عقول وحقائق

فارس تركي محمود
moonfares2008@gmail.com

2018 / 5 / 12

يقول الفيلسوف البريطاني برتراند راسل " ينبغي أن نعيد النظر بمسلماتنا بين الحين والآخر " ومن المسلمات التي يجب إعادة النظر بها مقولة ( العقل الواحد والحقيقة الواحدة ) ، إذ أن أغلب الناس يعتقدون بتشابه ووحدانية العقل البشري أو العملية العقلية ، ويتصورون أن الحقيقة واحدة لا تتغير ولا تتبدل ويمكن للجميع أن يفهموها ويتعاملوا معها . إلا أن هذا الاعتقاد والتصور غير صحيح فليس هناك عقل واحد بل عقول متعددة وكل واحد منها ينتج حقيقة تابعة له وموسومة بميسمه فيصبح لدينا عدد من الحقائق بدل الحقيقة الواحدة . ومن أهم هذه العقول العقل المؤدلَج الذي ينتج الحقيقة الأيديولوجية ، والعقل العلمي الذي ينتج الحقيقة العلمية ، والعقل الفئوي ( العرقي ، الطائفي ، المذهبي ، العشائري أو القبلي ) المنتج للحقيقة الفئوية . ولكل نوع من هذه الأنواع سمات وميزات خاصة به ، وطرائق وأساليب يتبعها وأسس يستند إليها ، وآليات وأدوات معينة يتناول بها القضايا المختلفة . ولا نقصد هنا تفضيل عقل على آخر أو اعتماد حقيقة دون غيرها ، بل القصد هو معرفة هذه الانواع وما تتميز به .
فالعقل المؤدلَج له مميزات وصفات كثيرة أبرزها أنه لا يشكك أبداً ولا ينتابه القلق مطلقاً حيال الأسئلة الوجودية الكبيرة ولديه أجوبة قطعية لا مجال لمناقشتها لكل تلك الأسئلة وغيرها ، فهو يختزن بداخله رصيد هائل من المسلمات التي تجعله يقف على أرضية صلبة لا سبيل لزعزعتها . وحتى عندما يتفلسف هذا العقل ويحاول أن يصبح منتج للمعرفة فأنه يتبع الطريقة الخاصة به والأسلوب الذي يشبهه . فمن أهم اشتراطات الفلسفة هي الانطلاق من الشك من أجل الوصول لليقين وفي أحيان كثيرة لا يتم الوصول لليقين بل يبقى المتفلسف يدور في حلقة شكِّية ظنيِّة لا نهاية لها ، في حين العقل المؤدلَج ينطلق من اليقين مروراً باليقين وصولاً لليقين ولا يمر أبداً أثناء رحلته بأية محطات ظنية . والعقل المؤدلَج لا يترك الأدلة والبراهين تقوده للحقائق بل على العكس تماماً فهو لديه حقيقته ومسلمته المسبقة وما عليه سوى إيجاد الأدلة والبراهين التي تدعمها أو قيادة تلك البراهين إليها . والعقل المؤدلَج لا يمكن له أن يكون حيادياً فالحيادية تهدمه وتلغيه وتنسفه من الأساس وهي عدوه التقليدي ، وهذا العقل لا يملك ولا يمكن له أن يملك رؤى متعددة فهو ثنائي الرؤية وحسب لا يرى من الألوان سوى الأبيض والأسود ، ولا يصنف سلوكيات البشر وميولهم وعواطفهم إلا تحت مسميات الخير والشر ، استقامة وانحراف ، وطنية وعمالة ، حب وكره . ولا يتفاعل مع الآخرين إلا وفقاً لقاعدة أنا والآخر ، نحن وهم ، الطيبون والأشرار وهكذا دواليك . ومن قوانين هذا العقل أه هو الذي يعرف الأشياء والمفاهيم ويعطيها ماهيتها فالصواب ليس صواباً لأنه في الأصل صواب بل لأن العقل المؤدلَج قرر أنه صواب ولو قرر أنه خطأٌ لكان خطأً بغض النظر عن أية اعتبارات أخرى مهما كان نصيبها من المنطق والوجاهة ، فهذا العقل هو الذي ينتج معرفته ويصدر قراراته ولا يستقيها مما يحيط به فهو فوق وأعلى من محيطه وعلى هذا المحيط أن يكون تابعاً له وليس العكس ، يعيش حالة مفرطة من التسفيه والإنكار لكل ما يخالفه ، فهو الآمر الناهي المتسلط الذي احتكر الحقيقة وأحاط بها إحاطة السوار للمعصم ، وهذا العقل لا يمكن أن يكون إلا عقلاً متشدداً ومتطرفاً وعدائياً .
والعقل المؤدلج سينتج حتماً الحقيقة الايديولوجية وهي حقيقة تتصف بأنها مطلقة ثابتة لا تتغير ولا تتطور ولا تتبدل راسخة رسوخ الرواسي وباقية بقاء الأزل ، تقع خارج الزمان والمكان والقوانين لا يعتريها نقص أو قصور ، لا يمكن أن ينتقص منها أو تتجزأ بل تؤخذ كتلة أو قطعة واحدة ، تستوطن الأطراف يميناً أو شمالاً وتكره الأماكن الوسطى ، وهي حقيقة الحقائق وأصلها ومرجعها ومبتداها ليس هناك ما قبلها ولا يطمع بما هو أبعد منها ، هي مقياس كل المقاييس ومرجع كل المرجعيات ، بها تقاس كل الحقائق الأخرى فما وافقها كان حقيقةً وحقاً وما خالفها فهو وهمٌ وباطلٌ بلا ريب . أية محاولة لنقدها أو التشكيك بها محاولة مرفوضة ومشبوهة ومتهمة سلفاً وتندرج ضمن السلوكيات المنحرفة وغير المقبولة والتآمرية وربما حتى المحرمة . تكتسب مصداقيتها وصوابيتها من ذاتها فزعمها أنها حقيقة هو الدليل الدامغ على أنها حقيقة ، ومن لا يتفق معها إما جاهل أو صاحب غرض ، وجودها ضرورة لا غنى عنها وغيابها لا يعني إلا الخراب والهلاك ، اجتمع فيها ما كان وما هو كائن وما سيكون ، وتتسم بأنها ملكية حصرية لقومٍ بعينهم ولا يمكن أن تكتسب بعداً عالمياً أو تستوطن في بيئات وثقافات متباينة ، تلكم هي الحقيقة الايدلوجية .
إن العقل المؤدلَج هو النقيض الموضوعي لنوع آخر من العقول ألا وهو العقل العلمي ، فهذا العقل نسبي متردد شكَّاك قلق يشعر بالحيرة والفضول والعطش المعرفي ، غير ميال للجزم والأحكام النهائية والحقائق المطلقة ، دائماً يترك الباب مفتوح للتساؤلات والانتقادات ، ليس له نقطة وصول أو محطة نهائية ولا ينبغي له ذلك ، يسلم قياده بالكامل للأدلة والبراهين العلمية ولا يتردد أبداً بقبول ما تثبته أو تنفيه ، الشك عنده هو الأصل ينطلق منه ويتفاعل معه ليصل من خلاله إلى حقائق قلقة غير نهائية في أغلب الأحوال ، ويتعامل مع هذه الحقائق على أنها حقائق إلى أن يثبت العكس ، يمتلك طيفاً واسعاً ولا نهائي من الرؤى والافكار المتداخلة والمتدرجة والتي تكمل بعضها بعضاً وتغذي بعضها بعضاً ، يعيش وفقاً لمعطيات زمانه ومكانه ويتفاعل معها ويحاول أن يجد إجابات واستجابات تتناسب مع ما تطرحه من اسئلة وتحديات ، لا يمكنه أن يفهم النظرة المانوية للحياة ولا يستطيع أبداً أن يهضم فلسفة الثنائيات ( أسود وأبيض ، خير وشر ، نحن وهم ، صالح وطالح . . . الخ ) ، لا يستجدي ولا يختلق أدلة وبراهين من أجل إثبات أو نفي فكرة أو مقولة يعتقد بها بل يترك الادلة والبراهين العلمية هي التي تنفي أو تثبت ، تجده دائماً ميال ومتبني للوسطية ولا يمكن أن يتواجد في اليمين أو اليسار ، لا يتأثر بالمشاعر والانفعالات إلا في أضيق الحدود ، وهو عقل جوال سائح متجدد لا يقنع بالسائد والمتعارف عليه والمسلم به ، ولا يرتاح للإجابات السهلة يحاول دائماً أن يصل إلى علة العلل وسبب الأسباب وإلى الجذور والأسس والمرتكزات .
إن الحقيقة التي ستكون نتاجاً لهذا العقل هي الحقيقة العلمية وهي نوع من الحقائق لا يميل إليه ولا يحبه الكثير من الناس ، فهذه الحقيقة متعبة وصادمة وجافة وغير رومانسية ولا تثير أو تدغدغ العواطف والانفعالات في أغلب الأحيان ، تقتحم حياة الناس الهادئة والرتيبة والراضية فتقلبها رأساً على عقب وتورثهم بدلاً من ذلك قلق وشكوك وحيرة وتردد ، حقيقة مغردة خارج السرب ، صوتها نشاز يخدش الآذان التي اعتادت الاستماع إلى لحنٍ واحدٍ ، وجمهورها محدود وقليل العدد والطلب عليها ضعيف جداً . وهي تتميز بالتواضع فلا تترفع ولا تدعي العصمة بل تطرح نفسها بهدوء وروية وفي الكثير من الأحيان بتردد ومواربة ، وإذا ما جوبهت بما يناقضها وينسفها علمياً فإنها تنسحب في الحال وتخلي الساحة لسواها أو تنكفئ وتشغل بمراجعة أسسها ومقولاتها لكي تتدارك ما فاتها وتعالج قصورها وتحاول استجلاء ما غاب عنها ، وتتميَّز ببعدها العالمي ( الكوزموبوليتاني ) إذ يمكنها أن تخلق أرضية مشتركة للحوار مع مختلف الثقافات ، وهي ابنة الواقع والطبيعة والمحسوس وليس لها أي صلة بالميتافيزيقيا وما وراء الطبيعة . وهذه الحقيقة قائمة لوحدها ومكتفية بذاتها ، بقائها واستمرارها لا يرتبط بتبنيها أو دعمها من طائفة أو فئة أو أمة ، ولا تنتظر من يدافع عنها أو يفرضها على الآخرين .
أما العقل الفئوي فيتسم بأنه عقل ثرثار ومُطلِق للشعارات والمقولات السابحة في الهواء والعائمة في عوالم اللامعقول والبعيدة كل البعد عن المنطق ، وهذا العقل يعد من أبسط العقول وأكثرها سذاجة ويمثل العقل البشري في بداياته الأولى ، وهو يتقاطع مع العقل المؤدلَج في الكثير من النقاط . وبغض النظر عما إذا كان عقلاً قبلياً أو طائفياً أو جهوياً أو مذهبياً فهو يعمل بنفس الآلية وبذات الطريقة ينطلق من يقينياته الساذجة ليصل إلى يقينيات أكثر سذاجة ، ويستخدم دائماً أفعال التفضيل كالأفضل والأرقى والأحسن ، فعشيرته هي الأفضل ، ومذهبه هو الأصح ، وعرقه هو الأرقى . وهذا العقل متمترس بمسلماته ويستميت في الدفاع عنها وميال إلى التصادم والاقتتال مع من يختلف معه وبخاصة إذا كان من نوعه .
وهذا العقل ينتج الحقيقة الفئوية التي تخص فئة - قوم ، عرق ، مذهب ، طائفة - إذا يلتف حولها أبناء تلك الفئة وتصبح قضية مقدسة تجمعهم وتعطي معنى لحياتهم وهدف لوجودهم فهم مرتبطون بها ارتباط الجنين بالمشيمة . ومن سمات هذه الحقيقة أنها فوق النقد والمساءلة بل أن مجرد تصور إمكانية نقدها قد يصنف فعلاً خائناً تآمرياً مرفوضاً ومداناً ، وهي تعتمد اعتماداً كاملاً على الغرائز والمشاعر المتطرفة حباً وكرهاً ، تنتعش وتزدهر في أزمنة الضعف والانحطاط والتردي ، وتتسم بقدرتها الكبيرة على الحشد والتعبئة وتجنيد الأنصار والمهووسين فهي الترجمة الحقيقية للبيت الشاعر القائل :
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
إن العقل المؤدلَج والعقل الفئوي قديمان جداً إذ ارتبط ظهورهما بظهور وتواجد البشر على سطح الأرض ، وهما لا ينتجان إلا دولة تتحلى بنفس سماتهما وصفاتهما ، فالمجتمع الذي يخضع لهما يصبح عاجزاً عن انتاج الدولة المدنية الحديثة بكل مفرداتها الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وبكل ما تتضمنه من مفاهيم متعلقة بالحرية والديمقراطية وحقوق الانسان . أما العقل العلمي فهو حديث جداً وعمره لا يتجاوز الاربعة أو الخمسة قرون الأخيرة ويمثل قمة التطور والنضوج البشري ، وهو المنتج الوحيد والحصري لما يسمى بالمدنية الحديثة أو فكرة الحداثة برمتها .
وعندما يحصل أية مناقشة أو جدل ما بين المؤدلَج والفئوي من جهة والعلمي من جهةٍ أخرى فإن الشجار والصدام وحتى الاقتتال هو النتيجة الحتمية لذلك بسبب الاختلاف الجذري بينم من حيث الأسس والمنطلقات وطريقة التحليل والاستنتاج ، فالعقل العلمي عندما يقول إننا يجب أن نحتكم إلى العقل والحقيقية فهو يقصد ذاته وحقيقته ، والأمر ذاته ينطبق على الأنواع الأخرى من العقول والحقائق . لذلك فإنه من الطبيعي أن تصل هذه الأنواع المختلفة إلى نتائج مختلفة ، ومن الطبيعي أن تتشاجر فيما بينها ويزعم كلٌ منها بامتلاكه الحق والحقيقة ، ومن الطبيعي أن يتهم بعضها بعضاً بعدم الحياد وعدم التزام العقل والمنطق ، والانحياز والهوى واللاموضوعية . لذلك يجب أن نتبين ونحدد العقل الذي أمامنا قبل أن نناقشه لكي نعرف كيف نناقشه ووفقاً لأية رؤية ولأية فلسفة ، أو لكي نقرر أن لا نناقشه من الأساس .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن