتحجيمهم سوف يساعد على خفض التوتر الاجتماعي وتقليص مخاطرهم في نفس الوقت. والمتتبع لهذا الشأن يعرف أن تغّول هذه القوى والجماعات جاء نتيجة استغلالها لطبيعة المجتمعات الاوربية وقوانينها التي تتيح حريات واسعة للأفراد والجماعات؛ والنفاذ من خلال ثغرات سببها قصور في اساليب المعالجة التي اتبعتها الحكومات الديمقراطية، لاسيما الاشتراكية منها، التي رهلتها البيروقراطية، في معالجة اشكالات الهجرة والاندماج، والتي راعت فيها كثيرا قيم المساواة والحقوق ما شجع خصومها وناقديها على وصفها بالمائعة.

لكن المشكلة ليست في خطوة حكومة النمسا اليمينية بحد ذاتها، وإنما في من اتخذها وفي دوافعه من وراء ذلك، وفي ما يمكن ان تفضي اليه من تغييرات ستطال المجتمعات بأكملها وتؤثر في منظومتها الثقافية والسياسية وعلى الروحية التي نسجتها.

واذا تتبعنا سيرة صعود تيارات اليمين العنصري في اوربا الان، يمكننا ان نلحظ بعض التناظرات التاريخية بينها وبين صعود تيارات النازية والفاشية في مفتتح القرن العشرين الذي اشترك ببعض السمات مع قرننا الحالي. فقد ابتدأ القرنان بأزمة اقتصادية ازدادت نتيجتها حظوظ القوى اليمينية والنازية في لعب أدوار سياسية داخل مجتمعاتها، ومثلما صعّدت النازية، بُعيد الحرب العالمية الاولى، من خطابها العنصري وجعلت من اليهود كبش فداء لها، وحمّلتهم المسؤولية عن كل شرور النظام السياسي والاقتصادي الراسمالي وأزماته، وماترتب عنها من تداعيات اجتماعية، ما افضى لاحقا، وعلى نحو تصاعدي، الى اضطهاد منظم وسافر لهم؛ هكذا تفعل احزاب اليمين الاوربية الان من خلال المبالغة في ما تصفه بمخاطر وجود المسلمين، بعد رسم صورة مشوهة، إحادية الجانب لهم، ومجافية للمنطق والواقع، وعاملتهم على أنهم كتلة متراصة لا تمايزات حقيقية بينهم، ومن ثم قامت بإطلاق وتعميم هذه الصورة (في الواقع هي ضمنا صورة عن كل الاجانب)، وحمّلتهم جميعا، دون تمييز، وزر ماتقوم به جماعات الاسلام السياسي هناك.

كذلك ارتكزت احزاب اليمين العنصري قبيل صعودها الجديد على الاشكالات التي سببها انفجار الازمة الاقتصادية في عام 2008، وما افرزته من نتائج انعكست سلبا على حياة المواطن وعلى رفاهه، ورمت ذنوبها على اللاجئين، مستفيدة من سخط شعبي على سياسات الهجرة الحكومية، علما أنها قامت، كتنظيمات، وتاسست منذ البداية على دعاوى عنصرية وعلى كراهية الأجانب، حتى قبل أن يتدفق اللاجئون بعمليات نزوح كبيرة في الالفية الجديدة. وبينما كانت مطالبها في البداية هي دمج الاجانب في مجتمعاتهم الجديدة، أو بالأحرى صهرهم، فهذه الأحزاب لا تحترم ولا تعترف بغير ثقافة قومية واحدة مسيطرة وعلى الجميع اتباع معاييرها، على العكس مما تدعو اليه القوى الاشتراكية والديمقراطية بتكوين مجتمع نوعي متعدد الثقافات والاتجاهات، تغيرت نبرتها، بعد تنامي قدراتها وتموضعها في متن المشهد السياسي، بعدما كانت على هامشه منسية ومهملة لعقود، وانفتحت شهيتها لمطالب أوسع وأكثر جذرية، وأخذت تطالب، بدل سياسة الدمج الذي قبلت به في البداية بصيغته التي تلغي التمايز والتفاعل، بالطرد الجماعي (فقد طرح مؤخرا (ديمقراطيو السويد)، مثلا، وهم حزب يميني عنصري، شعار ترحيل جميع الاجانب الذين قدمو الى البلد بعد عام 1970) ما حدى باحد المعلقين السويديين للتساؤل عما سيقوله الآن بعض الأجانب (الحمقى) الذين انتخبوا وينتخبون هذا الحزب العنصري، لمجرد توافقهم معه على كراهية الإسلام والمسلمين.

وهكذا أخذ اليمين العنصري المجتمع الى مديات في التطرف تصاعدية، وبدل التركيز على ما هو مشترك وتطويره لبناء مجتمع نوعي جديد يعتمد التعددية الذي كانت تبشر به القوى الديمقراطية، ولد مزاج وخطاب يبّرز الاختلافات ويمتعض من كل ما هو مختلف، الامر الذي قد يفضي، اذا ذهب الى مدياته القصوى ولم يكبح، الى اعتبار الغاء المختلفين قناعة ومعيارا مقبولا في المجتمع:

لأنهم مختلفون يجب أن يزاحوا.

وقبول منطق ازاحة المختلفين سيفتح شهية اليمين المتطرف وطريقه في نفس الوقت لمصادرة كل المختلفين معه من داخل المجتمع والحياة السياسية فيه، وهذا هو الخطر الحقيقي القادم. وهنا، عند هذا الافق المخيف، تكمن الابعاد المقلقة لقرار حكومة النمسا ويجعل منه سابقة خطيرة.
ومع أن من الصحيح القول أن مناخ العصر، بمظهره العام، لايسمح بتكرار تجربة النظم الشمولية، كما حدث في القرن العشرين، لكن من يستطيع التكهن بعدم امكانية وقوع تحولات نوعية مفاجئة تقلب المعادلات وتغير طبائعها، فمن كان يتوقع، قبل عقد واحد، أن أحزاب اليمين العنصري، التي كانت معزولة وصغيرة وهامشية بسبب خطابها المنفّر، سوف تحقق نجاحات كبيرة وسريعة خلال سنوات قليلة كما حدث في المانيا والنمسا وايطاليا والدانمارك والسويد*.

وصحيح أيضا أن هناك قوى مناهضة لليمين العنصري يمكنها أن تعمل على كبح جموحه، كاليسار الاوربي الذي ضعفت قواه لكنه مازال متماسكا، غير أن انتهازية القوى الليبرالية قد تدفعها، إن تطور الصراع الاجتماعي، وبرز طابعه الطبقي المؤجل أو المدجن، وأخذ نتيجة سياساتها النيوليبرالية المؤذية لقطاعات مجتمعية عريضة، في عموم اوربا والعالم، منحى يرجح كفة اليسار، أحزابا ونقابات، أقول قد تدفع هذه التطورات القوى الليبرالية، التي يشكل السوق شاغلها الاساسي وليس الانسان والديمقراطية، الى تفضيل وصول اليمين العنصري الى السلطة لتوافق منطلقاته موضوعيا مع منطلقاتها الاقتصادية والاجتماعية، وتفتح له الطريق الى السلطة مثلما غضت ذات القوى في القرن الماضي نظرها عن صعود النازية والفاشية وحبذته.

لأول مرة، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، يبدو مآل التحولات السياسية في اوربا غامضا ومنذّرا، ما يثير بعض المخاوف من أن رياح عنصرية سوداء قد تعصف يوم ما بالقارة العجوز.

فهل ستلتهم نيران اليمين العنصري المستعرة أزهار الديمقراطية الأوربية؟

هامش

خلال عقد واحد ازدادت حظوظ أحزاب اليمين العنصري في اوربا، ففي المانيا وصل حزب ( البديل من أجل المانيا) الى البرلمان لأول مرة وبشكل مفاجئ، محققا نسبة كبيرة واستثنائية ( 13%) ونجح حزب ديمقراطيو السويد بالوصول لأول مرة إلى البرلمان في عام 2006 بحصوله على (6%)، من الاصوات عبر خدعة وصفقة انتهازية، مع أحزاب قومية كلدانية وآشورية عراقية، رفعته بأصواتها الى البرلمان مقابل وعد كاذب بتقديم تسهيلات لقدوم المسيحيين العراقيين الى السويد، وارتفعت حظوظه أكثر في انتخابات عام 2010 و 2014، مستفيدا من الدعم المادي الذي تقدمه الدولة للاحزاب البرلمانية، ومن تسهيلات الظهور الإعلامي، وبلغ في آخر استطلاعات للراي، (الاسبوع الماضي)، مرتبة ثاني اكبر حزب بالسويد، محققا نسبة تجاوزت الـ (20%).



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن