الأغتراب الصناعي والتقسيم الدولي للعمل

مظهر محمد صالح
mudher.kasim@yahoo.com

2018 / 6 / 9

الأغتراب الصناعي والتقسيم
الدولـــــي للعمــــــل
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
د.مظهر محمد صالح


لم نصدق باديء الامر مسامعنا بأن التقسيم الدولي الجديد للعمل هو نتاج العولمة وقواها الاقتصادية العابرة لسيادة الامم ولاسيما بعد ان ذهب المُنظرون الاقتصاديون شرحاً وتفسيراً للتحول المكاني للصناعة والانتقال بها من معاقلها القديمة التي استوطنت العالم الاول وبلدانها الأم المتروبولية الى البلدان النامية في محاولة جديدة لتوصيف ظاهرة تقسيم العمل كقوة مُعولمة ، فعندما ساد التقسيم الدولي للعمل بشكله القديم كانت القوى العاملة الأجرية قد نهضت وتركزت في المجتمعات الصناعية حصرياً في حين وجدت تلك القوى الأجرية متكئاً لها في العالم الثالث عبر الصناعات الاستخراجية او المعدنية وفي النشاطات الزراعية الكبيرة القائمة على المتاجرة والتصدير ، الا ان تلك القوى الأجرية في البلدان النامية (والتي هي من اشباه القوة العاملة البرولتارية) كانت تمثل حقبة تاريخية تجمع بين الحياة الفلاحية وانماطها القروية وبين النمط التجاري الحضري للمدينة. اذ يقول الكاتب ديفيد كوتس في مؤلفه الموسوم/انماط الرأسمالية: النمو والركود في الحقبة التاريخية الحديثة الصادر عن دار نشر(بولتي) في العام 2000م موضحاً بأن وظيفة راس المال هي البحث عن العمل الرخيص وهو الامر الذي قاد الى مضاعفة عديد العاملين في الحقل الصناعي الى نحو 3 ملايين عامل في السنوات الثلاثين الاخيرة من القرن العشرين ولاسيما في البلدان النامية.وان العجلة الرئيسة التي قادت الى انتشار النمط الراسمالي للانتاج في العالم الثالث هو ظهور مايسمى : بالتعاون الانتقالي الدولي ، اذ تنامى هذا النمط من التعاون في اشاعة الانتاج الصناعي خلال الربع الاخير من القرن العشرين من 7 آلاف وحدة صناعية في العام 1973 ليصبح بنحو 26 الف وحدة صناعية في العام 1993 ، ويُلحظ انه بين العام 1953 وحتى مطلع الالفية الثالثة انخفضت مساهمة العالم الاول في الانتاج الصناعي العالمي من 95 بالمئة الى 77 بالمئة في حين تضاعفت حصة البلدان النامية في الناتج الصناعي العالمي من 5 بالمئة الى 23 بالمئة خلال الفترة نفسها اعلاه.
حيث تعاظم تدفق الاستثمارات الخارجية نحو بلدان العالم الثالث وتصاعدت حدتها في تسعينيات القرن الماضي،على الرغم من ان الكثير من تلك الاستثمارات قد ذهبت الى البلدان الصناعية الام نفسها.كما ان افضل نماذج عملية الانتقال التعاوني تمثل بنمو ظاهرة الوحدات المصنعية في مناطق اقتصادية حرة والتي اطلق عليها (ماكيلادورز) في منطقة الحدود المكسيكية-الامريكية ،اذ تشكلت نواتها في العام 1965 حيث سُمح باقامة منطقة اقتصادية حرة امتدت على طوال المنطقة الحدودية للمكسيك مع الولايات المتحدة الامريكية وبمنطقة عازلة عمقها 10 اميال، واتيحت لتلك المصانع إستيراد المواد الاولية وقطع الغيار على اساس الاعفاء التام من التعرفة الكمركية شريطة ان يعاد تصدير المنتجات الناجمة عن تصنيعها كافة.ويلحظ ان ظاهرة ماكيلادورز قد اتسعت وتضاعف نشاطها لاسيما بعد العام 1993 عندما دخلت المكسيك مع الولايات المتحدة الامريكية باتفاقية التجارة الحرة لمنطقة امريكا الشمالية (نافتا) حيث اُزيلت القيود التجارية المتبقية كافة.ولم يمنع ذلك الاتفاق المستثمرين الاوروبين واليابانين فضلاً عن الامريكين من تحريك رؤوس اموالهم نحو قوة العمل الرخيص ومعاقله في ماكيلادورز.فقد جرى نصب الآلاف من المعامل الممثلة للصناعات التجميعية على طول الحدود المكسيكية-الامريكية، سواء في صناعة السيارات ام في صناعة السلع الكهربائية وغيرها من السلع المنزلية المعمرة و النسيجية.من اللافت انه يعبر الحدود المذكورة يومياً رجال الاعمال المترفين ومديري الشركات وكبار المستثمرين بحافلاتهم الفارهة ،في حين تحتشد الالاف من قوة العمل المكسيكية بطوابير انتظار( بعد تجميعهم من مناطق عشوائياتهم او مايسمى بمدن الصفيح المجاورة) ليوضعوا في حافلات النقل المتجهة نحو اماكن أعمالهم و الممتدة على طول الحدود وعرضها مع الولايات المتحدة الامريكية. وتؤكد الابحاث والدراسات الاقتصادية الدولية ان ظاهرة العمل الرخيص هي ليست بسبب عرض العمل غير المحدود في المنطقة الاقتصادية الحرة(ماكيلادورز) ولكن ذلك يأتي من تشكيلات القوى العاملة غير المنظمة والبعيدة عن النظم الرقابية .بعبارة اُخرى انها قوة عمالية منتجة لا تخضع لاية معايير رقابية دولية تضمن حقوقها.إذ جُوبهت كل المحاولات التي قام بها العمال في الماكيلادورز لاقامة تنظيم نقابي بالرفض والقمع من جانب الحكومات وارباب العمل على حدِ سواء.ذلك على الرغم من ان اتفاقية (نافتا) قد نصت على ضمان حقوق العمال وحمايتهم بتنظيمات نقابية الا ان ذلك لم يتحقق على ارض الواقع في الماكيلادورز.كما حاولت النقابات العمالية الامريكية الدعوة الى قيام تنظيمات نقابية حرة فيها ذلك رغبة منها في خفض المنافسة ومحاولة لصد تدفق القوة العاملة المكسيكية الرخيصة التي تخترق الحدود المكسيكية شمالاً باتجاه الولايات المتحدة الامريكية ، الا ان المحاولات جميعها باءت بالفشل.فالمتطلبات الصحية والبيئية وظروف العمل ومتطلبات السلامة المهنية عُدت جميعها ضعيفة ان لم تكن غائبة.في حين اغمضت الحكومة المكسيكية منذ مطلع القرن الحالي عينيها عن ترخيص قيام التنظيمات النقابية طالما ان الماكيلادورز قد غدت الحاضنة التي تمتص الملايين من فرص العمل المكسيكي و ان مواردها المتدفقة بالعملة الاجنبية الناجمة عن صادراتها باتت المورد الثاني المساهم بالنقد الاجنبي للبلاد بعد عائدات النفط المكسيكي مباشرة .فتشغيل النساء بظروف عمل سيئة هو الجو العمالي السائد الذي يشكل 60 الى 70 بالمئة من اجمالي قوة العمل في الماكيلادورز. وغالباً ما تستخدم النساء القاصرات دون سن 16 سنة واستغلالهن كقوة عمل باجور منخفضة او زهيدة ،فضلاً عن سهولة تسريحهن وقت ما تشاء ادارات تلك المصانع.
ان انتشار قوة العمل الأجرية غير المنظمة في ظل عولمة الاسواق قد اضعفت حتى من القوة التساومية لقوة العمل المنظم مع ارباب العمل ولاسيما في المجتمعات الصناعية المتروبولية العريقة في العالم الاول .اذ ادت منافسة القوى العاملة غير المنظمة القادمة من وراء البحار الى تصديع القوة الجمعية لنقابات العمال المنظمة الاوروبية والامريكية .وعلى الرغم من ذلك يتمتع العمال المنتظمين بنقابات العمال في المجتمعات الصناعية القديمة ، ممن يتقاضى اجور عالية ، بوضع افضل بسبب انخفاض اسعار السلع الاستهلاكية الناجمة عن مساهمة العمل الرخيص المنخفض الاجر ،مما يعني تعاظم الاجر الحقيقي لهم.لذا ،فان تدفق عشرات الآلاف من عمال الماكيلادورز المكسيكيين الى الولايات المتحدة كان مصدره عاملين:اولهما، محاولة الدخول في تنظيمات نقابية مؤسسية عُمالية امريكية تتمتع بحد ادنى من الاجر ومحمية بظروف عمل توفرها قوة القانون ،وثانيهما، هو التمتع بمستوى معيشي لائق وفائض ادخاري عمالي يمكن ان اطلق عليه مجازاً : (بفائض القيمة الجزئي) ذلك بسبب ارتفاع الاجر الحقيقي الناجم عن انخفاض سلة اسعار السلع الاستهلاكية التي تولد توفيرات هي مُستلبة بالاساس من العمل الرخيص للنساء وغيرهم والتي ولدًها التقسيم الدولي الجديد (المعولم) للعمل عبر حاضنات صناعية تقتضي تشغيلاً غير منظم للعمل منخفض الاجر في اطار ماتمت تسميته آنفاً :بالتعاون الانتقالي الدولي ...ولكنه تعاون انتقالي خالٍ من العدالة !.ان مايسمى بجدل القيمة وفائضها ومنظومة الاسعار قد دفع كاتب هذه الدراسة الى التصدي للمشكلات الفكرية في تحول القيم الاقتصادية (Transformation problem) للسلع الصناعية المنتجة الى الاسعار التنافسية وعلى وفق نظرية العمل كمصدر للقيمة ولكن في سوقين صناعيتين مختلفتين احدهما ذات تنظيمات عمالية نقابية والاخرى خالية من التنظيم النقابي وهو مااطلقنا عليه بفائض القيمة الجزئي والمنوه عنه آنفاً .
ختاما ، مازال العالم الصناعي الاول الذي يضم ربع سكان الارض يستحوذ على اربعة اخماس الدخل العالمي في حين يتخبط جنوب العالم الذي يشغل سكانه اربعة اخماس سكان الارض بالحصول على خمس الدخل العالمي... ...انه الاغتراب الصناعي المستلب لقوة العمل سواء على حدود المكسيك او في النمور الاسيوية و غيرها من بقاع الارض .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن