الشاعر والقصيدة في ديوان -ويبحث في عينيها عن نهار- -خليل إبراهيم حسونة-

رائد الحواري
read_111@hotmail.com

2018 / 4 / 10

الشاعر والقصيدة في ديوان
"ويبحث في عينيها عن نهار"
"خليل إبراهيم حسونة"
هذا الديوان الثاني الذي يتناول في الشاعر مسألة الهجرة، وقد يتبادر إلى الذهن سؤال: هل هناك مبرر لهذا الأمر الذي تم تناوله في ديوان سابق؟ نقول: بالتأكيد هناك حاجة وحاجة ملحة، فالهجرة التي بدأت بزخم كبير بعد أن وضع لنا الأعداء لغم (الفوضى الخلاقة) ما زالت مستمرة حتى اللحظة، فلا بد لأي شاعر/كاتب نبيل أن تدفعه مشاعره واحاسيسه الوطنية أو القومية وحتى الإنسانية ينحاز لهؤلاء الذي أجبروا على ترك وطنهم مكرهين، وكلنا يشاهد يوميا مشاهد الموت الذي يلاحقهم في الأوطان أو في عرض البحر وحتى بعد وصولهم إلى (أرض الأمل).
هذا من جانب، ومن جانب آخر، واهما كل من يعتقد أن الشاعر/الكاتب يكرر نفسه في العمل الأدبي، فلكل عمل أدبي ميزات وخصائص تجعله عملا مستقلا بحد ذاته، فرغم أن الفكرة/المضمون تم الحديث فيه، إلا أن اللغة والأسلوب والألفاظ وطريقة التقديم تكون جديدة، وهذا ما سنجده في ديوان "يبحث في عينيها عن نهار".
العنوان بحد ذاته يحفز القارئ على التقدم من الديوان، فهناك ألم يدفع الحبيب للبحث في عيني حبيبته عن الخلاص، الأمل، فتبدو لنا علاقة حميمة بين الحبيب والمحبوبة، والرجل هو من يحتاج للحبيبة ولهذه العلاقة، والملفت للنظر أن الشاعر استخدم فعل المضارع وأسبقه بحرف الواو كتأكيد حتى استمرار هذا البحث، من هنا يمكننا القول أن العنوان بحد ذاته جاء بصورة شعرية جميلة ومشوقة، فكيف سيكون الديوان؟.
البحر
سنجد في هذا الديوان مجموعة كبيرة من الومضات الشعرية، والتي تحتاج إلى لغة خاصة وقدرة على التكثيف والاختزال، وهذا النوع من الكتابة لا يمكن أن يقوم به إلا من تقتلهم الفكرة، من تحاصرهم الآلام والهموم، لهذا هم لا يكتبون الشعر/الفكرة، بل هي من تكتبهم، يقول في قصيدة "رسم ذائب في الكلمات":
" (1)...
البحر يأكل بعضه...
يزقو على الرمل...
يستجمع أنفاسه..
ويغفو.." ص6، صورة واضحة، تتحدث عن البحر وعن المهاجرين، لكن الشاعر اعطا البحر تركيز اكثر من العناصر البشرية، فجعله "يأكل، يستجمع، يغفو" وكلها أفعال مضارعة تؤكد على استمرارية أعمال البحر.
ويقول في موضع آخر:
"(5)...
إنه البحر..
لم يزل يعلق أشيائه..
على أجنحة الصبر..
ويبتهل.." ص10، استخدام الفعل المضارع يؤكد على حيوية الفعل الذي يقوم به البحر، وعندما اعطاه الشاعر الصفات البشرية أردانا ـ نحن القراء ـ أن نصل/نعرف أن البحر أكثر إنسانية ممن جعل هؤلاء المهاجرين يقدمون مكرهين على ترك وطنهم.
يقدمنا الشاعر من صورة المهاجرين فيقول :
"(13)...
..جدل الأشواق..
أيها الممعن في الحب..
أمامك بحر..
وقداس يتامى..
أحلام مضيئة .. تبذر لك الدمع الثخين ..
فيصير دمي وردة
عبر ذاك اليقين .. ممتدة .." ص28، فاتحة المقطع تتحدث عن مشاعر "الأشواق" التي تأخذ "الممعن في الحب" ليخوض معترك البحر، فسيكون أمامه "موتى" وأحلامه ستتبخر أمام الحزن على الأموات، لكن الشاعر يتلطف بهم، بالمهاجرين فيجعل/بحول الدم إلى وردة، وهذا ما يؤكد انحياز الشاعر إلى من يخضون مغامرة نجاة بواسطة البحر.
السواد
حالة طبيعة أن ينعكس الواقع في الشعر، وأن يتأثر الشاعر بما يشاهده، وإلا لما كان هناك شعر أو كتابة صادقة ومقنعة، سنجد صورة غارقة في القتامة، لكن كيف سيقدمها لنا الشاعر؟:
"(4)...
..الريح تصفر ..
في قارعات الدروب..
وتذوب الأماني..
فلا تنهمر..
الأغنيات.." ص9، اللغة وطريقة التقديم جاءت بشكل رائع وجميل، رغم حجم السواد الطاغي في المشهد، وجمالية هذه الومضة تكمن في أن الألفاظ السواد جاءت فقط في "الريح تصفر" وبقية الأفعال جاء ناعمة وهادئة لكنها تخدم فكرة السواد، وهذا ما يشير إلى أن الشاعر يتلطف بحالتنا، ويحرص على مشاعرنا، فلا يريد أن ينغص علنا، فأختار هذا الشكل الناعم والسلس والهادئ ليقدم لنا فكرة سوداء، لهذا نجد ألفاظ بيضاء "الدروب، تذوب، الأماني، تنهمر، الأغنيات" أكثر من تلك السوداء.
المرأة
العنوان يتحدث عن التجاء الرجل إلى المرأة، من هنا سنجد لها مكانتها في القصائد، يقول في قصيدة "ما زال يبحث في عينيها عن نهار":
" (9)...
..هي الوردة تخثرت في الندى..
كنخلة حائرة..
مسبوقة بجمر نهديها..
يعشوشب جسدها الفذ..
تحدق بسرعة الضوء إلى المنتهى..
تقرع النهد" ص24، يبدو وكأن الشاعر يماثل حالة الواقع/الوطن/الناس بالمرأة، لهذا نجده يستخدم الفاظ "حائرة، بجمر، تقرع" وهذا يشير إلى حالة غير سوية، حالة تحمل وتشير إلى الألم والاضطراب، وإلا ما كانت هذا الألفاظ الصعبة حاضرة.
وهذا ما يؤكده المقطع التالي:
"(10)
..سماء حالمة..
كخرقة مبللة بالشفق..
توق عتيق لعينيها..
يرفرف دون وجل..
واقفة بين وردتين ..ونجمة..
يا لها من عتمة.." ص24، هناك كم من الألفاظ القاسية تشير إلى حالة غير سوية، "بالية، دون، عتمة" ورغم اختصار الشاعر في الالفاظ القاسية إلا أن حالة الغباش حاضرة في المقطع.
لكن الشاعر يتخلص من وقع الأحوال عليه ويقدم صورة المرأة مطلقة البياض، يقول في قصيدة "تمتمات":
"(11)..
....
ويجيء الناس.. يفترشون ظلال عينيك..
تصير يداك..
أصابع "فينوس".
والرموش لها بعض اشتهاه.
شفاه السماء.. يرطبها خدك الوردي..
ونبضتان بخاطر أنثى..
تمدان الأيدي..
لطقوس الحواء
أنه الحب يتمدد في الشرايين .. كلما تجددت
في البدن الشرايين وتمرجحت مقلتاه.." ص64و65، أثر المرأة لم يقتصر على الشاعر فحسب، بل طالت الناس، لهذا نجدهم يجيئوا إليها، وقد اعطاها صفات جمال "فينوس" وهذا ما أزال كل الشوائب والتشويهات في المقاطع، وجعله ناصع متألقا بجماله، بحيث تنسجم الألفاظ والمضمون في تقديم المرأة مطلقة البياض.
ويقول في قصيدة "وجع المعافى":
"(3)
.. على صدرها..
يقضمني ذلك الثدي..
بنار تعلمني الغناء.
فتبتسم شهرزاد..
وأنا أضع الفجر على كتفي
ويصير النداء .. نداء ..
يهمس الكون لبلاد لا حدود لها.." ص106، هناك صراع في هذا المقطع، وهو يحكي عن علاقة جسدية بين الرجل والمرأة، وايضا يحكي علاقة الإنسان بالحرية التي يحلم بها المواطن في المنطقة العربية، وتستوقفنا الألفاظ القاسية "يقضمني، بنار" والتي جاءت لتعبر وتخدم فكرة عدم الصفاء عند الشاعر، فهل لهذا الأمر مبرر؟، نجيب بنعم، فالعلاقة الجسدية رغم ما تحمله من متعة إلا أنها تحمل بعض الألم الناتج عن اللذة، لهذا أرادنا الشاعر أن نشعر بالمتعة والألم معا من خلال استخدمه للألفاظ القاسية، كما أن الحال في المنطقة العربية بائس ومؤلم، فكان لا بد من أن تترك أثرا على الشاعر ومن ثمة على الألفاظ التي يستخدمها، لهذا نجدها حاضرة في القصيدة، ولكن أذا ما أخذنا المقطع كاملا فأنه يعطينا فكرة بيضاء، بألفاظ يغلب عليها الجمال والنعومة.
الحرف والكلمة
عنما تنسجم الكلمة مع المضمون فأن الشاعر يكون منسجم تماما فيما يقدمه من شعر، ولكن عندما ينسجم المضمون مع الكلمة ومع الحرف، فإن الشاعر ينصهر مع القصيدة، فتكون القصيدة هي من تكتب الشاعر وليس هو من يكتبها، وهنا تكون ذروة الشاعرية والذرة عطاء الشاعر.
سنجد في هذا الديوان مجموعة من هذه الشواهد التي تؤكد حالة الانصهار بين الشاعر وقصائده،
قلنا في موضع غير هذا أن استخدام الشاعر للكلمات ذات الحروف المتشابه يشير إلى المرأة وإلى حالة التوحد التي يسعى إليها، يقول في قصيدة "ما زال يبحث في عينيها عن نهار":
"(7)
.. جملة أولى..
رغبة تلسع الوقت..
عبر مسافات العناق..
تتوقد العتمة..
يتغلغل النسيم في بياض لهفته..
قبالة مرآة حالمة..
لم تزل واقفة على حجر الجلجلة..
تقرأ رعدة الزلزلة.." ص22، نجد حروف مكررة في كلمة "يتغلغل، الجلجلة، الزلزلة" ونجد حرف مكرر تباعا في كلمة "تتوقد" كل هذا يشير إلى أن الشاعر ـ في عقله الباطن ـ يرغب وبلهفة إلى التوحد مع المرأة ، وما يؤكد على أن حاجته ملحة إليها، وعلى أنه يمر بحالة غير سوية نجده يستخدم كلمات تعطي معاني متناقضة، فكلمة "يتغلغل" تعطي مدلول التوحد الناعم والسلس، لهذا جعل ما بعدها "النسيم في بياض" لكن كلمتي "الجلجلة والزلزلة" تحملان معانى الألم والقسوة، ولهذا جاء ما قبلهما "حجر ورعدة" وإذا ما توقفنا عند كلمة "تتوقد" وما تبعها "العتمة" تؤكد الحالة المضطربة التي يمر بها الشاعر، وعلى رغبته الجامحة في المرأة، وهذا ما جاء في مقدمة المقطع عندما قال "رغبة تلسع الوقت" فاللسعة وما تحدثه من ألم جعلت الشاعر يستخدم هذا الشكل المتناقض من الكلمات والتي تعبر وتؤكد على الحالة غير سوية التي يمر بها الشاعر.
ونجد أثر الأم في الكلمات المستخدمة في قصيدة "دعوات حميمة" من خلال هذا المقطع:
" (7)
..ها أنذا احتفي بالفرح..
تلملمني الذكريات..
أعانق بوحي..
وعندما أتربع في حضنها ..
أتذكر .. هوجتي..
وأحن إلى قبلة أمي..!!" ص102، فالشاعر يخبرنا من خلال الكلمات والحروف المستخدمة عن حاجته لأمه، من خلال "ها أنذا" والتي اختصرت "ها أنا ذا" ونجد ما تبعها من ألفاظ "اختفي، بالفرح" تعكس حالة النشوة التي يمر بها الشاعر.
ونجد في كلمة "تلملمني" رغبة الشاعر التي توحده مع أمه، وهذا ما انعكس على ما تبعها من ألفاظ "أعانق، أتربع، حضنها، أحن، قبلة، أمي" وإذا ما توقفنا عند صيغة فعل المضارع التي استخدمها الشاعر يتأكد لنا رغبته وحاجته الملحة لهذا اللقاء والتوحد مع الأم، والذي بالتأكيد سيكون لقاء جميل وناعم وسلس، وهذا ما تعكسه الألفاظ البياض التي جاءت لتخدم فكرة اللقاء مع الأم.
ويقول في قصيدة "وجع المعافى":
" (13)
..هو الليل يقر بأعماله المبتغاة ..
وبعض حنين تبقى .. من أساطير حب
يصلصله الولد..
يفتح أبوابه للعواصف..
والأعاصير بين يديها أبجدية الموت
تدق في الأحشاء، وتد الليل..
وليل الوتد.." ص118، نجد الشاعر يكثر من استخدام حروف كلمة "الليل" في كلا من الكلمات التالية: "يصلصله، الولد، للعواصف، القواصف، الليل، ليل، الوتد" وإذا ما توقفنا عند هذا الكلمات سنجدها بمجملها ـ إذا ما استثنينا كلمة "الولد" تعطي مدلول السواد والقسوة، وكأن فاتحة المقطع انعكست على بقية المقطع فجعلته غارق في السواد والشدة، ولهذا نجد الفاظ: "الليل، يصلصله، للعواصف، والأعاصير، الموت، تدق، احشاء، وتد، الليل" وكلها سوداء وقاسية ومؤلمة، خاصة تلك التي جاءت مشكله من حرف الصاد، والتي تشير إلى الغلاظة والقسوة.
الديوان من منشورات فيشون ميديا، فشكو، السويد، رقم الايداع الدولي:2ـ 009ـ 7493ـ 91ـ 978



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن