هل الحرية سالبة أم موجبة؟: تأملات فلسفية حول مفهوم الحرية عند عزمي بشارة

كمال طيرشي
Kamel.tirchi9@gmail.com

2018 / 5 / 31

هل الحرية سالبة أم موجبة؟: تأملات فلسفية حول مفهوم الحرية لعزمي بشارة
-الحلقة الأولى-
بقلم: كمال طيرشي
دُرس مفهوم الحرية منذ القدم من لدن الكثير من أرباب الفلسفة و النظر، و تباينت تصوراتهم و أطروحاتهم حولها،باختلاف توجهاتهم الفكرانية و مذاهبهم الدوغمائية، إلا أن السواد الأعظم فيهم يعتبر الحرية هي القدرة على الفعل أو الترك وفق وعي و إرادة و تعقل، وهو المعنى الواسع لها الذي يكاد يجمع عليه الكثير،هذا التصور الذي ينعته المفكر العربي عزمي بشارة بالحرية الموجبة ، إلا أن هذه الحرية يمكن لها أن تتمظهر على ضربين سالب و موجب في الآن عينه، إذا ولجت المدلول الأكسيولوجي القيمي، و تدثرت به، هذا المدلول الذي يتجلى بوضاحة في الواقع الممارساتي، و الديمقراطية في شقها الليبرالي هو نظام يمكن له أن ينظم هذه الحريات و يعمد إلى ضمانها في الوقت نفسه .(مقالة في الحرية، ص73).
يؤكد بشارة على أن عملية التحرر من الأنظمة الطغيانية التي تقمع حريات الأفراد و تزدريها، لا يدان لها أن تتجسد في غياب الحريات و نظام يعمل على حماية هذه الحريات و رعايتها، لأنه إذا لم يكن هناك نظام متمرس يعمد إلى رعاية و حفظ و كفل هذه الحريات ، سيؤدي بالضرورة إلى انبجاس طغيان جديد، ربما يكون أكثر وحشية، أو إلى نوع من الفوضى المؤقتة التي تفسح الطريق لقيام طغيان أكثر عنفاً و دموية، أو إلى حروب أهلية لا يعرف مداها و آثارها الوخيمة على لحمة الفرد و المجتمع، لهذا يكون النظام الأنجع و الأكفل و الأسلم بالنسبة للبشر بغية تنظيم حياتهم و حفظ حرياتهم هو النظام الديمقراطي، فهي على حد توصيف بشارة مدينة الحرية ، وهو نعت يقتبسه عزمي من فلسفة أرسطو طاليس السياسية، باعتباره أهم منظر سياسي عرفته العقلية الأوروبية في الأزمنة القديمة، وهي وفق تصوره النظام السياسي الأوحد القادم على احقاق الحرية و المساواة بين البشر، وهنا بالذات تتبلور قوتها و صرامتها، و في نفس الوقت مكمن ضعفها، و اعتبر بأن الطغيان يحصل حينما يستخدم البشر الحرية بطريقة سيئة، و هذا ما بسطه في كتابه : السياسة (يمكن الاطلاع بتوسع عن هذه القضية بالرجوع إلى كتاب أرسو طاليس، السياسة ، ترجمة أحمد لطفي السيد، ضمن سلسلة طي الذاكرة، المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات، 2016، ص ص 383-384).
و قد سار على نهج أرسطو في مفهوم الحرية ، المعلم الثاني أبو نصر الفارابي، في كتابه السياسة المدنية ، الملقب بمبادئ الموجودات، و يعتمد الفارابي ههنا نعت الديمقراطية المدينة الجماعية، وهي تتأسس على تواشج و تلاحم الحرية و المساواة، و لذلك نجد المعلم الثاني يعتمد مبكراً مصطلح الحرية لكن خارج أقنومي: العبودية و الحرية و تأكيداً على ذلك يقول الفارابي أن المدينة الجماعية هي المدينة التي كل واحد من أهلها مطلق ، مخلى لنفسه يعمل ما يشاء و ما يريد، و أهلها متساوون، و تكون سنتهم أن لا فضل لبشري على آخر بشيء أصلاً، و يكون أهلها أحراراً يعملون ما يريدون بكل أريحية، و لا يكون لأحد على أحد منهم و لا من غيرهم سلطان، إلا أن يعمل ما تزول به حريتهم، فتحدث فيهم أخلاق كثيرة و همم عالية و شهوات كثيرة و لذاذة بأمور كثيرة لا يمكن حصرها ، و يكون أهلها و طوائف كثيرة متشابهة و متباينة لا تحصى كثيرة أيضاً.
فتجتمع في هذه المدينة تلك التي كانت متفرقة في تلك المدن كلها، الخسيس منها و الشريف، و تكون لرئاسات بأس شيء اتفق من سائر تلك الأمور التي ذكرناها، و يكون جمهورها الذين ليست لهم ما للرؤساء مسلطين على أولئك الذين يقال فيهم أنهم رؤساؤهم، و يكون من يرأسهم إنما يرأسهم بإرادة المرؤوسين و يكون رؤساؤهم على هوى المرؤوسين، و إذا استقصي أمرهم لم يكن فيهم في الحقيقة لا رئيس و لا مرؤوس، إلا أن الذين هم المحمودون عندهم و المكرمون هم الذين يوصلون أهل المدينة إلى الحرية، و إلى كل ما فيه هواهم و شهواتهم ، و الذين يحفظون الحرية و شهواتهم المختلفة المتفاوتة عليهم بعضهم من بعض، ومن أعدائهم الخارجين عنهم، و يقتصرون من الشهوات على الضروري فقط، فهذا المكرم و الأفضل و المطاع فيهم، و من سوى ذلك من رؤسائهم فإما أن يكون مساوياً لهم، أو أن يكون دونهم ( أبو نصر الفارابي ، كتاب السياسة المدنية: الملقب بمبادئ الموجودات ، ص ص 99-100).
و لهذا كانت هذه الديمقراطية المبكرة على حد توصيف بشارة المستقاة من تنظيرات أرسطو كاليس ضرباً من ضروب تنظيم الجماعة، و لا تنفصل عراها عن حقوق الفرد الحر من عضويته في الجماعة التي هو جزء لا يتجزأ فيها، و أن العقاب الوخيم الذي يمكن أن يطال المواطن فيها و إخراجه منها، وهو ضرب من العقاب الذي حبذه سقراط و تجرع السم على إثره ، بحكم أنه خرج عن المعهود لدى المجتمع اليوناني، و حاول أن يثور عن مبادئ هذه الجماعة و عقيدتها و رؤاها السياسية و المعتقدية، فأخرج من هذه الجماعة و اضطر إلى تجرع السم كعقاب له. إلا أن الفارابي في المقابل من ذلك اعتبر الحرية مبدأها. (مقالة في الحرية، ص 74).
لكن هل هذا يعني أن التغني بالحرية سيكفل بالضرورة حريات الأفراد ، و يجعلهم يتنعمون بها؟، أم أنها مجرد شعارات تعتمدها بعض الأنظمة التسلطية القمية ، بغية تبرير قيوميتها و مكانتها؟
يعتبر المفكر بشارة أن الحرية كمبدأ تتغنى به الشعوب لم يعد كافياً بالمرة، حيث شهدنا على تداول هذا الأقنوم لقمع حريات البشر باسم الحرية نفسها، حيث استعملت الحرية بطريقة مجازية لتبرير طغيان الكثير من الحكام و الأنظمة الفاسدة ، كأن يتغنى ديكتاتور متسلط أن المبدأ الأساسي الذي سيرعاه و يكفله لرعيته هو ضمان حرياتهم وتعريفهم بها و حفظها من أي تطاول من لدن أعدائها، فتقمع بذلك حريات أناس باسم حرية الشعب و سيادته و أن الحكم للشعب و أنه هو الذي يقمع كل ما يمس بحريته، و تجلى هذا التصور في القرن العشرين بصورة خاصة ، و تمظهر بشكل جلي في ثورات الربيع العربي، حيث ظهر الحكام كأنبياء يتغنون بالمبادئ العظيمة و الرفيعة للحرية ، و أن شعوبهم أحبتهم لأنهم كفلوا لها مقدار كبير من الحرية و كفلوها لهم باسم الدستور و القانون، و أن أية حركات احتجاجية ماهي في الحقيقة إلا تحركات شاذة يعمد إليها البعض بغية افساد هذه النعمة المغدقة عليهم ، و أن عليهم قمعها و دحرها.(مقالة في الحرية، ص 75).
و لهذا يلزم وجوباً أن تضمن هذه الحريات الشخصية للأفراد بعيداً عن هوس حكامهم، و إنما من خلال مؤسساتي يكفل الحريات الشخصية و المدنية و السياسية و ذلك عبر القوانين الدستورية ، ووجود جهاز قضاء مستقل يحكم بموجبها و هو شرط مركزي و أساسي، و كذلك قوات أمن ملتزمة و منضبطة بالاحتكام لهذه القوانين ، بالإضافة إلى وجود نوع من الاجماع على صون هذه الحريات من طرف الفاعلين السياسيين و الاجتماعيين برمتهم، و لهذا لابد من الوقوف على المدليل الحقاني للحرية ، باعتبارها حق بشري يجعل منه سيد قراره من دون املاءات برانية متخارجة عنه تفرض عليه قسراً، فهي انعتاق من أي إلزام داخلي أو خارجي، حيث يكون للفرد السيادة الكاملة على ذاته و في كل تصرفاته التي يقوم بها ، بما في ذلك أسلوب حياته المعيش و عقيدته الدينية و ممارساته الشعائرية لطقوسه الدينية، هذا بالإضافة إلى موقفه السياسي كيفما كان، و استقلاليته التامة و الكملة بنفسه و جسده، و الحق في تقرير مصيره من دون تدخل من أي كان مهما كانت منزلته و قيمته، و بالتالي تصبح الحرية مسؤولية .
وهو المنظور الذي طرحت الفلسفة الوجودية في أوروبا خصوصاً مع الوجودي الفرنسي جان بول سارتر الذي نعت الإنسان بالحرية، و أن وجوده يسبق ماهيته ، و أن لا يمكن أن يكون إلا حراً حرية مطلقة، في مقابل تحمله الكامل و التام للمسؤولية، و لعل هذه الحالة لها شجونها الخاص، خصوصاً مع اللاهوتي الدانماركي سورن كيرككورد الذي اعتبر القلق هو دوخة و دوار الحرية، بحكم أن القلق الوجودي الذي يؤز في روح الانسان يعود بالدرجة الأساسية إلى الحرية الموهوبة له، و التي تبيح له قرار الاختيار ضمن الممكنات المتاحة له، و في ذلك مجازفة كبيرة لأنه في النهاية لابد أن يختار ممكن واحد ضمن خيارات كثيرة جدا متاحة له و في ذلك مجازفة كبيرة، و شبهه كيرككورد بذلك الفرد الذي يصعد إلى أعلى جبل ثم ينظر إلى الأسفل فيشعر بدوخة أو ربما غثيان شديد و جزع كبير ( انظر: جيمس بارك، القلق الوجودي، ترجمة: سلمان عبد الواحد كيوش، دار ومكتبة البصائر، بيروت، ط1، 2012. ص 49).
و يعتقد بشارة أن الحرية السالبة لا تنبجس بذاتها في التاريخ، لا كحرية اختيارية غارقة في التجريد، و لا باعتبارها هتكاً و دحراً لأي قيود، كما لا تتجلى الحرية الموجبة وحدها، من دون صيرورة تحرر، فالتصنيفات بين حرية سالبة و حرية موجبة، التي اقتبس إسايا برلين المفكر البريطاني، أستاذ النظرية الاجتماعية والسياسية في جامعة أكسفورد، الذي توفي عام 1997.و لعل من كتاباته التي تحيلنا إلى هذا الاقتباس : كتابه : الحرية خمس مقالات في الحرية (الكتاب مترجم إلى اللسان العربي، و يمكن الاطلاع عليه، انظر: إسايا برلين، الحرية: خمس مقالات في الحرية، ترجمة: يزن الحاج، تحرير: هنري هاردي، دار النشر: المركز القومى للترجمة ، بيروت، لبنان). و يؤكد بشارة على أن ما كان يعتقده هيغل في شيخوخته أن الثورة الفرنسية التي تحمس لها في شبابه عبرت عن حرية سالبة هو من لزوميات نسقه الفلسفي ليس إلا، فمن خلاله تتجلى الوقائع كأنها تمظهرات لأفكار غارقة في التجريد، كما أن الثورة الفرنسية لم تكن البتة تمثلاً لحرية سالبة مرهونة مقتصرة على الهدم ، حيث تضمن إعلان حقوق الإنسان جزءاً كبيراً من حقوق المواطن التي نعتبرها في وقتنا الحالي أساس الحريات الموجبة.( مقالة في الحرية ، ص 77).
يتبع ...



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن