الإيمان الممدوح والتدين المذموم

عباس علي العلي
fail959@hotmail.com

2018 / 5 / 24

من الأمور الملفتة للنظر من خلال قراءة النص الديني المتوفر بين أيدينا وأقصد النصوص التي تكون جوهر الرسالة وليست المفسرة والمؤلة له، أن الله قد مدح المؤمنين وأثنى على طريقتهم في الحياة ولم يمدح المتدين أو المتعبد بموجب النصوص فقط لأنه يحاول أو يرغب في ذلك، السر هنا أن الله يريد الإيمان الصادق نتيجة سلوكية للإنسان والمعروف أن أي سلوك في الحياة هو مخاض تجربة تتفاعل فيها المقدمات مع المنهج لتشكل بالنهاية صورة الإيمان، هذه التجربة لا يمكن أن تكتسب فقط بالتقليد أو بالطاعة لأنها تخلو أصلا من معنى التجربة، لذا فالله مثلا أو النص الديني حينما ساق لنا قصة النبي إبراهيم ع لم يطلب منا الأستمتاع بالقصة وأحداثها، وإنما شرح لنا درسا في عقلانية التجربة وعقلانية نتيجتها، فلو أمن الناس منذ أول يوم بنفس الطريقة العملية المبنية على المنطق الجدلي الوارد في القصة لما أحتاج الإنسان أصلا لنبي أو رسالة أو دين يحدد ويوضح ما يريدا منه وما عليه أن يفعل.
فالإيمان أيا كان وجهته حتى يكون صادقا ومنتجا لما فيه لا بد له من قواعد وأسس تبدأ من القناعة بالفكرة والوثوق من مصداقيتها وعملية وعلمية وجودها لتتحول إلى مشروع سلوكي عقلاني يصل بك إلى جوهر الإيمان المطلوب، إبراهيم ع لم يكن بحاجة إلى دين جديد ليملأ عليه فراغ فكري أو يجب على أستفسارات دينية تتعلق بحياته الخاصة والعامة، فقد كانت الحاضنة الفكرية له تتمتع بكل معطيات التدين (دين منشور وتعبد محسوس وأماكن عبادة موقره وألهة حاضرة في كل مكان)، وكل ما يريد الإنسان وفقا لمحددات ذاك الدين متوفره وسهلة الوصول إليها، ولم يكن هناك أي صراع بين مجموعة أديان تجعل الإنسان مضطرا لأن ينحاز إلى هذا الدين أو ذاك، كانت إشكالية إبراهيم أنه لم يكم مقتنعا ولا واثقا من جدوى ما يعبدون، ووضع عقله حاكما وخصما لما موجود لعله يصل إلى يقين ما في جزء مما يبحث عنه، فأختار البحث عن طريق إيماني أخر لم يدفعه نبي ولا كتاب ولا رساله بل كان الدافع الأقوى هنا هو سلطان العقل الذي يبحث عن إيمان صادق، فكانت النتيجة أنه تمرد على الواقع وتمرد على محاولات العقل الأولى لديه ليصل في النهاية للنتيجة التي جعلت منه صاحب رسالة وأمة مستقلة لوحده.
التدين إذا غير الإيمان والدين غير الفكر الديني والعقل في كل ذلك هو القائد الذي لا يمكن أن نتركه جانبا لنختار موقفا وجوديا وفقا لمحدد أخر، لأن البديل مهما كان قويا ونافذا لا يمكنه أن ينجح في بلوغ مرتبة الوصول إلى الحقيقة الطبيعية التي تحكم حركة الوجود، لأنها وبالأصل هي حقيقية علمية منطقية مبنية على سلسلة من الترابطات والعلاقات التي يحكمها قانون عاقل منضبط لا يمنح للصدفة أو فعل اللحظة الزمنية خارج مداراتها العلمية من أن تفعل فعلا مخلا بكونية النظام العام، الإيمان تجربة تبنى على المنطق الطبيعي للأشياء وتستكشف طريقها من خلال الروابط الحقيقية التي تتماهى مع قانون الوجود وبه، فلا إيمان حقيقي وصادق لجاهل أو متجاهل حتى لو أعلن تدينه وإيمانه بالدين، فهو هنا يضع نفسه في دائرة الجهالة المركبة ولا يعفو ذلك من كونه مطالب أن أولا أن يعي لماذا عليه أن يؤمن أولا؟ ولماذا عليه أن يختار بعقله الإيمان ونتيجته؟ هذا ما يجب أن يعرفه المتدين حتى السليم النيه وحسن الإرادة أن التدين طريقا للإيمان الصح وليس بديلا عنه.
ما يؤسف عليه اليوم أن مساحة فعل العقل الإنساني في طريق بحثه عن الإيمان الصادق تقصلت ولم يعد ممكنا تفعيل آليات العقل الإيماني، وأضمحلت كل المحاولات الفردية للعودة له في سبيل بناء إنسان حقيقي يتعامل مع إيمانه كما يتعامل مع غرائزه الضرورية، التي يحرص كل الحرص على تلبيتها وحاجاتها في كل الأوقات وتحت أي ظرف حتى لو كان الأمر قاهرا أو صعبا عليه، والسبب يعود إلى تعاظم دور الدخيل الوسيط (الكهنوت ومدعي الوكالة عن الله) الذي يفرض نفسه كسفينة ينقل فيها الناس في بحر الإيمان متلاطم الأمواج عظيم التكلفة، بقول هذا الوسيط أن الإيمان معركة مع الشيطان وليس صحبة مع الرحمن فلا بد لكم من قائد محنك ومجرب وأتركوا عقولكم هنا عند الشواطئ، فهو العقل والوسيلة والمنهج وهو وكيل الله الذي يمنحنا حصصنا من الإيمان وفق ما نعطيه من طاعة وخضوع، أما الله فعنده مجرد متفرج لا دخل له بالإنسان ولا مسؤول عن شيء بعد أن سلمه زمام الأمر وأنتهى إليه الأمر والقرار.
الإيمان الديني اليوم يعيش إشكاليات متعددة ومظاهر خادعة تتمثل في تغييب الهدف السامي منه وضحالة الفكر التعقلي المدبر له وضبابية الأهداف والغايات الكبرى، لصالح تعاظم دور ظاهرة التدين الحسي وإنشغالات الإنسان بها بعيدا عن روحانية الدين والمعرفة التي يسعى لها ويطلب من الإنسان أن يكون معها في كل وقت دون حيادية أو تجرد، وهنا أقول وبكل صراحة أن الكهنوت الديني نجح تماما في جر الإنسان إلى مواقع جانبية لا يجب أن يكون فيها وهو يسعى للإيمان مستغلا نفس أدوات الشيطان ووسائله، على الإنسان العاقل أن يكون حديا مع العقل فهو أما كائن عاقل مسؤول عن خياراته وإرادته وبذلك يسعى لما يريد حرا، أو يترك العقل ويعيده للخالق ويعيش حيوانيا معتمدا على عصا الراعي ومستجيبا لها، لقد أمن الكهنوت بأن الإنسان خارج دائرتهم ليس بإمانه أن يكون إنسانا صالحا ولا فاعلا لذا جردوه من آدميته وألحقوه بدائرة أخرى تفريقا عنهم سموها (العوام) أي الذين يعومون في أي كلام ولا يعون ما لهم وما عليهم من واجب وحق.
السؤال هنا هل في الأفق المنتظر ومع تطور وسائل الأتصال وأنتقال المعرفة وتعاظم دور العقل الإنساني المبدع في كل مجالات الحياة من أمل في عودة حقيقية للوضع الطبيعي والمفترض في علاقة الإنسان مع الدين وصياغتها؟، وهل من عودة حقيقية وخاصة في الجانب الإسلامي لدور جديد لحركة المعتزلة ومناهجها وأفكارها في أطار عصري يستخدم كل حصاد المعرفة البشرية ويتجاوز حالات الأختناق والتصادم بين الإنسان وعقله، هذا السؤال يمكن أن يكون عند البعض أمنية وعند الأخرين في محل أستهجان خاصة بعد إنحصار دور الدين في صياغة التحولات الكونية وفقدان أهم مبرراته الوجوديه وهو صنع السلام الكوني للإنسان، فالعودة إلى صراع العقل والنقل ودورهما في تقديم الدين للناس أصبح اليوم مجرد هامش لا يستحق الأهتمام به والأفضل أن نسخر العقل في مدارات وأفلاك عملية أكثر من أهمية البحث عن دور للدين في حياتنا.
من الصحيح أيضا أن نقول أن المستقبل أجدر وأهم في تخصيص مباحث العقل وإشغاله في البحث عن حلول وأجابات عملية وعلمية لها، ولكن لا ننسى قضية مهمة جدا ومحورية في حياتنا ووجودنا أن السبب الأعظم والأهم الذي كان عماد تخلفنا وتراجعنا الفكري هو ما فعلته المؤسسة الدينية من تخريب للعقل البشري وتغيب وعيه عن قضايا وجوده وما زالت، وإن لم تصحح هذه العلاقة وتعيد للعقل مكانته ودوره في هذا المجال لم ولن ننجح في تجاوز أزمتنا التاريخية المعقدة والمركبة، هنا من الضروري جدا أن لا ننساق وراء دعوات ترك الواقع كما هو والقفز إلى مدارا أخرى لعلنا ننجح، لأننا ومنذ أن تعرف العالم الإسلامي على واقع الحضارة الجديدة منذ الحملة الفرنسية على مصر وما أنتجت من أرتدادات على الواقع الديني لم ننجح بتجاوز الإشكالية الدينية مع محاولة الكثير من الجهود في ذلك.
إن تصحيح مسارات العلاقات الإدراكية وطرائق فهمنا للدين ودوره في الحياة وإعادة نمذجة الواقع فيهما لا يمر من خلال إنكار الحقائق، فهذه عملية ضد العقل وضد المنطق الطبيعي الذي ننادي به، التصحيح وأعادة التوصيف وفقا للمعايير المنطقية والعملية ورسم خارطة جديدة لدور العقل والدين معا في أستنهاض الإنسان من كبوته، والأنطلاق به مجددا في عالم لا حدود فيه للعقل ولا إمكانية أن تتوقف فيه الحركة ولو للحظة واحدة يستوجب منا وقبل كل شيء أعادة الأعتبار للعقل الإنساني وتحريره من الإرث الماضوي، كما هو ضروري تحريره من الأوهام والتخيلات الأفتراضية التي تنساق وراء رغبات سريعة وغير مدروسة ولا منطقية في محصلتها النهائية.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن