بلاد العرب وبلاد اليهود بين التوراة والنقوش الأثرية

فكري آل هير
fekri101@hotmail.com

2018 / 3 / 21

ماذا لو بحثنا عن العرب وجغرافية بلاد العرب في التوراة؟!
وماذا لو بحثنا عن اليهود وبلاد اليهود في النقوش الأثرية؟
السؤال الأول يتضمن الصيغة العكسية والضد تماماً للعنوان الذي لطالما حملته تلك المؤلفات والأعمال التي تنتمي الى دائرة نظرية كمال الصليبي وإخوانه: "جغرافية التوراة في جزيرة العرب".
والسؤال الثاني يصنع تقابلاً محورياً بالنسبة للمصادر، أي النقوش الأثرية في مقابل النص التوراتي.
جاءت فكرة هذين السؤالين، في إطار جهودي الراهنة لتطوير منهج نقدي يقوم على ما أسميه (قلب الدليل، أو عكس الدليل)، والذي يهدف الى التعامل مع الأدلة التي يقدمها رواد نظرية جغرافية التوراة من خلال عكسها، أو بالأصح من خلال إعادتها الى وضعها الصحيح.
على كل حال، ليس هذا هو مقام شرح منهجيتي التي أقوم بتطويرها.. وإنما هو مقام للتحقق من جدوى تطبيق هذا النموذج المنهجي النقدي، في عرض ومناقشة ونقد استدلالات رواد هذه النظرية، ولا بأس لو بدأنا الأمر بشكل بسيط وموجز.
فإذا كان ادعاء أصحاب هذه النظرية يقوم على أساس أنهم وجدوا من خلال تشابه الأسماء بأن جغرافية التوراة في الجزيرة العربية، فإن من الأولى بنا هو التحقق مما جاء في التوراة نفسها بشأن بلاد العرب وجغرافيتها، إذ لا يعقل أن تصف التوراة المنطقة نفسها بوصفين مختلفين، وتعطيها أسماء أماكن ومدن وقرى وتلال تقع في منطقة أخرى، أو أن تعطي لمنطقتين مختلفتين توصيفاً واحداً، بحيث يلتبس علينا الأمر الى هذا الحد.
ومن أجل ذلك، كان لابد من البحث عما يقوله النص التوراتي عن العرب وبلاد العرب، وهل يتطابق مع ما يقوله أصحاب هذه النظرية أم أنه يتناقض معهم؟- وبناءً على ادعاءات هؤلاء المنظرين لجغرافية التوراة، فينبغي أن يكون حديث التوراة عن بلاد العرب- جزيرة العرب- متطابقاً مع تلك الادعاءات، إذ يفترض أن من قاموا بتحريف الحقيقة- سواءً تحريفها في النص التوراتي أو في الجغرافية الطبيعية- قد أخذوا بعين الاعتبار أنهم يقومون بعملية تحريف، وبالتالي فإنهم سينقلون مناطق أحداث التوراة من موقعها الحقيقي في جزيرة العرب الى موقعها المزيف في فلسطين وبقية مناطق الشرق الأدنى (العراق، سوريا، مصر)، وعليهم بمقتضى ذلك أن يكونوا بارعين في عملية التزوير تلك، بحيث يستعصى على أيٍ كان أن يكتشفها، وهذا أيضاً ما يفترض أنه حدث بالفعل، فبحسب رواد النظرية فقد انطلت هذه العملية الرهيبة التي تم بها تزوير وتحريف حقيقة الجغرافيا والتاريخ على البشرية كلها، ولولا أن الله ألهم (الصليبي وديب وداود وعيد والدبش والربيعي)، لكنا لليوم نقبع في غياهب جاهليتنا المستمرة منذ قرون، لا نعلم حقيقة أين تقع جغرافية التوراة.
نعم، جغرافية التوراة التي لا وجود لها أصلاً إلا في عقول هؤلاء البضعة نفر..!!
في المقابل، إذا كانت النقوش الأثرية تصف لنا موقع بلاد اليهود، فلابد أن تتضمن ما يشير الى أنها تقع في جزيرة العرب، إذ علينا أن نفترض صحة ادعاءات أصحاب النظرية أولاً قبل اختبارها والتحقق من مدى صحتها.
والآن، سأقدم معالجة صغيرة بحسب ما يتسع لها المقام هنا، للبحث في السؤالين والمنطلقات التي أشرت إليها آنفاً.
**
في بحث قام به القس والعميد الأكاديمي وأستاذ اللاهوت في كلية الناصرة الإنجيلية، أحد فروع كلية بيت لحم للكتاب المقدس، الدكتور "يوحنا كتناشو"، حول (المصطلح عرب في العهد القديم- أي التوراة)، يفيدنا هذا القس الكريم والطيب، بأن: "المصطلح "عرب" في العهد القديم بصور متنوعة وأزمنة مختلفة وأطر أدبية متعددة. فكلمة عربي، وأعرابي، وعربان أو مشتقاتهم تظهر في نحو (16) مرة في نصوص العهد القديم (التوراة)، كما تظهر الكلمة العبرية "هعرب" مرتين.."، بالإضافة الى ألفاظ أخرى تشير الى العرب وبلاد العرب يعطينا إياها القس "كتناشو" ويحدد مواقعها وصيغها اللفظية بالعبرية بدقة كافية.
وبحسب "كتناشو" والإحالات الكثيفة التي أحالنا إليها، فإن تسمية العرب في العهد القديم لا تقتصر على هذه التسمية فحسب، إذ أن الأسفار والتفاسير التوراتية (التناخية) تذكر العرب بأنهم عرفوا أيضاً بأسماء أخرى، منها: "الاسماعيليين، المديانيين، العمالقة، بني المشرق، المعونيين، الأنباط. بينما ذهب تصنيفات أخرى للعرب في الكتاب المقدس، بحسب القبائل البدوية، فأشارت الى: العمالقة، الهاجريين، الاسماعيليين، اليطوريين (يطور)، والمعونيين، والمديانيين، ونافيش، ونوداب، وبني المشرق، و(بوز) وقيدار، وشبا، وتيماء، فكل هذه الأسماء تدل في سياقاتها التوراتية التي وردت فيها على أنها إنما تشير الى العرب، أو الى السكان الذي يعيشون في أجزاء من جزيرة العرب.
بحسب النصوص التوراتية التي ترد فيها هذه الأسماء، فإن هؤلاء العرب كانوا يسكنون في مناطق مجاورة لمناطق اليهود، وبالتحديد في البادية المعروفة حالياً في شمال جزيرة العرب والممتدة من بادية العراق والأردن وسوريا وحتى شبه جزيرة سيناء، وتصورهم التوراة – دجلاً وكذباً- على أنهم كانوا يأتون بالذهب والأموال الى ملوك اليهود حيثما كانوا في منطقتهم الضيقة والمحدودة، والتي غلب عليها اسم مدن اليهود أو بلاد اليهود.
على كل، فهذا يتطابق حرفياً مع ما يرد في النقوش الآشورية والنقوش السبئية (المسندية) التي تشير الى منطقة ضيقة كانت تعرف بهذا الاسم، لم تكن في حقيقة الأمر إلا مجرد قريات صغيرة تتكوم في مساحة ضيقة من أراضي فلسطين تقاس مساحتها بالذراع، باعتراف التوراة نفسها.
في النقوش الآشورية يرد ذكر اسم بلاد اليهود باسم (يأودو- يأوديت)، أو (اقليم يائودو) بلاد اليهودية التي تقع في اورشليم وأطرافها، وبحسب النقوش الآشورية أيضا فإقليم (اليهود ياؤدوت LÚ ya,udūtu) هذا يجاور اقليم ادوم وامّان (عَمّان) ومواب (شرقي الاردن)، كما في نقوش الحملات العسكرية الآشورية الى الجهات الغربية ناحية البحر الكبير (البحر المتوسط).
أما في النقوش السبئية، فيرد ذكر بلاد اليهود هذه باسم (أهجر يهد/ يهود)، التي تقع بالقرب من مصر وديدان ولحيان وغزة ومدن أخرى في أراضي الكلدانيين كما في النقش (B-L Nashq Demirjian 1). وفي نقوش مسندية أخرى يأتي ذكر بلاد (اليهود) هذه باسم (دواة/ دوأت) التي تقع بالقرب من (عكا، جزين، صيدا، وصور).
لو تأملنا جيداً لفظ (دواة/ دوأت) في النقوش السبئية، فسيتضح لنا جلياً أنه مصاغ بصيغة الجمع السبئية الفريدة (أفعول)، والتي لا توجد في جميع لهجات ولغات المنطقة العربية القديمة كلها بما فيها العربية الحديثة نفسها، فأصل (دواة) أو (دوأت) تعني (ايودة/ ايودات) والتي غلب عليها بسبب تتالي حروفها المتحركة لحن التبديل والتقليب حتى صارت (دوأة، دوأت)، فضلاً عن أن (دواة/ دوأت) تشبه الى حد كبير (يائودو) الآشورية، و(يوديا) في السجلات الإغريقية، والثلاث التسميات المتشابهات والمتقاربات باللفظ تشير الى منطقة واحدة بعينها، تقع ضمن أراضي فلسطين.
وبالطبع، فإنه لا يعقل أن يكون هذا الاتفاق صدفة، كما لا يمكن القول بأنه من عمل الشيطان..!!
الجدير بالذكر أن النقوش الأشورية والنقوش السبئية تتفق معاً في ذكر بلاد اليهود هذه في اطار حملات عسكرية قام بها الأشوريين والسبئيين كلاً من جهته على اليهود. فالعرب وكل الأمم من غير اليهود في التوراة هم غزاة يأتون من بلدانهم البعيدة أو المجاورة لغزو بلاد اليهود وأراضيهم، وهذا حرفياً باعتراف النص التوراتي نفسه: (2 أخ 22: 1) (2 أخ 21: 16- 17) (2 أخ 16: 8)، ومواقع كثيرة من النص التوراتي، يأتي فيه العرب والفلسطينيين والأشوريين لغزو بلاد اليهود، وهي الحملات العسكرية التي تكاد تصفها النقوش السبئية بــ (التأديبية).
اكتفي بهذا القدر، وأطرح تساؤلاتي:
أين هو التطابق الذي يدعيه رواد نظرية جغرافية التوراة في جزيرة كوريا موريا بين الحدث التاريخي والنطاق الجغرافي، أو بين جزيرة العرب كجغرافيا قائمة من جهة، وبين النص التوراتي الذي يضج بذكر العرب والقبائل العربية والملوك العرب الغزاة الذين كانوا يأتون من بلادهم البعيدة والقريبة لغزو وانتهاب بلاد اليهود وقتل اليهود وسبي أبنائهم وبناتهم.. الخ، من جهة أخرى؟!
التوراة نفسها تخبرنا أن بلاد العرب ليست هي بلاد اليهود، وتعطينا فواصل جغرافية وديموغرافية واضحة بينهما، وحيث يكون هذا في النص التوراتي لا نجد عسير ولا نجران ولا فصعان ولا برطمان ولا غيرها من الأسماء التي تناولها رواد تلك النظرية بالشرح والتمطيط من أجل اقناع السذج بأن للتوراة أرض في جزيرة العرب..!!
كيف يغيب هذا عن ادراك وملاحظة هؤلاء النوابغ ممن يحفظون أسماء الأماكن التوراتية عن ظهر قلب؟!- هل غابت عن ادراكهم أم هم من قاموا بتغييبها مع سبق الإصرار والترصد لتمرير نظريتهم العجفاء الى عقولنا؟!
وأيضاً من زاوية أخرى، إذا كانت النقوش الأثرية الأشورية والأوغاريتية والسبئية والنبطية والثمودية تتفق بما لا يدع مجالاً للشك مع السجلات الإغريقية على تحديد منطقة بلاد اليهود في مكان واحد، فلماذا يصر أصحاب هذه النظرية الشمطاء على فشخ جغرافية المنطقة العربية بناءً على تفسيراتهم الذاتية للنص التوراتي؟!
ولماذا يجب أن يكون النص التوراتي مصدراً للتاريخ والجغرافيا مع أن كل الحقائق العلمية تثبت عدم مصداقيته؟!- لماذا هذا الإصرار العجيب على الدفاع عن مصداقية التوراة التي تبث عدم تحققها باعتراف جهابذة علمي التاريخ والآثار من اليهود والصهاينة؟!
إنها مجرد تساؤلات صارخة.. تقول لأصحاب نظرية جغرافية التوراة في جزيرة العرب بأعلى صوت: كفى تلاعباً بعقول البشر.. وقفوا بشجاعة وناقشوا ما يُطرح عليكم من ردود وانتقادات.. وتذكروا أن الكتابة أمانة كبرى ومسؤولية جسيمة أمام الله، ثم أمام البشر والتاريخ..
وختاماً.. أقول لهم، ما قاله السيد المسيح عليه أفضل الصلاة لليهود الرعناء: "توبوا فإن ملكوت الله قد اقترب".
**
إحالات:
1. يوحنا كتناشو: المصطلح عرب في العهد القديم، رابطة الشرق الأوسط للتعليم اللاهوتي، المجلة، (2010): 1- 11.
2. عامر عبد الله نجم الجُمَيليّ: المعارفُ الجُغرافيّة عِندَ العِراقيّينَ القدماءِ، أطروحة دكتوراه، جامعة الموصل، العراق، 2006.
3. منير عربش: منشأ المعينيين وتأريخ ظهور مملكة معين في جنوب جزيرة العرب من خلال نقش جديد من القرن الثامن قبل الميلاد، متاح على الرابط التالي:
https://s3.amazonaws.com/academia.edu.documents/39572877/2014_Muawiya.pdf?AWSAccessKeyId=AKIAIWOWYYGZ2Y53UL3A&Expires=1505586958&Signature=3q2DFK0m%2F%2B5Bgy6HoYuj8ZNqUIg%3D&response-content-disposition=attachment%3B%20filename%3D39572877.pdf
4. B-L Nashq Demirjian 1:
http://dasi.humnet.unipi.it/index.php?id=dasi_prj_epi&prjId=1&recId=1292
5. François Bron & André Lemaire, « Nouvelle in-script-ion sabéenne et le commerce en Transeuphratène », in Trans, 38, 2009, p. 11-29.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن