ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الثامن 1

دلور ميقري

2018 / 3 / 28

إنها المرة الأولى، منذ نحو عشرة أعوام، التي يعود فيها إلى مسقط رأسه.. إلى حطام شبابه، وكان قد غادره خاوي الوفاض من أملٍ أن يؤوب وهوَ محمولٌ على " بساط ريح " الأسطورة الشرقية، المعروفة. صلته مع الوطن، لم تنقطع بطبيعة الحال. " مالارميه "، سَلَفُهُ في المغامرة المغربية، رسمَ فرنسا، في لوحته " الحرية "، امرأةً تحملُ السلاحَ بيد وراية الجمهورية بيد أخرى. فلم يكن بلا مغزى، أن تكون والدة بطل قصتنا بمثابة الوطن، يُعبّر من خلال رسائله إليها عن مقدار ما في نفسه من اشتياق ولهفة ولوعة.
كونه يكره السفر بالطائرة، كان قد استقل سفينة ركاب أبحرت به عبرَ القوس اللازورديّ، المُشكّل شواطئ اسبانيا وفرنسا. ثمة في مرسيليا، استيقظَ لديه عند مرأى كنيسة نوتردام، المعتلية أعلى تلال المدينة. الحنينُ إلى سميّتها الباريسية. فلم يشأ المبيت بالمدينة، على الرغم من وصوله إليها مساءً، فاستقلّ آخر قطار متجه إلى عاصمته الحبيبة. عند فجر اليوم التالي، استقبلته باريس بوابل من المطر وكأنما بهدف نزع أيّ رجاء عنده بشمس الصيف. إلا أنه كان يحنّ حقاً للسعة البرد، لريح القطب الآتية من اسكندينافيا كي تطوي بين أجنحتها الفصلَ الملول، فعلُ حدأة بأرنبٍ وديع. خارج محطة " غار دو نورد "، أبدى لفتة شهامة حيال سائق عربة الأجرة، عندما همّ هذا بحمل حقيبتيه الكبيرتين: " لا عليك، فقط أفتح صندوق السيارة ". لمحض المصادفة، كان مغربياً هذا السائق الشاب، القاتم البشرة. بدَوره، أظهرَ الشابُ ردة فعل طيبة حينَ سمعَ المسيو الفرنسيّ يتحدث بلهجته الدارجة. ولكنه تكلم معه بالفرنسية، مستفهماً: " أنت تتكلم لغتنا بشكل جيد؛ فهل أمضيتَ فترة طويلة في المغرب؟ "
" نعم، إلى حدّ ما. وبالتحديد، بعد اعتلاء مليككم العرش بحوالي السنة "
" أوه، لقد كنتُ أنا في ذلك الوقت صبياً يلعب مع لدّاته في القرية. إنني من جهة الحسيمة، في الريف؛ هل سمعت بها؟ "
" بلى، بالطبع، وزرتها أيضاً أكثر من مرة "، أجابه فيما كان مركّزاً ذهنه على مناظر الطريق بغيَةَ معاينة ما جدَّ من تغييرات عمرانية. دبت الحيوية في الشاب، مفصحاً بحركة رأسه عن تأثره بكلام المسيو رفيع المقام. من خبرته كسائق، كان بوسعه تمييز أحوال الزبون.. من هيئته، كما من المكان الذي يقصده. بطل قصتنا، من ناحيته، ما عتمَ أن أستعادَ اسمَ تلك المدينة الريفية، مقرونةً ببعض الذكريات: " إنها منطقة جميلة، ولكنها تعاني من الإهمال "، قالها مستطرداً وفي نيته معرفة ردة فعل السائق. سادَ الصمتُ وهلة أخرى، قبل أن يرد الشاب بنبرة مستاءة: " كل ذلك سببه أناس فاسدون، جشعون.. لن يدوم لهم الحال، لن ينعموا طويلاً بثمار أنانيتهم! "
" بلى، لقد شهدنا العام الماضي حركة عصيان دموية في قصر الصخيرات، قادها ضباط شبان ينتمون بأغلبهم للريف الفقير "، تكلم المسيو بشيء من الحذر. ولحين أن وقفت سيارة الأجرة أمام الفندق المطلوب، لم يكف كلاهما عن تبادل الحديث في ذلك الشأن. نزل من السيارة، شاداً معطفه الخفيف على جسده اتقاءً للمطر. عاونه السائق هذه المرة في نقل الحقيبتين إلى مدخل الفندق، ثم ودّعه بابتسامة عريضة بعدما سلمهما لأحد المستخدمين. حجرته المحجوزة سلفاً، كانت تقوم على الدور الثاني، وقد وصلها مرتقياً مصعداً مضاءً بشكل مبهر كأنه حمّامٌ أفرنجيّ. فتح له المستخدم بابَ الحجرة، ثم مضى شاكراً إياه على البقشيشَ المُجزي يتعثر بلباس حجّاب الفنادق المميز، المبهرج. على أثر الدوش المنعش، بادر إلى سماعة الهاتف ليطلبَ رقمَ صديقٍ باريسيّ قديم. أنصتَ لصوت صديقه، المتدفق بالأسئلة المفعمة باللذعات الساخرة: " هل وصلتَ اليوم؟.. أعدتَ من مرسيليا بقدم مبتورة، حال شاعرك الأخرق؟.. كأني بلسانك أضحى ثقيلاً، نتيجة معاشرة الغلمان المغاربة؟ أحقاً أنهم رشيقون، ساخنين، ورخيصين؟.. الخ ".
ساعة المقهى، كانت تطلق نغمات متثائبة آنَ وصول " لويس " في الوقت المحدد. اتجه نحوه متبسماً، يلف قامته الطويلة بالرداء المشمّع، الواقي من المطر. قال لصديقه الغارق بالماء على أثر المصافحة الحارة: " لقد غدوتَ مجعد الوجه، يغزو الشيب رأسك، على الرغم من أنك تصغرني بالسنّ ". ألتفتَ هذا إلى ناحية الواجهة الزجاجية، المطلة على المشهد المهيب لكاتدرائية نوتردام، ليرد بشيء من الحدة: " يا له من صيفٍ، فاحش السلوك! ". تابع التملي بهيئة صديقه، قبل أن يقول ضاحكاً: " أما عني أنا، فقد فئتُ من المصهر متلهفاً لنسيم بلدنا البارد "
" إنك تستعير كلمات رامبو، أتذكرها؟، بخصوص مصهر عدن الجيري "
" أجل. وأذكر أيضاً اتهامك لي الدائم بوقوعي تحت تأثيره، يدفعك الحسدُ من موهبتي! "
" دعنا من موهبتك، أيها العجوز، فإنك دفنتها بنفسك تحت أكوام الأوراق المالية "
" هه، وماذا تتقولون عني أيضاً أثناء اجتماعاتكم في ذلك المقهى الثقافيّ، البارد والكئيب؟ "، نبرَ بلهجة احتجاج متكلفة. كان جدّ سعيدٍ بمناكدة صديقه القديم، يشعر بأن المكان يدور به دورة زمنية كاملة معيداً إياه إلى زمن الآمال والشعارات والفوضى. أردفَ قائلاً بسرعة: " وعلى فكرة، فإنني ابتعتُ مقهىً راقٍ في مدينة مراكش، فأطلقت عليه اسماً الرقمَ ‘ 68 ‘ تيمناً بثورتكم الطلابية العمالية، الموءودة "
" ولكنها كانت ثورة مظفرة، ما لو نظرنا إلى انعكاساتها عالمياً. حتى في المشرق الخامل، حصلت تغييرات على أثرها؛ ومنها المحاولة الانقلابية الثورية في المغرب "، قالها صديقه متحمساً. ابتسمَ له ساخراً، وعلق بالقول: " لقد أفلسَ يسارُكم، يا صاحبي. ومن آيات إفلاسه، أنه لا يخجل من اعتبار الانقلابات العسكرية ثوراتٍ شعبية. ومنها المحاولة الانقلابية في المغرب، وقد قادها ضباط مغامرون إلى الفشل بسبب دمويتهم وارتجالهم وتخبطهم "
" ألم تكن أنتَ مدعواً لذلك الحفل الملكيّ، والذي تحول إلى مذبحة؟ "
" إنهم لا يدعون في العادة شاعراً أجنبياً، خصوصاً لو كان مريداً لرامبو! "، أجاب بنفس النغمة المتهكّمة. ثم استدرك قائلاً بصوت منخفض: " ويشاع بشكل واسع، سواء في الأوساط الراقية أو الشعبية، أنّ تلك لن تكون المحاولة الوحيدة لقلب نظام الحكم المطلق. ثمة تحركات مريبة في الجيش، مثلما نمّ إليّ عن طريق معارف من ذوي النفوذ والثقة. إلا أن القصرَ يعتمد على رجله القويّ، الجنرال أوفقير، كون سيطرته على كبار الضباط غير مشكوكٍ فيها. أظنك تعلم من هوَ ذلك الجنرال، المرتبط اسمه بقضية اختطاف بن بركة؟ بسبب القضية، قطعت علاقاتنا مع المغرب في حينه "
" نعم، إنه ذو سمعة سيئة جداً من ناحية حقوق الانسان "، أجابَ صديقه معقّباً. ثم تابعَ غامزاً بعينه : " لاحظتُ أنك تكلمت همساً عند تطرقك للوضع في المغرب، وكما لو كنتَ ما تفتأ في أجواء هذا البلد المحكوم بالنار والحديد؟ ". استأنفَ " لويس " قائلاً بلهجة جدية: " ويبدو أنّ عليّ أيضاً أن أخفض نبرة صوتي، إذ أعلمك بعلاقتي مع فتاة تنتمي من ناحية الدم للأسرة المالكة. سأعرّفك عليها لاحقاً، ما لو فكّرت بتمضية المزيد من وقت إجازتك في باريس ".

> مستهل الفصل الثامن من رواية " كعبةُ العَماء



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن