يهود العراق والتمسك بالهوية الثقافية

نبيل عبد الأمير الربيعي
Nabeel_alrubaiy58@yahoo.com

2018 / 3 / 26


الحنين إلى الماضي يساعد المرء على إدراك ذاته بصورة أفضل من خلال عقده لمقارنات بين ماضيه وحاضره, وبهذا المعنى يصبح الحنين للماضي بمثابة نقطة ارتكاز تُمكّن المرء من إدراك هويته, كما أن المرء يلجأ إلى الحنين للماضي عندما يعجز عن اضفاء الدفء على العلاقات الاجتماعية التي يحتاجها واعتاد عليها في موطنه الأصلي.
حافظ يهود العراق على موروثهم الثقافي الشرقي وبدأوا في البحث عن جذورهم الشرقية خلال العقد الثامن من القرن الماضي, بل شعروا أن ثقافتهم على أقل تقدير مساوية للثقافة العربية التي يحملها يهود الغرب, فاليهود العراقيين حسب طبيعة البيئة التي نشأوا فيها في إسرائيل ينقسموا إلى مجموعتين, الجيل الأول من اليهود العراقيين نشأ في بيئة شرقية وتشكلت ثقافته من محيطه العربي, أما الجيل الثاني فشبّ في بيئة إسرائيلية تميل للطابع الغربي, وهذا من شأنه أن يحدث فروقاً بين الانتماء الثقافي بين المجموعتين وفق عناصر الهوية منها اللغة العربية التي تعتبر أحد أهم مفردات الهوية بصفة عامة, ومن اهم وظائفها التواصل مع الآخرين والمعرفة من خلال تعلم كيفية تصنيف الأشياء إلى مفردات ومصطلحات توجدها اللغة, كما أنها أداة يعبر بها الإنسان عن مشاعره وانفعالاته.
وقد حافظ اليهود العراقيون على موروثهم الثقافي في العراق على مرّ العصور, ولم يمنعهم ذلك من الاندماج في المجتمع العراقي, حتى أن عاداتهم وتقاليدهم ولغة حوارهم اليومية كانت عربية, فكانت اللغة العربية عاملاً كبيراً في تشكيل الهوية الثقافية لليهود العراقيين, وقد نالت اللغة العربية قدراً كبيراً من الأهمية على مستوى كتابة الأدب لدى الجيل الأول منهم بعد الهجرة, ولعلّ في استمرار بعض الأدباء الذين ينتمون إلى جيل الآباء في الكتابة باللغة العربية لفترة بعد هجرتهم لإسرائيل دليلّ على تمسكهم بهويتهم الشرقية, وقد تمسك يهود العراق باللغة العربية تعبيراً عن الحنين إلى الماضي والتمسك بأهدابه, ويتمثل ذلك في تسمية الأشياء في إسرائيل بأسماء عربية, نظراً لما تحمله هذه الأسماء من شحنة استقرت في الوعي التاريخي لهم.
تتمايز الجماعات عن بعضها البعض عن طريق اللغة واللباس والعادات والتقاليد وغيرها, فقد عبَّر الجيل الأول من اليهود العراقيين عن مدى تمسكهم بتراثهم الثقافي, ففي سبعينات القرن الماضي ظهر من بين مثقفي اليهود العراقيين مجموعة مؤسسة لـ(مركز التراث اليهودي البابلي), وكان من بين أهداف هذا المركز التركيز على الموروث الثقافي ليهود العراق من الناحية الاجتماعية والثقافية والأدبية, أقيم هذا المركز عام 1980م, ويهدف إلى جمع التراث اليهودي العراقي, فضلاً عن تمثيل اليهود العراقيين داخل المجتمع الإسرائيلي, ويوجد متحف ملحق بالمركز تعرض فيه آثارٌ يهودية من العراق, كما يصدر هذا المركز مجلة دورية (نهر دعة) التي تعني بالأدب والفلكلور العراقي للطائفة, كما يصدر المركز كتباً وأبحاث تتعلق باليهود العراقيين.
كما أسس اليهود الذين ينحدرون من أصل عراقي (رابطة الجامعيين اليهود النازحين من العراق), وهي جمعية علمية ثقافية اجتماعية أدبية تأسست عام 1980م غرضها تعزيز التعاون بين الجامعيين اليهود النازحين من العراق في مجال البحث العلمي والنشاط الاجتماعي والثقافي والأدبي والفني, عن طريق نشر مؤلفات اليهود النازحين من العراق, والأبحاث التي كتبت عن يهود العراق, وعقد الندوات العلمية والثقافية والأدبية, كان يترأسها في العام الماضي الراحل البروفسير سامي مورية, وبعد وفاته ترأسها الدكتور خضر سليم البصون.
تمكن اليهود العراقيين من استخدام الوسائل التي يتصلون من خلالها بهويتهم الشرقية من خلال الموسيقى والأغاني العربية والعراقية, فكان تمسكهم بعناصر الموروث الثقافي والفني العراقي, كما سعى اليهود ذوو الأصل العراقي إلى تربية أبنائهم بنفس الطريقة التي اعتادوا عليها في العراق, كما يسعون إلى تلقينهم المبادئ التي التزموا بها هناك, ويظهر هذا مدى الحرص الذي يدعوا له الجيل الأول من المهاجرين اليهود العراقيين على التقاليد التي تجعل مكانة الأخ الأكبر كمكانة الأب تماماً إذا غاب الأب عن المنزل.
كما يحرص اليهود العراقيون على التمسك بالطريقة الشرقية في تربية الفتيات, والابتعاد عن مبادئ التحرر الغربية التي يعتبرونها مغالى فيها, ويرفض الجيل الأول من اليهود العراقيين للعادات السائدة في المجتمع الإسرائيلي الجديد عليهم والغريب عن مجتمعهم الشرقي المحافظ, وبما تعلموه في المجتمع الشرقي الذي جاءوا منه عن مساوئ الاختلاط بين الجنسين.
وبسبب تمسك الجيل الأول من يهود العراق بعراقيتهم وثقافتهم العراقية أخذت تلعب الموسيقى والمقام العراقي دوراً هاماً في تحديد الهوية الجماعية لهم باعتبارها أحد أدوات التعبير عن الأنشطة الثقافية العراقية, وعندما هاجر يهود العراق منتصف القرن الماضي كانت الموسيقى والغناء العراقي قد ترسخت في وجدانهم واسهمت في تشكيل هويتهم الجمعية, وكنوع من التعبير عن انتمائهم الثقافي للهوية العراقية من خلال تفضيلهم الموسيقى والغناء العراقي, كما قاموا بتسجيل الأغاني العراقية في استوديوهات متواضعة, وكذلك غنى مطربو الطائفة حفلات الزفاف, فكان لهؤلاء المطربين جمهورٌ كبير في إسرائيل.
كما لا ننسى تمسك الجيل الأول من يهود العراق بعاداتهم في مجال الطعام العراقي, وقد فضّلوا طرقهم الخاصة فيما يتعلق بمسألة الطعام, فحافظوا على أنواع الأطعمة التي كانوا يأكلونها في العراق قبل الهجرة, كما استطاعوا أن يقيموا سوقاً خاصاً بهم لبيع مستلزمات الأكلات العراقية, وكذلك لبيع الأطباق العراقية الجاهزة, ويعبّر هذا عن ميل الطائفة اليهودية العراقية في إسرائيل للاحتفاظ بهويتها الشرقية العراقية وبالثقافة التي تعبر عن هذه الهوية على الأقل في المراحل الأولى, ويدل هذا على تمسك الجيل الأول من اليهود العراقيين بالهوية العراقية الشرقية المتمثلة في الحفاظ على الطعام الشرقي المتعلق بيوم السبت.
أما الجيل الثاني من أبناء يهود العراق إذ يقل تمسكه بالهوية الثقافية ربما يجدها غريبة عليه وغريبة على المجتمع الذي يعيش فيه والذي استقر فيها, فضلاً عن مرحلة التعليم والادراك واكتساب الثقافة المحيطة به, لذلك يمكن تسليط الضوء في السبب إلى البيئة التعليمية التي نشأ فيها الجيل الثاني من يهود العراق باعتبارها عاملاً مؤثراً في تشكيل هويتهم, فتعلم ابناء المهاجرين اليهود العراقيين في مدارس إسرائيلية, حيث ركزت مناهج التاريخ في المؤسسة التعليمية الإسرائيلية آنذاك على تاريخ يهود أوروبا, كما تضمنت تاريخ الحركة الصهيونية في أوروبا, بينما لم تتناول تلك المناهج تاريخ يهود البلدان العربية ومنها العراق, كما اهتمت المناهج الدراسية بالأعمال الأدبية لليهود ذوي الأصول الأوروبية ولم تأتِ بذكر لكتابات يهود شرقية أو عراقية إلاّ فيما ندر.
لذلك يبتعد الطلاب العراقيون عن تاريخ آبائهم ويدرسون تاريخ يهود الأشكناز, كما اسهمت اللغة العبرية بشكل كبير في تشكيل الهوية لدى الجيل الثاني, مما نتج عن ذلك فجوة ثقافية بين الجيل الأول والجيل الثاني تسببت في صعوبة نقل الهوية الثقافية العراقية للجيل الثاني, كما تسبب للجيل الثاني نوع من الخجل بسبب هويتهم العراقية الشرقية, وهناك عدد لا يستهان به من المهاجرين اليهود العراقيين المثقفين رفضوا جذورهم العربية لكي يكونوا أكثر اقتراباً من المجتمع الإسرائيلي, والتخلي عن الموروث الثقافي الشرقي وتبني الهوية الإسرائيلية, وقد كشفت إحدى الدراسات الاجتماعية حدوث انخفاض بنسبة كبيرة في عدد المحافظين على العادات الشرقية لدى الجيل الثاني من ناحية, وحدوث زيادة كبيرة في نسبة الذين تخلوا تماماً عن هذه العادات من ناحية أخرى, إذ يفضل ابناء الجيل الأول أن يعيش الشاب مع أبويه إلى أن يتزوج, وقد جرى العرف على هذا, غير أنّ الجيل الجديد من أبناء المهاجرين العراقيين بدأ يخالف هذا العرف, ويسعى المجتمع العراقي في إسرائيل بصفة عامة لجعل الزواج أساساً للحياة الاجتماعية, وليس ممارسة الجنس دون زواج, وتشير بعض الدراسات إلى عدم تمسك الجيل الثاني من اليهود العراقيين بالتقاليد التي تحظر الاختلاط بين الجنسين دون زواج.
حافظ الجيل الأول من المهاجرين العراقيين في إسرائيل على حرمة يوم السبت في الشريعة اليهودية, فالأم تستعد من يوم الجمعة قبل غروب الشمس وتسخن كفايتها من الماء لأنها تعلم أنه محظور عليها إيقاد الموقد يوم السبت طبقاً للشريعة اليهودية, غير أنه يبرز أيضاً عادة اجتماعية وهي عادة الاغتسال عشية السبت, فحتى التدخين يعتبر البعض حراماً أو فساداً, إلا أن معدل التدين بين أفراد الجيل الثاني أقل من معدل التدين لدى آبائهم من الجيل الأول.
وفي ظل تلك المعطيات تنبأ عدد من الباحثين بعدم قدرة الهوية الدينية لليهود العراقيين على الصمود أمام الهوية الإسرائيلية الغربية الجديدة والتي تنافي ما كان عليه اليهودي قبل قيام الدولة في أنحاء العالم, لكن مع هذا أصبح لليهود العراقيين حضور ملحوظ في جميع مجالات المجتمع الإسرائيلي, فضلاً عن المؤسسات والدوائر الحكومية.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن