إلِكْترا: الفصل الرابع 5

دلور ميقري

2018 / 5 / 15

أعادته إلى مكانه على الشاحن، جهاز التلفون اللاسلكيّ، بينما يصدى في سمعها ضحكةُ " الأستاذ محمد "، المقتضبة الساخرة. غير أنها لم تكن مستاءة من هذه الضحكة، بقدَر ما هيَ مدينةٌ لها. إنها كانت مدخلاً، أو خلفية، لفهم حقيقة موت صديقها. أدركت أنّ الطبيبَ العجوز أراد إضفاء نوع من الأسطرة على حدث رحيل شقيقه، حينَ عمد بالأمس إلى تلفيق قصة " الساعات الأخيرة ". كذلك هوَ موتُ الشاعر، فكّرت بكرَب: " مأسويّ، وهزليّ في الآن نفسه. إنهم لا يتورعون، في أحسن الأحوال، عن تجاهله في الحياة؟ حتى إذا ماتَ عن اسمٍ على رأسه نارُ، تراهم أضحوا من مريديه. ولكن، لحُسن حظ المهدي أنّ شقيقه بلغ من العُمر عتياً، وإلا لمضغ الناسُ طويلاً شهادته كما لو أنها سيرة ذاتية! ".
مضت " سوسن خانم " إلى الشرفة، وقد ضاق صدرها بتلك الأفكار. غيّرت رأيها من ثمّ، لتأخذ الدرجَ الحجريّ صعوداً إلى الترّاس. هنالك خيّمت عليها السماءُ المنجمة، كما لو كانت سقف سرادق يتدلى منه مصابيح صغيرة، ضعيفة الإضاءة. سارت مرفقة بأفكارها، بظلالها الحزينة، وصولاً إلى حافة المنوَر. فيما كانت تمرر يدها على جبينها، متوهّمةً اشتعاله بالحمّى، راحت تصيخ سمعها بانتباه: " أهيَ أصداءُ طبول ساحة جامع الفنا، هذه التي لن يتسنى لها ثانيةً أن تلهمَ صديقي الشاعر؟ "، خاطبت طيفَ الفراغ بصوتٍ منخفض وواهن. فجأة، وعلى حين غفلة، هبّت ريحٌ شديدة الوطأة لها صفيرٌ شيطانيّ. خصلات شعرها، ما لبث أن بللها ما يُشبه رذاذ الغيث، فجعلت تتطاير وتلسع عينيها. المرحاض الكائن على يسار مدخل المحترف، راحَ بابه المتروك موارباً يهتزّ قبل أن يُصفق بقوة. هرعت راكضة باتجاه حجرة المحترف، محمّل داخلها برعب نبيّ دهمته رؤيا في كهف عزلته. فما أن همدت هنالك على الأريكة، إلا والمطر ينقر السقفَ الخشبيّ للحجرة، المبطّن بالقماش المزركش بالرسوم الهندسية التقليدية والأحرف الأمازيغية.

*
كما سبق القول، في مكان آخر، حضرت " سوسن خانم " إلى مراكش، شهراً قبل حلول الشقيقين الدمشقيين على أحد أرصفة المدينة في ليلةٍ مزدهرة بقمرٍ صيفيّ. تعددت حينذاك لقاءاتها مع الشاعر، دونما أن يتعدى الأمرُ الجلوسَ في أحد المقاهي نهاراً أو حضور أمسية له في آخر الأسبوع بمركز رواق الفنون. هاجس المراقبة، الذي عانت منه أعواماً مذ بداية تعارفها على زوجها الأول في موسكو، دفعها لأن تكون حذرة فيما يخص تلك اللقاءات. ليسَ خشيةً من عيون الرجل حَسْب، بل وخاصةً لوجودها في بلد مسلم محافظ. إنها كانت تعدّ نفسها للممارسة الأعمال التجارية من خلال شركة زوجها، وكان من الحكمة تجنّب كل ما من شأنه مسّ سمعتها كإمرأة مسلمة.
من ناحيته، فإنّ " المهدي البغدادي "، أحترمَ رغبتها تلك ولو أنه عبّر عن عدم جدواها مذ اللقاء الأول، بالقول متهكّماً: " الأدباء، غير معروفين في هذا البلد على المستوى الشعبيّ؛ ربما باستثناء محمد شكري من طنجة. مثلما أنّ أحداً لا يهتم بوجودهم، ثمة في المجتمع الراقي ". ثم أضافَ بنبرة تنم عن الحنين لماضٍ ما: " مدينة طنجة، كانت هيَ الاستثناء الوحيد، نتيجة خضوعها فترة مديدة لنظام المنطقة الدولية. منذ فترة مبكرة، الثلاثينات أو الأربعينات، بدأ كتّاب الغرب يتوافدون على المدينة جنباً لجنب مع مواطنيهم الرسامين والموسيقيين. منهم من جاء هرباً من الفاشية، وآخرون توقاً لمدينة الحلم حيث رقابة الشرطة ضعيفة تجاه أفعال الأجانب غير القانونية. البعض منهم كانت طنجة سببَ شهرتهم لاحقاً، لما قدموه للقراء في بلادهم من تصوير لبيئة غرائبية؛ أذكر منهم بوجه خاص فردريك بوول ووليم برّوز وألن جينسبرغ. البعض الآخر، عززوا شهرة المدينة بأسمائهم المعروفة سلفاً؛ مثل جان جينيه وتينسي وليامز. بكل الأحوال، أوجد هؤلاء وأولئك جواً ثقافياً غنياً، كاد أن يكون شعبياً بانضمام أدباء ورسامين محليين إليهم في غزواتهم للبارات والمقاهي والمطاعم والمواخير، فضلاً عن استقبالهم كلهم تقريباً، بشكل أو بآخر، من لدُن مجتمع الأجانب الراقي في طنجة.. "
" وماذا عن مراكش، إذاً؟ لِمَ لم تنل بعضاً من حظ شقيقتها لناحية الاهتمام ذاته؟ "، سألته السيّدة السورية بفضول. كانا آنذاك في مقهى الكافيه دو فرانس، المشرف من أدواره العليا على ساحة جامع الفنا. الشاعر، أومأ لها برأسه إلى ناحية الساحة مُجيباً: " مراكش يا صديقتي، بقيت بنظر الأجانب مدينةً تنتمي للمحافظة أكثر منها الحداثة. وبرأيهم أيضاً، أنّ تقاليدها المحلية كانت أقرب إلى الشفوية منها للأدب الجاد. بل هيَ مجردَ مزار، يمكنهم في ساحتها العجيبة المدهشة هذه، رؤيةَ مروضي الثعابين والقردة، قارئي الكف، نقاشي الحنّاء، قارعي الطبول، منشدي الملاحم، راقصين مخنثين يخفون شخصياتهم تحت نقاب وجلابة نسائية الخ ". ثم استدرك بلهجة أخرى، اختفت منها رنة الأسف " على أنّ الحال هنا بدأ يتغيّر أيضاً، خصوصاً بعدما فقدت طنجة طابعها الدوليّ وغدت تقريباً كأيّ مدينة مغربية. مراكش، بساحتها وأسواقها ومعالمها وأسوارها، سيقدّر لها مستقبلاً أن تشهدَ حالة ثقافية أممية شبيهة بطنجة سابقاً. ولكن الأمرَ مرهونٌ بالتطورات السياسية، قبل كل شيء. الحرية للفنان مثل الماء للسمكة، هذا تشبيه مألوف.. بله الفنان الغربيّ، الأكثر حساسية في هذا الشأن ". وجهه شعّ بنور غريب، فيما كانَ ينهي كلامه.
صديقته، تعلم الآنَ بأنّ ذلك كان نورَ الأمل؛ تعلم ذلك متألمة أشدّ الألم، طالما أنّ قدَر الرجل أراد أن تكون طنجة نفسها مكاناً يختتم به حياته باكراً قبل رؤيته " الحلم المراكشيّ ".



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن