مركز البحوث العلمية -3-

علي دريوسي

2018 / 3 / 21

وصلتُ إلى مدينة حلب يوم الثلاثاء في الخامس من شهر تشرين الأول قبل بدء الدوام في المركز ببضعة أيام والذي كان مقرراً يوم السبت في التاسع من الشهر ذاته، أمضيت ذاك اليوم ويوم الأربعاء الذي كان يوم عطلة وطنية بمناسبة ذكرى حرب تشرين التحريرية في منزل أحد الأقرباء. كان الصيف في أيامه الأخيرة وكانت حلب بعبآتها السوداء ولهجة ناسها وبيوتها ومحطة قطارها وشوارعها مختلفة بشكلٍ كاملٍ عمّا عشته في مدينتي البحرية، حتى الجامعة بأبنيتها وطلابها وموظفيها بدت مختلفة كلياً عن جامعة مدينتي.
عندما ولجت صباح يوم الخميس مبنى الشؤون الإدارية للمركز فوجئت بالأسلوب الراقي والعمر الشاب لأعضاء الإدارة، ملأتُ الاستمارات المطلوبة مني ووقَّعتُ على بعض الأوراق القانونية المُتعلِّقة بأسرار المركز والنشاطات المسموحة وغير المسموحة، بالإضافة إلى التَعَهُّد بعدم الزواج من أجنبية وعدم التعامل مع العدو، وبشكلٍ خاص تم التركيز على إمضاء الفاتورة القاضية بالتعهُّد بدفع مبلغٍ مالي وقدره 35000 دولاراً أمريكياً إذا ما أخللت بالعقد المُبرم معي. بعد ذلك حصلت على بطاقة الإنتماء التي تؤهلني لأكون في مصاف المجتمع الراقي كما سمعت سابقاً، تمنّوا لي إقامة طيبة في حلب وحظاً وافراً في الدراسة. ذهبت بعدها إلى قسمٍ آخر من المبنى لاستلام سكني، أمضيت الأوراق والتعهُّدات المطلوبة ثم رافقني مسؤول السكن لتسليمي البيت وجرد محتوياته.
*****
كانت البيوت التابعة للمركز متواجدة في أحد أحياء ضاحية الحمدانية. أخيراً سأتمكَّن من الحياة في منزلٍ طابقي بعد أن أمضيت الربع الأول الفائت من حياتي في بيت أهلي الصغير في القرية. مع كل خطوة وإشارة وحركة صدرت عن مشرف السكن راح قلبي يتراقص فرحاً وأنا أجر حقيبتي الكبيرة خلفي. فتح المشرف الباب الخارجي للبناء المؤلَّف من أربعة طوابق، صعدنا الدرج الموصل للطابق الثالث، المدخل نظيف ومطلع الدرج أيضاً، في كل طابق ثَمّت ثلاث شقق، في كل شقةٍ غرفتا نوم أو ثلاث على الأكثر، غرفة جلوس أو ما يسمى صالون مشترك، مطبخ كبير، حمَّام ودورة مياه.
ونحن نصعد حكى المشرف لي عن نظام الحياة في السكن، وأنَّه يوجد في البناء إثنتا عشرة شقة، يسكن في كل طابق سبعة أشخاص ذكور، وأنَّ العدد الإجمالي لطلاب الماجستير في السنتين الأولى والثانية من كلا الاِختصاصين (اِختصاص محركات طائرات واِختصاص تصميم هياكل) هو ثمانية وعشرون طالباً من مختلف الجامعات والمدن السورية.
كنت أسمعه ولا أرى إلا صورة أبي الذي سأدعوه مع صديقنا المشترك وفيق قريباً لأريهما شقتي الحديثة في المركز، واحدة من المؤسسات الأهم في الوطن كما قال الناس، كنت أرى وجهيهما الضاحكين وأشعر بالفخر الذي سينتاب أبي لما وصل إليه اِبنه وسألمس الفرح ينبض من كل خلية من خلايا جسده، سأستضيفهما وأذبح على شرفهما زجاجة ويسكي أو أصطحبهما معي لنذبحها سوية في خمَّارة الأرمني، سأجعلهما ودون كلمات يكتشفان الفرق بين خمَّارة دليلة الكئيبة وخمَّارة الأرمني التي تضج بالحياة، تلك التي زرتها يوماً مع إحدى الصديقات. ولربّما أدعو لاحقاً الدكتور مجد والمهندسة فاتن لزيارتي.
*****
فتح المشرف باب الشقة في الطابق الثالث بعد أن قرع الجرس واِنتظر بكل هدوءٍ لمدة دقيقة، لم يكن هناك أحد في الشقة، قال لي: "في هذه الشقة ستمضي سنوات دراستك القادمة قبل أن تسافر خارج الوطن، هنا ستعيش مع زميلك القادم من جامعتك، لعلك تلتقيه ظهر اليوم أو صباح الغد، زميلك اِلياس أبو زيتون كان هنا قبل يومين، سجَّل في المعهد وحصل على مفاتيحه".
صحّحت له قائلاً: "كنيته زيتون".
ردَّ عليّ بابتسامةٍ: " عيطون أو زيتون لا فرق".
شعرت بغيبوبةٍ لطيفةٍ عندما وقعت نظراتي على أثاث الشقة، كان فيها تلفزيون، صوفا مريحة، أريكتان للجلوس، فيها أجهزة تدفئة مركزية، كان المطبخ أنيقاً يحتوي على غاز حديث وبرّاد وطاولة لتناول الطعام، في الحمّام ثَمّت قازان لتسخين المياه، للحمّام نافذة صغيرة قابلة للفتح والقفل، دخلتُ إلى المرحاض، كان هناك جلّاس يسمونه الإفرنجي بدا خالياً من الجرذان لا كما اعتّدنا في القرية، لفت نظري أنَّ ضغط الماء عالياً وكافياً لإجراء عمليات التنظيف.
كان جيلي قد أمضى سنوات طفولته ومراهقته في القرية وهو يحلم بأريكةٍ يجلس عليها بعد عناء، وهو يحلم بقازان يعمل على الكهرباء بديلاً عن وابور الكاز، وهو يحلم بالاستحمام في حمَّامٍ دافئ بنافذة، وهو يحلم بصنابير مياه لا تنخفض فيها سرعة الماء أو ينقطع تدفقه فيها، وها أنا اليوم أمتلك هذه الرفاهية دفعة واحدة.
فتح المشرف باب الصالون المُؤدّي إلى البلكون، كان البلكون عريضاً وطويلاً، كافياً لجلوس عدة أشخاص لتناول فنجان شاي، أومأ لي المشرف أنْ ألج غرفتي، قدَّم لي مفتاح غرفتي الخاص وطلب مني فتح بابها بمفردي، فتحتُ الباب شمّمت رائحة نظافة، في الغرفة سرير للنوم بأغطيةٍ ناصعة البياض، خزانة ملابس صغيرة، مكتبة للكتب، طاولة للدراسة ونافذة عريضة تطل على أبنيةٍ سكنية قريبة. كانت فرحتي بما شاهدت عيناي لا توصف، قدَّم لي المشرف بقية المفاتيح وتمنَّى لي إقامة طيبة.
*****
يتبع



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن