حكايات رجل معتل الفقرات يطارد أرنبا برياً (3)

حمدى عبد العزيز
hamdyazizzz@yahoo.com

2018 / 3 / 3

فضحتني وجرستني أيها الرجل العائب الأشيب (فيما بقي لك من شعر يحيط بصلعتك اللامعة بفعل آشعة الشمس )…

أنت تعايرني بأنني كنت أقصر رقبة أبيك في نتائج الامتحانات الدراسية ؟

ألم تكن أنت الذي هو أنا الصبي تضع القصص والروايات وكتب الشعر تحت كتاب المدرسة وتظل تقرأ ماتحت كتاب المقرر الدراسي حتي يدخل ابيك خلسة فتنزل كتاب المقرر الدراسي مفتوحاً علي صفحة لم تقرأ منها حرفاً ؟

ألم يقل لك مدرس اللغة العربية والنصوص بالمرحلة الثانوية مشيراً بخرزانته نحوك :

ـ اقعد ياتافه
خللي أمل دنقل والبياتي والقباني وصلاح عبد الصبور ينفعوك ..

وأنت رددت عليه كمشاغب يستحق كلمة (اقعد جاتك نيله التي قالها لك مشيحاً بخرزانته في وجهك)
عندما قلت له
ـ وصلاح جاهين وفؤاد حداد يااستاذ

مررت عيشة أبيك ونغصتها عليه وضيعت كل آماله التي بناها عندما وعده أحد أقاربه عمو فتحي بيه بأن يدخلك كلية الشرطة بعد ان تنجح في الثانوية العامة

عمو فتحي بيه سرحان هذا كان قريبنا وكان يأتي لزيارتنا بسيارته المرسيدس الحمراء (المارلبورو كما فهمت من داهني طلاء السيارات فيما بعد) عندما كنا نقيم في المساكن الشعبية بإمبابة
(قلتها سابقًا شقة رقم 12 بلوك أ الدور الثالث
فلتختصر ولاتستغرق في هذا اللت والعجن )
وكان أبي يكلفني طوال فترة زيارة عمو فتحي هذا بأن أقف في البلكونة لأشخط في الصبية اللذين يتحسسون جسم السيارة أو الذين يخبطون عليها أو حتي يطبلون ، أو أولئك الذين يشوطون الكرة الشراب فتخبط في جسم السيارة

الحق أقول لك أيها الولد الذي هو أنا …
إنني كنت أراها مهمة ثقيلة وعبثية في نفس الوقت ولا تستحق ... لأنني لم أكن علي استعداد لخسارة أحد أصدقائي الذين يلعبون في الشارع من أجل عيون عربة عمو فتحي سرحان الحمراء المارلبورو

ياربي
أنا وضعت مكعبات الشبشب المنقوع في الجاز (الكيروسين لمحبي اللغة العربية الفصحي) لمدة يومين حتي شربته كله ونشفت وأصبحت في تماماً كالإسفنج المنفوش ، ووضعتها في الكيس النايلون ثم كررت عليها بلفات الخيط التي اشتريتها من (ام شكل) التي كانت تبيع الخيط المرتجع من المغازل بالكيلو …

مع العلم أن شكل هذا أبنها هو زميلي في الدراسة وصديقي وهذا لقبه لكنه ليس اسمه الحقيقي ،ولم اهتم لماذا أسموه بذلك ومن أسماه

ياربي كلما أصبح عندي كرة شراب كلما ضاق علي سجني ؟
ولا أملك سوي الوقوف في البلكونة مشاهداً لمباريات كرة الشراب التي تجري اسفلها بين اصدقائي ؟

يامفتري
ألم تكن تغافل أبيك بمجرد أن ينزل إلي العمل وتتحايل علي أمك الريفية الطيبة الحنونة ، وتقسم لها أنك ستلعب في الشارع لمدة ساعة فقط تمتمد إلي أربع ساعات ، تلعب فيها أكثر من ثلاث مباريات بخلاف مسامراتك مع صديقيك سعيد أبن طنط أم سعيد وعماد إبن طنط أم عاطف ورابعكما ناصر إبن طنط أم يحيي

تظل يامفتري تلعب الكرة في الشارع إلي أن يقترب وقت عودة أبيك الذي لاتحبه مثلما تحب أمك الطيبة ، وتعتبره من رجال الإنكشارية العثمانية القساة كثيفي الشوارب كما رأيت صورهم في كتاب التاريخ ؟

تجري يامفتري قبل موعد عودة أبيك الذي يكد ويتعب لكي يجلب لك المأكل والملبس ويأويك في البيت بدلاً من أن تكون من أولاد الشوارع كما قال لك مدرس التربية الوطنية ؟
تصعد السلالم مسرعاً وتأخذ كل درجتين في حجلة واحدة وتدلف إلي الحمام تغسل قدميك ووجهك المترب ثم تجلس علي مكتب المذاكرة كبرئ ورع وآمامك كتاب سلاح التلميذ مفتوحاً علي صفحة ما لم تقرأ سطر منها وتحته إحدي روايات أرسين لوبين العجيب الذي دوخ كل رجال البوليس ؟
أنت ولد فاسد ولا سبيل لإصلاحك وأبيك الذي تراه انكشاري لتشابه شاربه الصعيدي بالانكشاريين في كتاب التاريخ عنده ألف حق في أن يضربك علي باطن قدميك بحزامه بعصاة غلي الملابس التي عندنا وأن يربطك في السرير كالكلب… بعد أن يكتشف أنك لم تحفظ قطعة المحفوظات التي قال لك أنه سيسمعها لك بعد المغرب

أبيك لم يكن قاسياً طوال الوقت فهو أخذك أنت وأخوتك البنات إلي سينما قصر النيل لمشاهدة فيلم (حكاية الثلاث بنات ) لشمس البارودي التي كان شعرها طويلاً وذهبياً (رأيته كذلك ساعتها رغم أن الفيلم أبيض وأسود)

ألا تذكر ياجاحد أنه كان يحملك علي كتفه بذراعه لمدة سنوات إلي مستشفي إمبابه المركزي ومستشفي الصدر في أنصاف الليالي عندما كانت تفاجئك نوبات السعال القاتلة
آه فعلاً أتذكر…

اتذكر أنني أصبت بمرض أسمه "السعال الديكي" بعد دخولي مدرسة الميثاق الوطني الابتدائية التي كانت علي طريق عزبة الصعايدة الذي لا اعرفه الآن هل هو اصبح في منطقة أرض اللواء أم لا …

ظللت أعاني من هذا المرض لمدة سنوات لاأذكرها
وكانت أمي الريفية الطيبة تذهب معي إلي الوحدة الصحية التابعة للمنطقة التعليمية بإمبابة ، وتقف في طابور الكشف حاملة إياي أو أقف أنا إلي جوارها مستنداً عليها ، دافساً رأسي المجهد من تواصل السعال الرهيب في خصرها اللين الحنون …
وبعد ذلك تقف في طابور استلام زجاجات الدواء الذي كان بعضه مراً وبعضه مسكراً ..
لكن اهم حدث بالنسبة لي في هذه الرحلة التي كانت تتكرر كل أسبوعين تقريبًا هو كعكة السميط المخرفشة المغطاة بالسمسم المحمص التي كانت تشتريها لي لآكلها ونحن في انتظار خطاب الوحدة الصحية عن حالتي والذي يجب أن تذهب به هي للمدرسة كل مرة …

كم كانت أمك طيبة وحنونة وجدعة تستحق أن يكتب عنها مكسيم چوركي كما كتب عن أم بطل القصة المناضل الثوري في رواية الأم ... مع فارق بسيط أن تكون هي بطلة الرواية لذاتها وليس لأنها أم لي أنا الذي لم أعثر علي التائهة ، ولم أجئ بالذئب قابضاً
عليه من ذيله.
ــــــــــــــ
حمدى عبد العزيز
23 نوفمبر 2017



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن