إلِكْترا: الفصل الثالث 5

دلور ميقري

2018 / 5 / 8

الخريف، بموجب التقويم الشمسيّ المعهود، من المفترض أن يبدأ رحلتَه المُتْعِبة في نهاية أيلول/ سبتمبر. ولكنه صيفُ مراكش، المُسلّط كسيفٍ من الأتون اللاهب، مَن يبتر أجزاء وافرة من جسد خَلَفِهِ. رحلة أخرى، تمتّ للواقع أكثر منه للمجاز، كانت بانتظار " سوسن خانم " في عطلة نهاية الأسبوع. تواشُجاً مع هذا الحدث، إن كان سعيداً أو مشئوماً، كانت هنالك مشكلة الشكوك، التي انتبهت إليها " زين ".. شكوك، ردّتها هذه الفتاة الذكية دونما حماسة على أيّ حال. ولكن أنّى لفتاة، كائناً من كان شخصُ الرجل، ألا تُسعدَ لحقيقة إعجابه بها؟ إنّ غالبية بنات البلد ( بما فيهن من يصغرنَ مرافقتها سنّاً ويتفوقن عليها جمالاً )، لن يملكن إرادةَ رفض رجلٍ مُقتدر ويملك، فوق ذلك، جواز سفرٍ فرنسيّ. عطفاً على اتكاء الخانم، المُواظب المُلح، على مذكرات " شيرين "، كان بالوسع تكوين فكرة أفضل عن حالةٍ مثالية لعلاقة كهذه يكون فيها عاملُ المصلحة أهم من الحب.
وإنما مقصد القول، حالةُ " خدّوج ". لعلها الضحية الأولى لذلك العراقيّ، بين أولئك الفتيات القانطات، الراغبات في تغيير حياتهن مهما تكن الوسيلة. لقد توهّمت أنها وجدت فارسَ أحلامها في رجلٍ يمتلك الميزتين المذكورتين، فضلاً عن كونه حنطيّ اللون وحسنَ الملامح، فارعَ القوام رشيقه. " رفيق "، من ناحيته، كان على ثقةٍ كبيرة بما حُبيَ به من ميزاتٍ كان يجهلها بنفسه قبل مغامرته المغربية.. ميزات، غشيَ بها شوارعَ مراكش ومجتمَعها الراقي سواءً بسواء. هنا وهناك، بحثَ الرجلُ عن اللذة لدى فتياتٍ أقلّ منه ثقافة؛ أو أغوى أخريات من أسر محترمة ( من يدري كم عددهن؟ ) ثم أفسدهن بأثرته وأنانيته وشبقه.
" أيمكن أن تكون ضحيته الجديدة، المصنّفة في تلك الخانة الأخيرة، فتاة مثل مرافقتي؟ ": كانت هذه فكرة ثقيلة الوطأة على نفس الخانم في صباحٍ من الخريف المبكر، الذي سبقَ يومَ الرحلة المقررة إلى " أوريكا ". فجأة، تذكّرت " سوسن خانم " أنّ هذا الشهر شهدَ لقاءها الأول بالشقيقين الدمشقيين. كانا قد وصلا مراكش في مستهله، وذلك بعد بضعة أسابيع من حلولها في المدينة. أعوامٌ ثلاثة، مضت إذاً. كأنها ثلاثة عقود، بل وكأنما هيَ حياة كاملة.. وبالقطع ستكون ثلاث حيوات، لو أنّ ذينك الشقيقين أتما عهدهما هنا. " شيرين "، كأنما كانت بؤرة تلك الحياة، وشعلتها؛ في أوان حياتها بالطبع. مجرد أن اختفت من المشهد، حل الظلام والظلال في البؤرة آناء الليل والنهار. ماذا عن مرافقة الخانم، السابقة؟ لقد فُقِدَ أثرُها أيضاً من المشهد، وكما لو أن ( لعنة شيرين! ) حاقت بها. ثمة في الأعالي، في السديم الأزليّ، أين تمخر عبابه قواربُ الموتى ـ كما في جداريات " أنوبيس "، حارس الأرواح لدى الفراعنة ـ يلوّح أحدهم ساخراً من كلمات الخانم، المسجّلة تواً في دفتر يومياتها: إنه " غوستاف "، مَن شاءَ تذكيرها من موقفه ذاك، بحقيقة كونه اللعنة الأولى، التي جرّت إلى القبر قدمَيْ " شيرين "؛ قرينته وقاتلته.
الذكرى الأخيرة، جعلت يدَ الخانم تُمسك عن تسجيل المزيد في دفتر يومياتها. لتنتقل من ثمّ إلى الأريكة الفارهة، فتُمَدّد عليها الجسدَ المرهق بجلوسه ساعتين إلى منضدة الكتابة. الحقّ أنه ذهنها، الموحية إليه تلك الذكرى بأختٍ أخرى أكثر جدّة وأبعث على الحيرة والقلق. سيلُ مشاعرها الجديدة، كانت تصبّ في نهر مرافقتها الحالية، " زين ".. مشاعر، عليها أيضاً أن تغوص عميقاً في نفسها هيَ، بعيداً عن أيّ نزوةٍ لتجربة متعة ليست مألوفة لها بعدُ. تجارب سابقة، محدودة وعابرة، أوهمتها بكونها أقربَ إلى الذكورة منها إلى الأنوثة. أكانَ اتفاقاً، زهدها بنيل رسالة الدكتوراه لكي تلج عالم رجال الأعمال؟ إنه زوجها الكويتيّ، مَن أصرّ عليها مواصلة الدراسة في جامعتها الروسية ( بطريقة المراسلة )، ضامناً لها التخرّج مع مرتبة امتياز.. وإنه هوَ، طليقها الآن، مَن ألقت على كاهله إثم انحراف حياتها إلى منحىً كادَ أن يكونَ غيرَ سويّ.
" ألم أكن بنفسي من صنف تلك الفتيات القانطات، آنَ مرّ من خيّل إليّ أنه فارسُ الأحلام؟ "، كذلك استدركت وهيَ تزفرُ فكرتها في كرب. بلى، لقد كانت السبّاقة إلى الهيام برجلٍ، ابنتُه في مثل عُمرها، مع كل ما عرفته عنه مُسبقاً لناحية العقلية والثقافة. لقد نحّت جانباً، علاوة على ذلك، اعتباراتٍ عدة لم يكن من السهل أن تقبل بها فتاةٌ في أواخر القرن العشرين؛ إن كان ضمّ الرجل لها إلى حريمه الحافل أو شرطه عدم إنجابها. كأنما وضعت مصلحتها في كفّة ميزان الرجل، وتلك الاعتبارات في كفّة أخرى.. وضعتهما، عالمةً سلفاً أيّ الكفتين هيَ الراجحة طالما اعتقدت حينئذٍ أنّ حياتها ما كان لها أيّ وزنٍ خارجَ الجاه والثروة. فلِمَ تستعرّ حنقاً، متقلّبة على مواجع الحيرة والقلق، حينَ ترى فتاةً مثل " زين " تُقلّد مسلكها ذاته وفق نفس الاعتبارات؟ هذا، ما لو أغفلت " سوسن خانم " حقيقة مهمّة ذات رأسين: الأول، أنّ المفترض بها الاطمئنان لكون مرافقتها إنسانة غير سهلة، لناحية شخصيتها المتسمة بقوة الإرادة ولمعة الذكاء وخبرة الحياة. الثاني، يتعلق بإمكانية " رفيق "، الضعيفة، في التورط بمغامرة خطرة في ظل رقابة صارمة من لدُن امرأته، التي من النافل ذكر ما في شخصيتها من خبث ومكر ودهاء.
" يا عزيزتي، إنني على دهشةٍ ما أفتأ، من إمكانية أن تتصوّرينني أضعك تحت المراقبة أو أنّ أسئلتي نوعٌ من التحقيق! "، بادرت المرافقةَ بالقول. كانت قد استدعتها إلى حجرة المرسم، حالما أحسّت بزوال مشاعر الحيرة والقلق. انتقلت الدهشة إلى " زين "، نظراً لبراءتها. وربما أيضاً لخلوّ رأسها في هذا الصباح من تلك الأفكار، المشوّشة رأسَ مخدومتها. وحقّ لها أن تبتهج، لما استمرت الخانم في الكلام لتتقدّم منها بالاعتذار.. وإن كان على سبيل المزاح. فلم تكترث " زين " بعزم معلّمتها على النكوص بوعد مرافقة جماعة الفيللا إلى " أوريكا "، ولا بحجّتها المُداورة حول فكرة محددة؛ وهيَ عدم رغبتها إعادة الصلة " مع أولئك الناس "ـ بحَسَب تعبيرها. بعد نحو ساعة، وكانت المرافقة تزاول أحد أعمال المكتب، إذا بالخانم تدخل عليها هاتفةً بنبرة مستاءة: " لا، علينا الذهاب معهم في رحلة أوريكا! كنتُ قد سلوتُ أنهم سيصطحبون خَجيْ الصغيرة؛ ولعلني لا أستطيع رؤيتها في مناسبة أخرى ". عند ذلك، لحظت المرافقة أنّ عينيّ " سوسن خانم " فيهما احمرارٌ بتأثير الغضب أو ربما البكاء.
















https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن