ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل السادس 5

دلور ميقري

2018 / 3 / 12

آنَ تعرّفه على " نفيسة "، لم تكن سيّدتها قد عادت بعدُ من رحلتها الأوروبية. فهمَ من معلومات عشيقته، أن سوء التفاهم بين " هيلين " ورجلها الرسام قد تفاقمَ لدرجة باتَ معها لا يأمل بعودتها إلى المغرب. هذه المعلومة، فتحت للشاب بابَ فهم مسألة حيرته؛ وهيَ وجود الزوجة في باريس خلال الشتاء، ثمة أين تعرف عليها اتفاقاً حينَ جمعهما أصدقاء مشتركون. في الحالة العادية، كان الزوجان قد درجا على عادة لا يحيدان عنها كلّ عام: تمضية فصل الشتاء في مزرعتهما، المزروعة وحيدة على تلة في ضاحية " الغزوة " وكأنما هيَ شجرة من أشجارها الفريدة، الأرغانة، التي يقال أنّ فوائد زيتها تفوق تلك المنسوبة للزيتون.
" مسيو جاك "، ما كان على ريبة فيما يتعلق بعاطفة امرأته تجاهه. ولو لم يكن من صنف أولئك الرجال الأنانيين، ربما لأدرك أنها هيَ من فتحَ له طريقاً إلى فردوس المجد مفترشاً بالورد، لا بالأشواك حال آخرين من الرسامين الأفضل منه موهبة. كل من عرفها عن قرب، تذكّرها بوصفها قديسة مستعدة لتحمل العذاب والأوجاع في سبيل إرضاء الخالق. والبعض يجزم، في المقابل، أنه هوَ من كان مُديناً لها بالخَلق وبآيات حمدٍ لم تسمعها منه يوماً في حياتها. مع ذلك، لم تكن متطلّبة ـ كمثيلاتها من آلهة المجمع السماويّ؛ بل مجرد امرأة مرهفة المشاعر، يرضيها لفتة عاطفة من لدُن رجلها. بلى، لم يدرك " مسيو جاك " مدى خسارته سوى على أثر رحيلها، وما إنفكّ منذئذٍ على تقمّص معاناتها وآلامها ـ كأيّ قديسٍ مطوّب زيفاً من قبل المجمع الأرضيّ.
الغريب، أنّ " هيلين " كانت قد فتحت أيضاً لرجلها باب التعرّف على من ستضحي عشيقته. وما كان لها أن تتوقع، بطبيعة الحال، أن تعقد لها تلك المرأة آخرَ حلقة من سلسلة العذاب. من ناحيتها، وجدت " نفيسة " نفسها تحت سقف الزوجين، حينَ كانا ينعمان بسعادة هادئة في المعتكف الشتويّ. قادتها السيّدة ذات الأصل الأمريكيّ إلى الخدمة لديها، كونها عاجزة عن تدبير أمور المنزل. هذه الخادمة، أثبتت مذ وطأت عتبة الزوجين أنها تستحق الثناء بالفعل. فلم يكن عملها ليقتصر على المألوف من الخدمة، كالتنظيف والغسيل، وإنما تعداه إلى الطبخ والتسوّق والاعتناء بالحديقة وحتى حراسة المزرعة في أوان غياب أصحابها. " مسيو جاك "، لم يكن بدَوره ليتوقعَ أن الخادمة ستضيفُ عملاً آخر إلى تلك القائمة: عشيقة سرية. جدّ الأمرُ حينَ تعين عليه تعليمها سياقة السيارة، كي يخفف على نفسه عناءَ قضاء ساعات التسوق من المدينة. لم تتمكن الخادمة من دخول حياته الشخصية، بتلك الحميمية، لامتلاكها صفات تفوق ما لدى سيّدتها. ففي أوان ظهورها لأول مرة عند عتبة منزلهما، لم تعدو عن كونها امرأة ثلاثينية، ضعيفة البنية وباهتة الملامح. عيناها العميقتا السواد، تفردتا بالتألق عن باقي أعضاء بدنها الناحل، المنطفئ. " هيلين "، لم تكن كذلك بأقل اهتماماً بعينيّ خادمتها وكأنما مسّها سحرُ لحاظهما. باتت تعتني بها، إن كان لناحية التغذية أو حُسن المنظر. فلم يمضِ كبير وقت، حتى عرضتها على رجلها وهوَ في محترفه، هاتفةً بنبرة من أكتشفَ تحفة نادرة: " أنظرالآنَ إلى هذه المرأة الجميلة، الممتلئة الهامة..! ألا تصلح حقاً كمويل لنساء لوحاتك، العاريات؟ ".

*
كلّ ذلك قرأته " سوسن خانم "، هنالك على الشرفة، قبيل لقائها المنتظر بمدير مكتبها. خلال مختتم المطالعة، عليها كانَ أن تستعيدَ العينين البديعتين، المُخضبتين بلون المكر، اللتين ورثتاهما مرافقتها السابقة عن عشيقة الرسام الفرنسيّ. أما لون شعرها، الشديد الصفرة، فإنه ما كان ينتمي على مرجوح الظنّ لليمون المغرب. ذلك الجوّ، المحصور في حلقة الذكرى، أنطلقت منه السيّدة السورية إلى مقارنة أخرى، متواشجة مع كينونتها كطفلة عاشت ظروفاً مُشابهة: تحت سقف منزلها الأول، وقعت خيانة مماثلة وإن كانت معكوسة لناحية أمكنة أشخاصها.. خيانة، تحدّت إذاً إرادة الأب وما لبثت أن سلمته للعجز الجسديّ ومن ثمّ الذهنيّ ـ كتلك الإرادة، التي انهارت لدى عديدين ممن عرفتهم الابنة فيما بعد، هنا في معتكفها المراكشيّ.
فيما ينتظرها " آلان " في مكتب أعمالها، كانت تتساءل عما إذا كانت ستقعُ مرة أخرى في نطاق إرادة قاهرة يُشكّله أشخاصٌ ثلاثة، حال ما عاشته من تجربة مريرة في العامين الأخيرين من إقامتها بالمدينة الحمراء. ما خففَ عنها عبءُ التفكير بهكذا احتمال، وبالتالي طرده من مخيلتها، هوَ حقيقة أختلاف ماهيّة الأشخاص الجدد عن أولئك السابقين: وحده " فرهاد "، مَن أصرّ على الصمود في موقعه من بين الآخرين. فشقيقته رحلت عن الدنيا منتحرة، فيما امرأته أختفت في ظروف لا تقل التباساً. وإنها هيَ، " سوسن خانم "، من كانت وراء ذلك الاصرار بسبب خشيتها من تكرار التجربة المريرة.
تفتحُ مصراع الشرفة، لتدلف إلى الصالة. يهيمن على المكان ضوءٌ أكثر شحوباً من سحنة مرافقها، كما لحظتها قبل قليل آنَ كانت تراقبه وهوَ في موقفه الواجم في الحديقة. وهذا من أضحى خلفه في إدارة مكتبها، يهب من مجلسه ليلقاها بسحنة مُشرقة. تبادله الابتسام، مروّحةً وجهها بيدها تعبيراً عن الشعور بجو الحجرة الحار على غير المألوف في وقت الربيع المبكر. غمرت نفسه في لجّة الأريكة الفارهة، وراحت ترقبه عن قُرب. قالت له أخيراً: " أحتاجُ لمن تشغل وظيفة مدير علاقات. قبلاً كانت مرافقتي السابقة مكلفة بذلك، بالنظر لمواهب تمتعت بها. أما للّا عيّوش، فإنها لا تصلح لذلك بالطبع ". واستأنفت بنبرة رقيقة: " عليكَ أن تفاتح شقيقتك بالأمر، لو كان يرضيها شغلُ الوظيفة ".



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن