السيف والنار في السودان

كايد الركيبات
kayedrkibat@gmail.com

2018 / 3 / 28

كتاب السيف والنار من تأليف رودولف سلاطين Rudolf Slatin، وهو ضابط في الجيش النمساوي، ولد سنة 1857، في مدينة فينا، قدم إلى السودان أول مرة في العام 1874، زار خلالها عدداً من مناطق السودان، منها منطقة كورسكو، ومنطقة بربر، والعاصمة الخرطوم، وجبال النوبة، وبقي مدة من الزمن في مركز الرسالة الكاثوليكية النمساوية التي كانت دلين، ولم يتمكن من التجول في مناطق غرب السودان، لصدور تعليمات حكومية تمنع دخول الأجانب إلى منطقة دارفور خوفاً على سلامتهم، لان المنطقة كانت لتوها قد خضعت لسلطة الحكومة، ولا يمكن تقدير حجم المخاطر هناك، ونتيجة لذلك قرر سلاطين العودة إلى النمسا في 1875.
وفي تموز/ يوليو 1878 تسلم سلاطين خطاباً من الجنرال تشارلز غوردون Charles Gordon (1833- 1885) ــــ والذي كان قد عين حاكماً عاماً على السودان من قبل الحكومة المصرية ــــ يدعوه فيه إلى القدوم إلى السودان، والعمل في خدمة الحكومة المصرية، ونيجةً لمشاركته في الحرب الدائرة في البوسنة آنذاك، لم يؤذن له بالسفر، ولم يتمكن من السفر إلى السودان إلا بعد انتهاء مهمته العسكرية، وكان ذلك في كانون أول/ ديسمبر 1878، وعند وصوله عين مفتشاً مالياً في السودان، وكان عمره حينها (21) عاماً، وبعد فترة قليلة من ممارسته لعمله قدم استقالته من هذه الوظيفة، وقبل غوردون استقالته، وعينه مديراً لدارفور، وكانت وفاة سلاطين باشا في فينا سنة 1932.
وكان سبب تأليف الكتاب، هو طلب ونجت بك ــــ الذي كان يشغل منصب مدير المخابرات الحربية في مصر ــــ من سلاطين أن يكتب مذكراته عن فترة عمله واعتقاله في السودان، لكونه كان مطلع على كثير من المعلومات عن حكومة المهدية في السودان، وعن والأوضاع الداخلية في أم درمان. لأنه كان ينوي الاستفادة منها في إثارة الرأي العام البريطاني ضد الحكومة البريطانية، ليدفعها إلى التدخل العسكري لاستعادة السودان.
وبدأ سلاطين بكتابة مذكراته عن فترة عمله في السودان، وفترة وقوعه في الأسر عند جيش المهدي، وذكر قصة فراره من الأسر، وكتب هذه المذكرات باللغة الألمانية، وبعد أن أتم كتابتها عمل منها ونجت بك كتاباً سماه " السيف والنار في السودان" وقد اخرج هذا الكتاب بمساعدة نعوم شقير ـــــ كاتب قلم الاستخبارات الحربية حينهاــــ ونشر هذا الكتاب في مطلع سنة 1896، وأصبح الكتاب أداه مهمة من أدوات حث الحكومة البريطانية، للعمل على استرجاع السودان.
وفي عام 1930 قامت جريدة البلاغ بترجمة الكتاب إلى اللغة العربية، وطبعته مكتبة الحرية بأم درمان. وفي عام 1999 أعيد طباعة الكتاب، عن طريق الهيئة المصرية العامة للكتاب، ضمن سلسلة تاريخ المصريين ، وهذه الطبعة وقعت في 506 صفات. ورتب الكتاب في تسعة عشر فصلاً.
وقد حاول سلاطين من خلال سرد مذكراته في هذا الكتاب، أن يظهر بصورة السيد المتعاون الرقيق مع كل المتعاملين معه، ويحاول أن يكون متفهماً لمشاكلهم، ويحاول حلها ما أمكنه ذلك. ويذكر خلال فترة حكمه لمديرية دارفور مساعيه الرامية إلى تخفيض الضرائب عن أهالي الفاشر، وكبكبة، ومطالبته الحكمدار رؤوف باشا أن يأذن له بأخذ الضريبة من القبائل عدداً من العبيد، بدلاً من المواشي، حتى يتمكن من تعويض النقص في إعداد الجيش، الناتج عن المرض والوفاة والحوادث، وليتمكن من ضم جنود البازنجر الذين كانوا ملتحقين بجيش سليمان زبير إلى صفوف جيشه، لان هؤلاء الجنود لهم معرفة بالأسلحة، ويشكل وجودهم خارج الجيش الحكومي خطراً على الحكومة، فوافق رؤوف باشا على هذه الطلبات، وأعطاه صكاً مكتوباً بذلك.
ومن خلال المعلومات التي يوردها سلاطين في فصول كتابه التسعة عشر، يمكن استنتاج أن ما أورده من معلومات وروايات تاريخية، كانت تتضمن حقائق لا يمكن تجاوزها عند دراسة تلك المرحلة من تاريخ السودان، أيده كثير من الباحثين فيها، وفي نفس الوقت يمكن ملاحظة نقمة سلاطين على الحركة المهدية، ممثلة في مبالغته بنقل بعض الأخبار والروايات المتعلقة بشخص المهدي في المقام الأول، وشخصية خليفته عبدالله التعايشي في المقام الثاني، ومجمل أنصار المهدي في المقام الثالث، عندما يورد أخبارهم، ويصف تصرفاتهم.
فالرواية التي أوردها مثلاً عن الخلاف الذي حصل بين محمد احمد المهدي، مع الشيخ محمد الشريف ــــ شيخ الطريقة السمانية ــــ لما انتقده محمد احمد، على إذنه للحضور بالغناء والرقص عندما أقام حفل ختان أبنائه، تدل على محاولة سلاطين إظهار محمد احمد المهدي، بمظهر الضعيف الذليل، الذي يستجدي الشيخ محمد الشريف العفو عنه، وإعادته إلى صفوف تلاميذه، ويشير إلى أن محمد أحمد المهدي لما يئس من ذلك، انظم إلى طريقة الشيخ القرشي، الذي رحب به، لأنه هو أيضاً كان على عداء مع الشيخ محمد الشريف، وهذه الحادثة التي بالغ في وصفها، لم يكن شاهداً عليها، ولم يذكر مصدر معلوماته عنها.
ومن الروايات التي يمكن ملاحظة دور سلاطين في تفخيمها، والمبالغة في وصف أنصار المهدي بأنهم قوة همجية، شعارها القتل والتنكيل، وما وصفه من مشاهد عن ذلك، مثل مشهد قتل غوردون عند احتلال الخرطوم، حيث يقول: "وتقدم أولهم وطعن غوردون بحربته فوقع على وجهه دون ان ينطق بكلمة. فأخذ القتلة يجرونه على السلالم إلى باب السراي وهنا أخذوا رأسه وأرسلوه إلى المهدي في أم درمان. أما الجسد فقد ترك لرحمة المتعصبين. وكانت آلاف من هذه الخلائق الوحشية تمر على الجسم ويغمس كل منهم حربته في دمه. فلم يمض زمن حتى صار الجسم قطعة مشوهة من اللحم وقد بقيت بقع الدم مدة طويلة في المكان الذي قتل فيه غوردون شاهد على ارتكاب هذه الفظيعة بل كانت ترى أيضا على درجات السلم مدة عدة أسابيع ولم تغسل إلا حين قرر الخليفة ان يتخذ هذه السراي مأوى لزوجاته السابقات واللاحقات".
ومع قسوة تصوير هذه المشاهد، لا يستبعد أن يكون لضابط الاستخبارات الانجليزي ونجت دوراً في التعديل على بعض هذه الروايات، عند ترجمته الكتاب إلى اللغة الانجليزية، وإخراجه بالطريقة التي وصلنا بها، لأنها في النهاية تخدم هدفه وهدف سلاطين باشا من تأليف هذا الكتاب، والمتمثلة في إظهار المهدية بصورة مشوهة، واستغلاه هذه المشاهد القاسية لتحريض الرأي العام الانجليزي للضغط على الحكومة للتدخل عسكرياً في جهود استعادة السودان.
وتشكل روايته عن استسلام الخرطوم لأنصار المهدي مصدراً مهماً من المصادر التاريخية عن تلك الفترة، بصفته الشخص الذي أبرم اتفاق التسليم، والذي كان على اطلاع كامل على كل مسببات هذا الاستسلام، بعد وصول أخبار إبادة حملة هكس، مما اضطره إلى توسيط بعض العرب الموالين له حتى يفاوضوا أنصار المهدي، ويخبرونهم باستعداده للاستسلام، إذا أرسل المهدي رسوله لاستلام البلدة، وجاء الرد على هذا الطلب في 20/12/1883، وكان الرد يتضمن ضرورة مقابلة سلاطين لمحمد زوجال في حلة الشعيرية بتاريخ 23 ديسمبر، وتسلم سلاطين خطاب المهدي الذي تضمن تعيين سيد محمد زوجال حاكماً على الغرب، وان المهدي عفا عن سلاطين وأوصى بمعاملته بإكرام، وأن يعامل سائر موظفي الحكومة السابقة باللطف.
واستطاع سلاطين أن يقدم لنا صورة واضحة عن الحياة الاجتماعية، التي كانت تعيشها جماعة المهدي، فنقل لنا تفاصيل حياة الخليفة المهدي، وخليفته عبدالله التعايشي، من ملبس، ومسكن، وعاداتهما في تناول الطعام والشراب، وأمور عبادتهما، وأسلوب تعاملهما مع أنصار الدعوة المهدية، وأساليبهما في إدارة شؤون الدولة، وتحضيراتهم العسكرية لإرسال الجهاديين.
كما نقل لنا صور المآسي التي عاشها الأهالي، عند احتلال أنصار المهدي للمدن، ومن أكثر هذه الروايات قسوة، تلك التي تصف حالات التعذيب التي لحقت بهم للكشف عن الأموال، والأمتعة الثمينة، التي كان يتم إخفائها قبل دخول جيوش المهدي لأي منطقة يسيطروا عليها، ومن أنواع التعذيب التي استعملوها في حق الأهالي، ضربهم بالسياط، حتى يتناثر لحمهم، أو أن يعلق الرجل من إبهاميه، إلى عمود من الخشب، حتى يغمى عليه، أما النساء فقد كان يتم جمعهن وإرسالهن إلى المهدي، فيصطفي منهن من أراد، ويرد سائرهن إلى الخلفاء والأمراء، وفي وقعة الخرطوم استمر جمع النساء والانتخاب بينهن عدة أسابيع، حتى امتلأت بهن بيوت أنصار المهدي. وحُملت الغنائم إلى بيت المال، بعد اختلاس أشياء كثيرة منها، ووزعت المنازل المهمة على الأمراء ورجال المهدي.
ومن الأخبار المؤلمة التي نقلها لنا سلاطين، تلك التي تحدث بها عن المجاعة التي أصابت السودان أواخر العام 1889، وإن الناس أصبحوا يأكلون كل شيء يجدونه، فأكلوا جلود الحيوانات البالية، ولم يتركوا حتى الجلود المصنوعة منها سررهم، فقد كانوا يقطعونها ويغلونها في الماء، ثم يأكلونها، ويذكر أن امرأة وجدت تأكل طفلها، فساقوها إلى مركز البوليس لتعاقب على جرمها، لكنها ماتت بعد يومين من القبض عليه، ويتحدث عن مشاهدته لثلاث نساء رآهن يأكلن من لحم جحش صغير وهو حي، من شدة الجوع، وهجم عليهن أناس واختطفوه منهن ليأكلوه، وأبيدت بسبب تلك المجاعة قبائل عن آخرها هي: العقالان، والحمرة، والحسابيا، والشكرية. وكان الناس يبيعون أبنائهم ذكوراً وإناثاً لمن يقدر على تموينهم، في محاولةٍ منهم لحفظ حياتهم، وبعد أن انقضت تلك السنة العصيبة عنهم، استردوهم بأثمان باهظة.
وكانت جثث الموتى في الشوارع لا تحصى، ولا يوجد من يحملها ويدفنها، فصدرت أوامر الخليفة بأن يحمل كل شخص الجثث التي تكون أمام بيته ويدفنها، وإلا تعرض لمصادرة أمواله، فأصبح الناس يلقون بالجثث أمام منازل جيرانهم ليتخلصوا منها.
وتمكن سلاطين من تصوير حياة المسيحيين في السودان، زمن الدولة المهدية، فذكر ان الأب أوهر والدر عمل نساجاً ليعيش هو وأهله مما يكسبه من نسج القطن، وعاش الأب روزينزلي وبيوروجنتو على ما يكسبانه من بيع الساعات في الدائرة المركزية للسوق، وكان ممنوعاً على المسيحيين مغادرة أم درمان، وكان مفروضاً عليهم أن يضمن أحدهم الآخر، وبعد فرار الأب أوهر والدر فقد أنشأ الخليفة عبدالله التعايشي مكاناً حصيناً لحجزهم فيه قرب المسجد، وكان مفروضاً عليهم أن يحضروا الصلوات الخمس كل يوم.
وتحدث سلاطين طويلاً عن طريقة فراره من الأسر، ووصف هذه الرحلة بكل تفاصيلها، ووصف حالة السعادة التي انتابته عندما التقى بالضباط المصريين والأجانب، عندما وصل إلى أسوان في 16/3/ 1895، ووصف لنا مشاعر الفرح التي شعر بها، عندما تلقى التلغرافات التي تهنئه على خلاصه من الأسر، وتوجه إلى القاهرة وقابل الخديوي وأنعم عليه برتبة الباشوية.
تقييم الكتاب:
1. يعتبر كتاب رودولف كارل سلاطين "السيف والنار في السودان" كتاب مذكرات، وقد اشتمل على معلومات عن فترة حُكمه لمديرية دارفور، وعن فترة وقوعه في الأسر في أم درمان لمدة 12 سنة.
2. الكتاب يشتمل على معلومات تاريخية قيمة، ولا يمكن تجاوزه عند دراسة الحركة المهدية، التي تعتبر مرحلة مهمة من مراحل تاريخ السودان، شريطة تطبيق قواعد المنهج العلمي التاريخي على محتويات الكتاب، والمتمثلة بـــ: قاعدة الشك، وقاعدة معرفة الميول والأهواء السياسية والعاطفية للكاتب، وقاعدة التدقيق في الغاية من نقل الخبر وروايته له.
3. قدم الكتاب وصفاً دقيقاً لسوق أم درمان، ولبيت المال، ولتنظيم البريد، ومدى دقة وسرعة توفير معلومات إستخباريه، عن المواطنين، والتجار، والقادة العسكريين، والتحركات العسكرية في كل المناطق التابعة لحكم الحركة المهدية.
4. قدم معلومات مهمة عن نظام إدارة الدولة، وتقسيماتها الإدارية، وكيفية تنظيم الجيوش، وإجراءات الحماية والدفاع في الدولة.
5. وجدت روايات كثيرة في الكتاب تحاملت على المهدي وخليفته، ووصفتهم بصفات القسوة والظلم، في تعاملهم مع النصارى في السودان، ومع القبائل التي تعارض الخضوع لسلطتهم.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن