إلِكْترا: الفصل الثامن 1

دلور ميقري

2018 / 6 / 7

الخريف، فصلُ العمل المثمر على أثر عطلةٍ طويلة، كان للبحر منها النصيبُ الأوفر. سحابٌ فضيّ، بلون الرصاص، ما عتمَ أن أصابَ الصيف بطلقة الرحمة. كان مطراً على شكل موجات البحر، لا يرتدّ لثوانٍ إلا كي يمتدّ بدفعةٍ أقوى، مُعرياً النخيلَ من آخر ثماره المقدّسة. شقيقاته من أشجار الليمون والزيتون، المزيّنة شوارعَ مراكش، اكتست أوراقهن الخالدة الخضرة بلمعةٍ شبيهة بأحمر خدود فتيات الشارع الملكيّ، المتبرجات والحريصات على المشي تحت الظلال.. بأحمر عمارات المدينة، المنطفئة حرارةُ جدرانها وأسطحها كما وأجساد ساكنيها، المُعرَّفين بالميل إلى المرح والبهجة والشهوة والشبق. على أثر انحسار موجة الأمطار عند العصر، راحت سيارة " غوستاف "، الرياضية المكشوفة والباهظة الثمن، تخترقُ الشارعَ المليء بأصداء الضربات الأولى لطبول ساحة جامع الفنا. فيما هوَ مستسلمُ الجسد لرخاء النسمات الخريفية المعتدلة، ومشغولُ الفكر بخطة إحياء حفل الليلة، جاست عيناه اليقظتان، المحتفظتان بطفولة الخرز الأزرق، فوقَ الملامس الحريرية والبرونزية لأفخاذ تلكم الفتيات، الساطعة تحت الملابس الخفيفة.
" فيفا ميني جوب..! فيفا موضة السبعينات! الوداع لعقد السبعينات الرائع! "، صرخَ بهنّ ملوّحاً بيده قبل أن تدوسَ رجله ثانيةً على منشّط البنزين. نداءاته، كانت تستثيرهن وتشعل حماستهن: " بونجور صديقنا الفرنسيّ، المجنون! ". وهيَ ذي إحداهن، ترصُده عند إشارة المرور الحمراء مهددةً بحقيبة يدها: " ألا تدعوني لحفلة رأس السنة، أيها الكَاوري القذر؟ ". كانت ثملة، ولن تلبث سيارة شرطة أن توقفها لتختتم يومها بين أحضان ضابط فاسد. هذه الفكرة، أعادته خمسة عشر عاماً إلى الوراء، إلى ذلك اليوم المقدّر له أن يتعرّف فيه على الملازم أول " العُرْبي ".
مثلما سبقَ وجرى تفصيله، في مكانٍ آخر، تخلّصَ " غوستاف " من ورطةٍ مع الشرطة بفضل ضابطٍ كان على ما يبدو على معرفة بزوج عشيقته. وإنها " نفيسة " نفسها، مَن أخبرته لاحقاً أن ذلك الضابط لم يرضَ إقفال التحقيق إلا بعدما نالَ وطره منها. وشاءت ظروف العمل بالتجارة، المشروعة منها والمقيّدة بالقوانين الصارمة، أن تتوثق العلاقة رويداً بين " العربي " والعشيقين. كان يقدم لهما بعضَ الخدمات، مقابل مكافآت صغيرة. ومع كلّ تطوّر بلغة " غوستاف " المحكيّة، كان صديقه يرتقي في سلّم الرتب. كذلك كثيراً ما شارك الضابط في التواصل بفتياتٍ رخصات، اعتدنَ على التواجد في شقة بضاحية الغزوة، مستأجرة من لدُن " الكَاوري ". هذه الصفة، المشنوعة نوعاً، ما أنفكّ يوصمُ بها الصديق الفرنسيّ، هزلاً أو جدّاً، حتى بعدما أعلن إسلامه. إلى ذلك، كان الضابط يُضفي أهميةً مبالغاً فيها على حمايته لصديقه. كأن يخبره، مثلاً، بكونه تحت رقابة البوليس السريّ لشبهة التجسس لحساب المخابرات الفرنسية ـ كذا ـ وأنه يُحاول إقناعهم بزيف هكذا تهمة.
ذاتَ ليلة، كانا في الشقة لوحدهما بعدما تخلصا من الفتيات. قال له الضابط بلسانٍ ثقيل مخمور: " إنهم يشكّون في نفيسة، فلتأخذ حذرها وتحتاط لأمرها. بلى، لديهم معلومات مؤكدة.. على ما يزعمون، بطبيعة الحال! قلتُ، أنها بحَسَب معلوماتهم، تقوم كلّ مرة بتهريب كيسٍ من الهيروين عبرَ منفذ مدينة سبتة.. كيس من 200 غرام، تخفيه بمهارة في فَرْجها. إنه مثلما تعلم يُساوي الكثير، ثمة في اسبانيا.. أعني، الهيروين! "
" وكيفَ لي أن أعلم، بحق الشيطان؟ ثمّ ماذا كانت تفعل في سبتة، وهيَ لا تعرف من المغرب سوى الصويرة ومراكش؟ "، قال في حدّة للرجل الثمل. بدا جلياً من ارتباكه، المعبّر عنه بحركة يده، أن تلك المعلومة قد لفقت بقصد التباهي أو ربما الابتزاز. ولكي لا يتنزّه الضابط الفاسدُ مرة أخرى في هكذا حديقة، عادَ " غوستاف " للقول مشدداً: " أياً كان مَن تفوّه بتلك القذارة في حق نفيسة، فإنّ عليك إفهامه بأنه لن يحصل على شيء من وراء ذلك. إننا ندفع لك ما تستحقه من خدماتك لنا، ومن عملنا بمجال التجارة الحرة الخالية من أيّ شبهة ". جواباً، همهمَ الرجلُ ببعض الكلمات في وهن، دونما أن يجرؤ على النظر في عينيّ جلّيسه: " الثرثرة، هيَ أصل المشكلة. فتياتك، يخرجن من هنا لينشرن بين معارفهن أنك لم تختن نفسك، وفي التالي، أنّ إسلامك باطلٌ "
" وما هيَ علاقة الختان بموضوعنا؟ يُخيّل إليّ أنك أفرطتَ في الشراب! "، هتفَ به وهوَ يكبتُ ضحكة مخنوقة في صدره. نظرَ الآخرُ تلقائياً إلى زجاجة الشراب شبه الفارغة، ثم أجابَ في وقار: " هكذا نحنُ المغاربة، نتعلق بقشور الأشياء لا عمقها. وكذلك هوَ تديننا، مظاهرٌ أكثر منه إيماناً حقاً. حينما يتحول الكَاوري إلى الإسلام، يُصبح ذا أهمية لا تقاس وتلبى كل طلباته. أما لو شكّوا بحقيقة إسلامه، فإنهم لا يتورعون عن حشو فمه، الذي نطق الشهادتين، بعضوه الذكريّ المقطوع ".
قبل وهلةٍ، كاد " غوستاف " أن ينفجرَ ضاحكاً لما طرقَ أذنه حديثُ الختان. ذلك كان بسبب حادثة قديمة، حصلت بُعيدَ تعرّفه على هذا الضابط، الطريف الطبع ـ كأغلب من هم على شاكلته من أصحاب الكروش الكبيرة والقامة القصيرة.

> مستهل الفصل الثامن/ الجزء الثاني، من رواية " كعبةُ العَماء "













https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن