مباحث في الاستخبارات (114) التماهي الاستخباري

بشير الوندي
basheer_alwendy@yahoo.com

2018 / 5 / 16

مباحث في الاستخبارات (114)

التماهي الاستخباري

بشير الوندي
--------------
مدخل
--------------
التماهي الاستخباري هو التطبيق العملي لتدريبات استخبارية طويلة الغرض منها الذوبان في بيئة العدو , سواء كان الذوبان لغرض الاندماج في بيئة العدو لبناء محيط يتماشى مع الاعداء لضمان عدم الانكشاف , او لغرض دراسة تفاصيل البيئة المعادية ودقائق تفكيرها كي يمكن توقع خطواتهم القادمة .
-----------------------
انواع التماهي
-----------------------
ذكرنا في مباحث سابقة , ان ادوات جمع المعلومات فيها ماهو الجانب العملي على الارض , وفيها الجانب الفكري المكتبي , فالجانب العملي يشتمل على أدوات جمع المعلومات وهي المصادر والمتعاونون والمحطة والشبكة العاملون داخل بيئة العدو وباقي الأذرع , بينما يتمثل الجانب المكتبي الفكري بضباط التحليل المختصون بالاهداف الاستخبارية وهم بمثابة فلترة ودراسة وتثبت واستنتاج وتحليل للمعلومات المتحصلة من الجانب العملي .
ومن هنا , ينقسم التماهي الاستخباري الى قسمين رئيسيين بحسب الواجب المناط باقسام الاستخبارات مع ملاحظة ان كلا القسمين يرفدان بعضهما البعض , وكما يلي :
1-التماهي الاستخباري لأدوات جمع المعلومات :
بالنسبة لأدوات جمع المعلومات - وهم الرجال على ارض العدو- يتمثل التماهي الاستخباري لهم بالقدرة لتمكين المصدر والمتعاون من الاندماج في البيئة المعادية التي يروم اتخاذها بحيث يبدو تواجده طبيعياً لايلفت الانتباه , وهنا سيتحقق امن المتعاونين والمصادر في البيئة المعادية .
وحين يتحقق الامان لجامعي المعلومات , فان الطريق سيكون مفتوحاً امامهم لجمع المعلومات عن العدو في كافة مجالاته من معلومات سرية الى الجغرافيا والتاريخ و العادات والتضاريس البشرية والسلوك والأخلاق والشعر والفن والدين وغيرها من خصوصيات المجتمع المستهدف , لذا كانت ولازالت كتب الرحالة والمستشرقين كتب مرجعية للباحثين لحد الآن كما ان معظمها مرتبطة باجهزة الاستخبارات .
وحتى في النشاط الداخلي لاجهزة الاستخبارات , يجب الاندماج مع المجتمع والناس , لان انفصال الاستخبارات عن الأرض والسكان والمجتمع يجعل تقييمها غير واقعي وغير حقيقي.
فلكَي تكون ابحاثك الاستخبارية صحيحة ودقيقة وواقعية , عليك الاندماج والتماهي مع بيئة الهدف في الحياة اليومية والعادات والتقاليد والذهاب الى استكشاف جذور المجتمع المستهدف حيث لايكفي تقييم المجتمع من البعد السياسي والسلطة الحاكمة.
ان من تطبيقات الاندماج والتماهي مع بيئة العدو كان في ارسال احد ضباط الموساد لاختراق المجتمع اللبناني لعده سنوات بغطاء الاستجداء باعتباره اصم وابكم - حتى لا يكشف من خلال الكلام واللهجة - وعاش سنوات بين الناس يستخبر ويتجسس ويتعرف ويطلع .
وفي مبحث سابق (مبحث 82 المحاكاة ) تحدثنا عن التدريبات الاستخبارية لصناعة واقع افتراضي لبيئة العدو لأغراض التمرين والتعايش , فتلك المحاكاة هي بمثابة تدريبات لتهيئة جامعي المعلومات ليتمكنوا من التماهي والاندماج ودراسة بيئة العدو .
الا ان تلك المحاكاة ماكان لها ان تتم وتنجح مالم تكن الاجهزة الاستخبارية قد افادت من معلومات مؤكدة عن بيئة العدو , وهو الامر الذي يحيلنا الى النوع الثاني من التماهي .
2- التماهي التحليلي :
ان التماهي والاندماج في بيئة العدو لاتتيح فقط امكانية جمع المعلومات عنه بامان , الا ان هنالك هدف اكبر واخطر , اذ انها تمكن الاجهزة الاستخبارية من ان تعرف مفاتيح عقلية العدو وطبيعة تفكيره واكتشاف المؤثرات الاجتماعية والفكرية والنفسية في قراراته وخطواته , الامر الذي يمكنها من استقراء قرارات وخطوات العدو .
ان استقراء خطوات العدو هي خطوة استخبارية متقدمة لاتتم الا بمعايشة ومعرفة دقيقة بمكنونات المجتمع المستهدف ودراسة تضاريسه البشرية ومعرفة نقاط قوته لضربها ونقاط ضعفه لكسره بها , وهو امر لايتم الا من خلال جمع المعلومات .
وبما ان جمع المعلومات لاتتم الا بزرع العملاء والجواسيس , وان زرعهم لايمكن من غير توفير طرق لتماهيهم واندماجهم , فهذا يعني ان كلا النوعين من الاندماج والتماهي مرتبطان ببعضهما تماما وان نجاح احدهما يمهد الطريق لنجاح الثاني .
لذا تقوم الاستخبارات المحترفة بإرسال ضباط تحليلها للعمل والمعايشة في البلد الهدف او اختيارهم ممن درسوا او عاشوا في ذاك البلد , ليتحول هؤلاء الكوادر الى اشخاص قادرين على التفكير بعقلية العدو مما يجعلهم مصدر ثروة معلوماتية وتحليلية للجهاز الاستخباري.
لذا تعمد الاجهزة الاستخبارية الى دعم بعض النشاطات غير المباشرة لدى العدو , والتي ترتبط بالمواطنين عن قرب , كمنظمات المجتمع المدني التي تعمل وسط الشباب والفقراء وكبار السن والمضطهدين والمثقفين والسجناء والمشردين والايتام وووو...
ان من ابرز امثلة فشل التماهي التحليلي هو ماذكره زلماي خليل زاد في مذكراته " كنا نتوقع وحسب الدراسات بأن يكون دخول الجيش إلى جنوب العراق بلا قتال وبترحيب شعبي بسبب ظلم الطاغية الكبير لأهل الجنوب , كما كنا نتوقع دخولاً صعبا من المناطق الغربية بولائها للنظام , الا اننا فوجئنا بأن الجنرال جون أبي زيد يخوض معارك عنيفة في البصرة , وبنفس الوقت كان الجنرال بترايوس يُستقبل في الموصل بنحر الخراف" .
ان هذا ما نسميه فشل الاندماج مع المجتمع والموروث والبيئة والجغرافيا والتاريخ والطباع والأخلاق والتفكير والمعتقد وأسلوب الحياة ومفردات البناء النفسي والفردي والاجتماعي , مما ادى الى اخطاء جسيمة في التحليل , وهو ما جعل الجيش الامريكي يدخل برنامج التضاريس البشريه إلى منظومة استخبارات الجيش الأمريكي عام 2006 بعد إخفاق التقييمات في أفغانستان والعراق.
فانت لاتستطيع أن تقييم وتحلل معلوماتك عن دول الجوار من خلال الإعلام المساند او المهاجم لتلك الدولة او من خلال التصريحات والمواقف , فاذا أردنا تقييم الشعوب علينا الاقتراب منها والغوص فيها , فعندما تريد أمريكا أن تفكر بأفغانستان فانها ترجع الى عقل زلماي خليل زاد الذي هو أقرب إلى الواقع والحقيقة , وتأتي به ضمن فريق وتستنطقه حول ما تريد ليشرح لها ماذا ستكون ردود الفعل لقرار تريد ان تتخذه في بلد ما.
وتبادر سفارات بعض الدول بطرح فعاليات لاستضافة زائرين من رجال المجتمع ومن الشباب لبلدانها , ويتم ترتيب مجموعة من النشاطات على الأرض المستهدفة وياتون بضباط تحليلهم ليكونوا مع هولاء ليتعرفوا على تفكيرهم, ومثاله مبادرة زائر امريكا الذي تقيمه السفارة الامريكية في العراق وباقي الدول .
ولقد سألني مره أحد الضباط الأمريكان , كيف يشرب العراقي الشاي ظهرا في ايام الصيف اللاهب وانقطاع الكهرباء ؟؟؟ بدلا من شرب شراب بارد , ذلك ان اية استخبارات خارجية او داخلية لابد لها أن تضرب في الجذور وتغور في الأعماق لكي تصبح ذات قدره على تحليل الأمور بدقة.
--------------------------
التماهي الداخلي
--------------------------
ان التماهي لايشمل ارض العدو فقط , ذلك ان التورط بعدم فهم طبيعة الشعب في الداخل الوطني له اضراره الخطيرة , فعلى الاجهزة الاستخبارية ان تفهم طبيعة شعبها وتدرس طبيعة سلوكه والمتغيرات التي تطرأ على المزاج العام وان تحذر من اتخاذ بعض القرارات التي تستفز الشارع .
ففي العراق مثلا يعاني المجتمع من ازمات نفسية نتيجة عوامل اجتماعية ونتيجة الخراب الذي حل بالمدن عقب تمكن الارهاب ونتيجة احباطات المواطن , وهي مشاكل متعدده ومتراكمة , وهنا ياتي دور الاستخبارات بالاندماج مع المجتمع وطبقاته وفئاته لدراسة النفسيات والامزجة وقراءة درجة الغليان الشعبي كي لاتصاب بالاستكماتزيم السياسي .
ان على الاستخبارات مهمة كبيرة على عاتقها بتشخيص الخلل في داخل البلاد , وأن تكون عين النظام لتحدد الخطر قبل أن يحدث , وهو امر لايمكن ان يتم مالم تكون مندمجة مع الناس ومتعايشة مع المواطن وتعمل كمجسات واقية للمجتمع, وهذا لايعني ان تكون الاستخبارات استخبارات السلطة وتحمي السلطة والنظام من الناس , بالعكس , لان السلم الاهلي من اولويات الامن في البلاد ولابد من وجود جهة تحذر السلطة من الانهيار المجتمعي .
فعندما سقطت الموصل لم يبق أي أحد من أحد مكاتب الاجهزة الاستخبارية , والسبب أن اغلب منتسبي فروعهم في الموصل كانوا من مناطق اخرى , فتركوا اماكنهم سريعا لانهم فوجئوا بسيطرة الارهابيين فيما لم يفاجأ الموصلي العادي , فالاجهزة الاستخبارية هناك عجزت عن الاندماج مع المجتمع , فكانت الكارثة .
ان هذا خلل كبير وقاتل , بأن يكون عنصر الاستخبارات غير متجانس مع المجتمع وان نأتي برئيس مكتب الاستخبارات في صلاح الدين من البصرة , ومدير الاستخبارات في الموصل من العماره , وهو ذات ماكان يفعله نظام صدام , فكان مدير استخبارات البصرة من تكريت ومدير النجف من الموصل , فكانت النتيجة ان وجد معسكر جيش وجهاز استخبارات منفصلان عن المجتمع , ويسيران في الظلام .
فالامر سيان في الاستخبارات الخارجية , فعندما تبعث مدير محطة استخبارية إلى بلد خارجي , وهو لايعرف شي عن ذاك البلد ولا يعرف حتى لسانهم ولم يتعايش معهم ولم يتدرج في العمل ضمن تلك الدولة او دول الجوار المتشابهة لها , فلاتتوقع منه النجاح.
اما في الدول المتقدمة , فانها تحتفظ بضابط العمل الخارجي ضمن محيط متشابه , فضابط يعمل في المحيط العربي يجب ان يبقى ضمن الدول العربية لوجود تشابه ديني ولغة وعادات وطباع حتى يستطيع الفهم والاندماج , وبعد خدمة طويلة ميدانيا , يتحول ليصبح ضابط تحليل أيضا ضمن شعبة العالم العربي , لأنه يعرف ويفهم المعلومات الواصلة من المنطقه العربية أفضل واحسن من غيره.
ومن هنا نكاد نجزم ان أغلب الحكومات والأنظمة التي انهارت كانت الاستخبارات فيها قد فقدت التواصل مع المجتمع وأصبحت اداة السلطة وصارت تعمل كحاطب ليل بتخبط لانها بعيدة عن التماهي والاندماج مع مواطنيها ولم تعد تفهمهم , فتحولت الى جلاد وكرباج بيد السلطة .
------------
خلاصة
------------
ان سرية العمل الاستخباري تتطلب منه ان لايكون مرئيا وفي ذات الوقت ان يكون مؤثرا, فهو من جهة يكون متواريا خلف لافتة بريئة في وسط الاعداء بحيث لايلتفتون اليه , فيحقق امانه ويجمع معلوماته , وفي نفس الوقت فان المعلومات التي تجمع عن العدو تتحول الى تماهي واندماج فكري تمكن الاجهزة الاستخبارية ان تعرف طريقة تفكير العدو كي لاتفاجأ بقراراته وتكون مستعدة لها , وهو امر ينطبق مع العمل الاستخباري الداخلي مع فارق جوهري هو ان يكون واجب الاجهزة الاستخبارية ان تتماهى مع مجتمعها وتدرس دقائقه كي تجنب السلطة من التمادي وتحذر من الانفجار , والله الموفق



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن