تصوف ومتصوفة

ميثم الجنابي
m-aljanabi@mail.ru

2018 / 5 / 25

توطئة
ان المقدمة النظرية التي تلي هذه التوطئة، هي تقديم لسلسلة من المقالات التي اخطط لكتابتها ونشرها. وهذه بدورها استمرار واستكمال لما انقطعت عنه في غضون السنوات العشر الأخير لأسباب تتعلق بإحساسي وإدراكي للأولوية والضرورة في كتابة أو إتمام ما كنت منهمكا به أو مخططا له.
ان هذه المقالات التي اخطط لانجازها (بحدود عشرين – ثلاثين) هي الجزء "التطبيقي" على مثال بعض الشخصيات الصوفية، أما الجزء الأول والتأسيسي فسوف أتناول فيه القضايا الفلسفية الكبرى للتصوف "العملي". بعبارة أخرى ان هذين الجزأين هما كتاب واحد كنت قد خططت له قبل فترة طويلة بوصفه الجزء الثالث من كتابي (حكمة الروح الصوفي). وقد طبع هذا الكتاب مرتان. ويحتوي على قسمين أو كتابين، الأول ووضعته للمناطقة، اي ذوي التفكير المنطقي (تحت عنون "بذل الروح")، والثاني لذوي التفكير الوجداني من أدباء وشعراء وفنانين (تحت عنوان "فلسفة الإبداع")، والثالث، الذي سأنشر ما يمكنني الآن كتابته، موجه لأهل السياسة (وسوف انشره تحت عنوان "سياسة الروح وروح السياسة"). ولم يكن كتاب (حكمة الروح الصوفي) سوى الصيغة المكثفة جدا لفلسفتي الخاصة عن الفكرة الصوفية.
فقد كنت اخطط قبل أكثر من ثلاثة عقود من الزمن لوضع موسوعة الفلسفة الصوفية وليس تاريخ الفكر الصوفي وشخصياته. وقد وضعت لخطتي هذه عنوان (مائة كتاب عن مائة صوفي). وهي كتب متباينة من حيث عدد صفحاتها حسب حجم ومؤلفات هذه الشخصية الصوفية أو وتلك. ووراء كل هذه المهمة كانت تقف أمامي شخصية ابن عربي. فقد كان هو بداية ونهاية اهتمامي بالتصوف آنذاك (ولحد ما حتى الآن). حيث صرفت عليه عقود وما أزال من الزمن. لكنني لم اكتب عنه لحد الآن اي شيء! مع ان بحوزتي آلاف الصفحات"المتناثرة" عنه، والتي لم تتسن لي بعد فرصة التفرغ الكامل لجمعها ووضعها في كتابة ما كنت قد خططت له. وقد كانت تلك ما تزال من الغاز الحياة العلمية وليست الشخصية أو الفلسفية. والحصيلة تقوم في ان هناك اسباب عديدة أدت إلى ان اترك مشروع (مائة كتاب عن مائة صوفي) والاستعاضة عنه بكتاب (حكمة الروح الصوفي). أما أبن عربي فيبقى اللغز المحير بالنسبة لي سواء بمعايير الالتزام الروحي والعلمي أو بمعايير الأنا. وسوف أبقى أنا وإياه أمام وميض الأبد الروحي. لأنني على يقين بان كل ما كتب (إلا القلة القليلة جدا) عنه منذ موته ولحد الآن يمكن الإبقاء عليه على رفوف الماضي أو رميها في مزابل المكتبات الخربة. اذ ان اي منها لم يستطع الوصول حتى إلى أقدامه. وما وراء ذلك عوالم غير متناهية.
***

للثقافة أرواح مختلفة ومتنوعة، لكنها تنسج في مجرى مكابداتها المعرفية والأخلاقية ما ادعوه بالعقل الثقافي للأمة، اي العقل الفاعل بقواعد ومعايير المرجعيات المتسامية الكبرى للثقافة نفسها. وإحدى أهم مرجعيات العقل الثقافي الاسلامي هي الحكمة. وهذه بدورها تتخلل، من حيث مقدماتها ووظيفتها وماهيتها، جميع مظاهر العقل النظري العملي الإسلامي. ففي الفقه هي فقه حقيقة الشرع، وفي الكلام هي حكمة الدفاع عن عقائد المسلمين العامة، وفي الفلسفة هي الفلسفة ذاتها بوصفها حب الحكمة، وفي التصوف هي كله. اذ تبدأ الحكمة فيه من إدراك حقيقة الطريق إلى الحق، لتنتهي بتحقيقه في البحث عن الحقيقة، والتحقق بها بوصفه طريق الحق. الأمر الذي جعل التصوف مسعى لولاية النفس بمعايير الحق عبر الفناء به والبقاء بمعاييره. وبما أن الحق هو عين الحكمة، والحكمة هي مظهر الحق، من هنا تنوعها غير المتناهي في الشخصية الصوفية. وليس مصادفة أن تكون فكرة الولاية والأولياء من نصيب الفكرة الصوفية وطرق تحقيقها في الطريق الفردي. من هنا اثر التصوف في بلورة المرجعيات الروحية الكبرى للثقافة الإسلامية وعقولها النظرية والعملية. بحيث يمكننا القول، بأن الثقافة الروحية الإسلامية لا تعقل خارج التصوف، فهو الذي صاغ وبلور مرجعياتها المتسامية. وقد وافقه ورافقه التشيع في بعض جوانب هذه الصفات، عندما رفع فكرة الولاية إلى مصاف الولاية الأبدية. بل اعتبر الولاية الحقة له ومنه كما في الشعار القائل "لا ولي إلا علي".
غير إن الفرق بين التشيع والتصوف يرتقي إلى مستوى التباين النوعي في المنظومة وعقائدها وغاياتها. ففي التشيع تعود أصول فكرة الولاية إلى تاريخ الصراع السياسي وتأسيسه العقائدي والديني، بينما تعود في التصوف إلى تاريخ الوعي الذاتي لقيمة الروح المتسامي. وبالتالي ليست فكرة الولاية الصوفية سوى نموذج الإفناء الشامل للرذيلة والبقاء بقيم الفضيلة المتسامية، اي كل ما يرافق الإرادة المتفانية للروح والجسد في تحقيق المثال الأخلاقي في طريق الحق والحقيقة. وفي مجرى هذه العملية تتراكم الإرادة الصوفية بوصفها تهذيبا وتنقية دائمة لكل ما يمكنه تحقيق النزوع الإنساني الفعلي في مواجهة إشكاليات الوجود الطبيعي والماوراطبيعي للمتصوف. بمعنى إدراك الحقائق الكبرى والعميقة التي يجري اكتشافها في مسار التجربة الذاتية. وهي تجربة فردية وفردانية بالضرورة. لكنها في الوقت نفسه تعكس اثر المرجعيات الثقافية الكبرى في الثقافة العامة والخاصة.
فالتصوف الاسلامي هو إسلامي بالضرورة. وبالتالي، فإن صيرورته وكينونته محكومة بأثر وتأثير المرجعيات الفكرية والروحية والثقافية الكبرى للدين الإسلامي والثقافة الإسلامية. وشأن كل ظاهرة كبرى ومؤثرة وجوهرية في صيرورة وكينونة الروح الثقافي عادة ما تبدأ بشخصية وتنتهي بانتهاء قدرتها على الإبداع الحي. وليست هذه البداية "الشخصية" سوى نهاية ما ادعوه باللحظة التأسيسية للفكرة والتيار والمدرسة. وفيما يخص التصوف، على الأقل بمعايير التصنيف التاريخي الصوفي، أو بصورة أدق بمعايير تصنيف السلسلة الصوفية، فانه عادة ما يربطه بشخصية إبراهيم بن ادهم. أما في الواقع فإن "بدايته" الصوفية هي نتاج تراكم تاريخي هائل في صيرورة الروح الأخلاقي الإسلامي المتسامي الذي وجد تعبيره في الأتقياء والورعين والزهاد وفدائي الروح السياسي المتسامي. وقد أشار إبراهيم بن ادهم نفسه على من قبله في هذا المسار إلى كل من ثابت البناني، وأيوب السختياني وغيرهم.
***
ان حقيقة التصوف أو ما ادعوه بحكمة الروح الصوفي هي البقية الوحيدة الباقية من حصيلة الثقافة الإسلامية. وكل ما عداه أما ميت، أو "حي" في بعث الأموات، أو متهالك في دفع الأحياء صوب الجحيم. والسبب يمكن ان التصوف روح متسام من الناحية المجردة، وفعال في تربية الارادة المتسامية، وخلاق في تهذيب الإدراك الوجداني، ولابد منه في ترقية الجميل بشكل عام والأدب بشكل خاص. وقد حدس السلمي في عبارته القائلة، بان المتصوفة هم "أولئك الذين يثبتون ظواهر الشريعة وبواطن الحقيقة ويحملون الأمة على آدابها"، وبالتالي "إنهم خلفاء الأنبياء" . وفيما لو أنزلنا هذه العبارة من علياء البلاغة القديمة إلى ميدان الحكمة العملية، فأنها تعني بان لكل زمن دعاته وأولياءه، اي لكل زمن نخبه المتسامية بوصفه أسلوب وجود الحكمة الحية في حياة الأمم. أما انعدامهم أو ضعفهم التاريخي والفعلي فانه مؤشر على "موت" الأمم أو سباتها العلمي والعملي. والعالم العربي المعاصر ليس بحاجة إلى "خلفاء الأنبياء" بالمعنى الديني واللاهوتي، بل إلى خلفاء الوحي التلقائي والمبدع في مواجهة إشكاليات وجودنا التاريخي الواقعي عبر تحديه الفعلي وإرساء أسس البدائل المستقبلية بمعايير المستقبل نفسه.
***
لقد كان الروح وما يزال يثير بقدر واحد إشكاليات لا تحصى أمام منطق الفلاسفة، ويستثير وجدان الشعراء في بحثهم عن صيغة متجانسة (هرمونيا) للشكل والمعنى. بينما لا تفعل في الوعي اللاهوتي إلا على كسر إرادته بالانحناء أمام "سر الإسرار" والقبول به بوصفه قيمة ومعنى لهما تاريخهما الخاص في الإرادة الأزلية للآلهة.
أما بمعايير المنطق التاريخي، فان إشكالية الروح والروحانية ليست إلا الصيغة العقلية والأخلاقية الملازمة لتاريخ الفكر والوجود الإنساني. وليس مصادفة أن يتطابقا في الشكل والمعنى. وذلك لأنهما يحتويان على أصل وجذر واحد، بمعنى أنهما كلاهما يمتصان رحيق وجودهما من أرضية المعاناة الإنسانية في البحث عن المعنى وبلوغ الكمال. وهي عملية يمكن رؤية ملامحها المنطقية المجردة في تاريخ انتقال الفكر والفكرة من الروح العادي إلى الروح المعرفي ومنه إلى الروح المطلق. عندها جرى قفل "تاريخ الروحانية" بالمعنى القديم. أما المحاولات التي سعت لتجاوز هذه التقاليد، فانه جرى خزنها ضمن مصطلح "الروحانية". من هنا بقاء الأولى من حيث كونها تاريخ وتقاليد وفكرة وإشكالية معرفية نظرية وعملية، واندثار الثانية بوصفها ولعا عابرا أو مرحلة قلقة في بحث الروح عن روحانية راديكالية!
أن بقاء الروحانية وإثارتها للجدل الفكري والبحث الفلسفي مرتبط أساسا بطبيعة الترابط التاريخي بين مصادرها الأولى وحالتها في العالم الحديث، بوصفها فكرة متسامية. إذ ليست الروحانية في الواقع سوى الصيغة المعبرة عن محاولات تجاوز الأرضي والتاريخي صوب السماوي وما وراء التاريخي.
إن هذا التوجه لم يكن معزولا عن تناقض العقل والوجدان حالما أخذا بالصراع باعتبارهما أساليب منهجية في الرؤية والمواقف العملية. وهو تناقض مازال يشغل حيز التأمل الفكري والاجتهاد الفلسفي. وقد تكون قضية الأخلاق من بين أكثرها إثارة وجلاء بهذا الصدد. أي ما هي الطريقة المثلى لبلوغ حالة الكمال الأخلاقي، وما هي الأساليب النظرية والعملية الكفيلة بتجسيد أو تحقيق مهمة الكمال. وهي فكرة حالما يجري التأسيس لها بمعايير الفكر الفلسفي، فإنها تضع الفكر بالضرورة أمام "المهمات العملية".
ولكل عصر مهماته العملية التي تدفع بها هذا الشكل أو ذاك من أشكال الوعي إلى المقدمة بوصفه الصيغة الأكثر تعبيرا عن تحقيق الكمال الأخلاقي، أي عن كمال الروح. بعبارة أخرى، إن الروح الذي شغل الوعي الأسطوري والمنطقي، الفلسفي العقلي واللاهوتي، الديني والدنيوي، وما يزال يشغله بمختلف أشكاله ومستوياته، لم يفقد قيمته بمعايير العقل والوجدان الحديثة أيضا. الأمر الذي يشير إلى جوهرية فكرة الروح والروحانية العالمية والتاريخية. إذ ليست الروح والروحانية سوى الاشتقاق الأكثر سموا للتعبير عن الإشكالية النظرية والعملية للمعنى التي لا تعقل الفلسفة بدونها.
فالتفكير الفلسفي منذ البدء هو بحث واجتهاد خاص عن المعنى. من هنا تداخل الحس والعقل والحدس في مغامراته المغرية. وأبدعت مختلف المراحل التاريخية والثقافات تصوراتها وأحكامها ومدارسها الرامية إلى إيجاد الصيغة المثلى للكمال الروحي. ومن بين هذه الاتجاهات أو المدارس الكبرى في الثقافة الإسلامية تجد الإشارة إلى التصوف.
فقد أبدع التصوف منظوماته الخاصة بهذا الصدد. من هنا إثارته للاهتمام العلمي الفلسفي بما في ذلك في ظروفنا المعاصرة التي جعلت من قوة التكنيك والاستهلاك والسرعة عناصر جوهرية في طاقة الوجود الإنساني ولحد معناه. غير أن التأمل العميق لهذه الظاهرة يكشف عن أن غبار الزمن لا يمكنه تغطية معنى القيمة التاريخية الكبرى في رؤية الأسلاف وتجاربهم في البحث عن الكمال. والسبب يكمن في أن توجههم صوب المطلق كان يحمل في ذاته توجها صوب النفس والبحث فيها عن تناقضات الوجود، أي عن المعنى. وهو توجه لا مكان فيه للسرعة، لأنها تصبح مجرد عجالة. وبالتالي لا قيمة لها (السرعة) ضمن سياق هذه المنظومة الخاصة للقيم والبحث عن المعنى. على العكس إنها لا تنتج غير عرقلة وتخريب التراكم الضروري لخميرة الإرادة في البحث عن المعنى، والكمال بمعاييره.
ولعل شخصية ابن عربي من بين أكثر الشخصيات الكبرى في التصوف، التي تركت أثرها في هذا الميدان. من هنا الاهتمام العالمي المتزايد به مع كل إجلاء متجدد لتراثه الذي ظل مغمورا تحت ثقل طين السيول المدمرة لمراحل الانحطاط وهيمنة اللاهوت التقليدي. وليس اعتباطا أو مصادفة أن يأخذ باحتلال المكانة الكبرى وسط الباحثين والعلماء الكبار في ميدان الفلسفة والتراث الإسلامي.
أما محاولات ربط التصوف وأصوله وبعض شخصياته بأثر وتأثير الأديان الأخرى من بوذية وهندوسية ونصرانية وغيرها فلا تعدو كونها مقارنات مفتعلة ولا قيمة عليمة فيها. وذلك لان هذه التصورات والأحكام تتسم بقدر كبير من الجهل والتسطيح. فالتصوف أصيل بكل ما فيه. والسبب يكمن في جذوره وأصوله الذاتية (الإسلامية). وكل ما عد ذلك مجرد مظاهر تستهوي التطفل والعابر وليس المعرفة الحقيقية.
وفيما لو تناولنا هذه القضية بمعايير الرؤية العلمية الدقيقة، فمن الضروري الانطلاق من واقع اختلاف الآراء والمواقف من حقيقة التصوف وماهيته ومن ثم أصوله وجذوره. وهذا بدوره مرتبط أما بالرؤية المنهجية أو بمستوى المعارف والمدارك. إلا ان هذا المدخل العام لا يحل كما يقال هذه الإشكالية، وذلك لان الحكم على التصوف يفترض الإلمام والدراية به من حيث كون علما وعملا، وتقاليد ومنظومات وفلسفات. وهذه بدوها وثيقة الارتباط بكافة مكونات ومراحل الثقافة الإسلامية. ان الجهل بهذه الجوانب أو عدم درايتها ومعرفتها كما هي، عادة ما يقف وراء الأحكام السريعة والسطحية عن التصوف، بما في ذلك فيما يسمى بالدراسات "العلمية" و"الموضوعية" التي تحاول البرهنة على ان التصوف هو "نتاج" مدارس أو أديان ما أخرى غير الاسلام وتاريخه الثقافي.
ان التصوف هو المدرسة الأوسع والأعمق والأكثر أصالة للثقافة الإسلامية. انه مدرسة المطلق الاسلامي الثقافي والتاريخي.
ففيما لو أجملنا حصيلة المدارس أو الاتجاهات النظرية والعملية الكبرى التي لازمت تطور العقل النظري والعملي في الثقافة الإسلامية، فان من الممكن حصرها بأربع وهي الفقه وعلم الكلام والفلسفة والتصوف. والفقه والتصوف هما المدرستان الإسلاميتان الأكثر أصالة وصميمية. وشأن كل مدرسة أو تيار أصيل وصميمي، فانه ذاتي بالضرورة، اي انه نتاج تلقائية التطور الذاتي للثقافة المعنية.
فكل ما في التصوف أصيل بذاته، وإسلامي، بمعنى انه نتاج تطور الثقافة الإسلامية كما هي. واقصد بذلك الثقافة العامة وليست الدينية. فالثقافة الإسلامية أوسع بما لا يقاس من ان تربط بالدين لحاله وحده. وذلك لان الدين لا يشكل من حيث الجوهر فيها إلا نسبة ضئيلة جدا للغاية. وما عدا ذلك، بوصفه مضمونها التاريخي، هو نتاج الاجتهاد العقلي والروحي في مختلف ميادين الحياة والوعي.
والتصوف هو احد نماذج ومستويات وميادين التجربة الحسية والعقلية والحدسية للثقافة الإسلامية في محاولاتها تأسيس فكرة المطلق، أو ما أطلق عليه التصوف عبارة الحق والحقيقة. فهي الوحدة الخاصة التي ميزت وجوده التاريخي والفكري والروحي، التي نعثر عليها في مجرى المعاناة الهائلة والمتنوعة لشخصياته على امتداد قرون في مجال تدقيق وتحقيق وتشذيب وتهذيب مختلف علومه وطرقه وأساليبه ومفاهيمه واصطلاحاته وقواعده ومبادئه، اي كل ما يميز فرادته الأصيلة. بحيث يمكنني القول، بان كل ما في التصوف أصيل بصورة تامة. وإذا كان أسلوبه الشكلي يتمظهر في وحدة الطريقة والشريعة والحقيقة، فلأنها الصيغة التي تعكس أولا وقبل كل شيء صيرورته الذاتية. انه طريق بلوغ الحقيقة عبر التمرس في شريعة الأمة التاريخية، اي منطق إدراكها للحق في مختلف ميادين الحياة. وهي الصفة الجوهرية للتصوف الاسلامي، التي لا نعثر على شبيه لها في كل نماذج التصوف الأخرى على الإطلاق. من هنا عمق تجارب التصوف الاسلامي النظرية والعملية وتنوعها الهائل.
طبعا اذ ذلك لا ينفي إمكانية تأثيره بمختلف المدارس والاتجاهات والشخصيات الدينية والدنيوية، الفقهية والكلامية، الفلسفية والعلمية الطبيعية، والشعر والشعراء والأدب والأدباء، المؤرخون وأهل السياسية، باختصار في كل ميادين ومجالات ومستويات المعرفة الإنسانية. فالتصوف كان يصهر كل نتاج التجارب الإنسانية من خلال تذويبها في تجاربه الخاصة. وهذه صفة المدارس الحية الكبرى. ان التصوف تجربة أو تجارب حية وليست عقائد ميتة. كما انه تميز على الدوام بانفتاح فكري وروحي هائل، من هنا عظمة كل ما فيه من الكلمة والعبارة حتى نظام الروح المتسامي.
أما الصيغة الشائعة "الشعبية" والغبية عن ربط التصوف بدروشة الأسواق الخربة والمحلات القديمة إضافة إلى الخرقة والمسبحة واللباس الرث وكثير غيرها، فأنها أما سوء فهم أو جهل أو تسلية جلساء المقاهي العتيقة المغرمة بدخان التبغ اللذيذ وعفونة النارجيلة! اذ لا علاقة جوهرية للتصوف والمتصوفة بهذه الترهات! ومن ثم فان هذه التصورات ليست إلا "خواطر" لتسلية الإنسان "العادي"، اي غير المحترف في هذا المجال، أو غير العارف بحقائق التصوف العامة، أو غير المتعلم بمعايير المعرفة العلمية أو غير المثقف بمنجزات العلم والرؤية العلمية المعاصرة. وبالتالي فهي جزء من الأوهام والخرافات التي لازمت مراحل الانحطاط التاريخي للثقافة الإسلامية، الذي أصاب التصوف أيضا.
ان حقيقة التصوف هي تجربة المطلق. ومن ثم فهي متنوعة وعلى قدر شخصياته. وبالتالي، فان كل ما لازمه من مظاهر عالقة لا علاقة صميمية لها بحقيقته. وقد أطلق الصوفية على هذه الأشياء عبارة "ترهات الصوفية". من هنا قولهم، إذا أردت حقيقة التصوف فابذل روحك، وإلا فلا تشتغل بترهات الصوفية! والخرقة والمسبحة وما شابه ذلك هي مظاهر لهذه "الترهات"، حالما تصبح ذات قيمة بحد ذاتها، ومعزولة عن جذورها وحقيقة حاملها. فالفنان العظيم والموسيقي الكبير والشاعر الفحل والفيلسوف الأصيل قد يصاب كل منهم بأثر حالة الإبداع بذهول واندهاش من الهام الإبداع يجعله غريبا في السلوك والأطوار والأذواق. اي كل كما يبدو في أعين الآخرين "جنونا". بينما الجنون كما يقال فنون، اي متنوع الصور والأشكال والمستويات. وما يبدو جنونا بمعايير الرؤية العادية هو عين العقل بمعايير الإبداع الكبير. بمعنى انه يتجانس مع حقيقة الإبداع التي تنفي وتنتهك الأعراف والتقاليد والمظاهر وتعيش بفعل ما فيها من وحي ذاتي. أنها تعيش وتعمل وتفعل بمعايير الروح والقلب. لكن الأمر يختلف حالما يقلد الجاهل والعادي والبليد هذه المظاهر. فخرقة الصوفي الأصيل شأن ملابس الفنان العظيم الرثة. ليس لأنه يحب الرثة، بل لأنه مشغول بما هو اكبر وأوسع وأعمق. انه يتجاهل المظاهر المزيفة والعرف المقيد للروح لأنه يعمل بمعايير أخرى، ويزن الأشياء بموازين أخرى. ومن تعود على وزن الحجر أو البطيخ فقط، قد يستهزئ بميزان الذهب والدر. بعبارة أخرى ان لكل شيء ميزانه الخاص. والخرقة والمسبحة أيضا، مع إنهما ليستا جوهريتان في التصوف، إلا ان لهما ميزانهما الخاص في تاريخ التصوف. واقصد بذلك رمزيتهما الخاصة، وبالاخص ما يمس الخرقة. ذلك يعني ان لكل منهما تاريخه الخاص. ولا ضرورة هنا للاستفاضة بكيفية نشوء هذه الأشياء ووظيفتها ضمن الطريق الصوفي وتربية المريد وسلوك الشيوخ. لكنني اكتفي بالإشارة إلى أنها، شأن كل ما في التصوف، ليس إلا حالة عابرة أمام مهمة وجدان المطلق، اي الذوبان في فعل الحقيقة من اجل إدراك النفس وتهذيبها الدائم. فهو طريق لا ينتهي ولا يتناهى، شأن الحق والحقيقة: جلي عصي ابد الآبدين! بعبارة أخرى، ان حقيقة التصوف فيما أشرت إليه في العبارة الأخيرة ولا شيء آخر!
*** *** ***







https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن