ألفُ هُوْلة وهولة: الفصل الخامس 3

دلور ميقري

2018 / 3 / 3

" كما تعلمين، أمضيتُ النصفَ الثاني من العام المنصرم في تلك الضاحية الريفية.. "
قالها " فرهاد "، وكأنما تُطلَقُ زفيراً كُلُومُ أعماقه. ثم استطردَ، عاكسةً عيناه أوارَ لهيب المدفأة وأعماقه سواءً بسواء: " إنّ المرءَ عادةً، يفرّ من المدينة إلى الريف طلباً للهدوء والدِعَة. أو لكي يستعيد عافيته، وذلك بفضل الهواء النقيّ وخيرات الطبيعة الطازجة. بيْدَ أنني عدتُ من هنالك عليلَ الجسدِ، سقيمَ الروح. ولولا كتبي، ربما لكنتُ انتحرت أو أُصبت بالجنون ". ما كانَ بوسعها إبداء مشاعر المواساة، دونما أن تتسبب بالمزيد من الجراح لنفسيته المرهفة. على ذلك، فضّلت التشاغلَ بتحريك حطب المدفأة. الشهر المعقّب افتتاح العام، يشهدُ نهاره غالباً موجة غامرة من الدفء. فيما الليل يتسم بشيء من البرودة، وكذلك ساعات الفجر الأولى. ألا إنه ربيعُ مراكش، المعتاد على قضم نصف برتقالة الشتاء.
أزاحت قدحَها جانباً، كأنما بهذه الحركة تعلنُ إيذان نهاية السهرة. " مسيو جاك "، كان قد فارقهما منذ مبتدأ المساء، مُحتجّاً باعتياده النومَ باكراً. أدركت حينئذٍ، أنه تصرّفٌ لبق منه كي يُتاح لها الانفراد بسكرتيرها السابق. هذا الأخير، سبقَ له أن أبدى دهشته حينَ علمَ أنّ وظيفته أسندت مذ نحو شهرين إلى شخص آخر. كان على شفتيه سؤالٌ، ولا شك، أحرجَهُ النطق فيه: " وماذا عني أنا..؟ ". عند ذلك، بادرت إلى بث الطمأنينة في نفسه بالقول: " فنّك هوَ عملك. اتفقتُ مع تاجر لوحات معروف، فرنسيّ الأصل. سيقوم الرجل بتسويق أعمالك، سواءً داخل المغرب أو خارجه ". سكتت لتسمع رده. إلا أنها ملامحه المتعبة، مَن أجابتها بما بدا عليها من ضيق. فاستأنفت القولَ بنبرة جدية، مغلفة بالدعابة: " لا تحملق فيّ بهذا الشكل! إنني لا أقدم لك خدمتي مجاناً، بل سأحصل على نسبة ربح من كلّ لوحة ".

*
شعور الشفقة، من غير شك، حدا بالخانم حملَ الشاب الملول على الذهاب إلى رقاده. كانت تودّ أيضاً إبعاده عن الصالة، لتتمكن من الاختلاء بمرافقتها. لقد آبت هذه من ضاحية الحميدية متأخرةً، وذلك بعد وصول الضيفين بنحو ثلاث ساعات. ليست بشائر وجهها حَسْب، كان بوسعها وقتئذٍ تأكيد نجاح المهمة. فإنّ حقيبة يدها، المنتفخة مثل قلب الشاب المسكين، كانت تشي بما تكنزه من أوراق. فصرفتها السيّدة إلى أسرتها، على أن تعود مساء لكي تقدّم تقريرها عن المهمّة. وهيَ ذي المرافقة، تظهرُ الآنَ عند مدخل الصالة تلبيةً لطلب " سوسن خانم ". سُئلت المرأة البدينة، ما إذا كان كلّ شيء على ما يرام في التراس. لقد تمّ تدبير منامة " فرهاد " هنالك، في حجرة صغيرة لصق المحترف. تمّ الأمر على عجل، نظراً لأن السيّدة السورية كانت قد فقدت الأمل بقبوله دعوتها العمل في المكتب. رداً على ما أبداه من تردد، إزاء مرافقة " للّا عيّوش " إلى المكان المعلوم، لم تجد الخانم بداً من مخاطبته بنبرة ساخرة مواربة: " ستكون إقامة مؤقتة قطعاً، لحين إيجاد بديل لها في أسرع وقت ".
ما أن غادرا كلاهما، إلا وأخلدت بنفسها إلى رخاء الكرسيّ الهزاز. في أوان انشغال الفكر، كانت تفضل الجلوسَ ثمة عند زاوية المدفأة، واجدةً التسلية بحركة الكرسيّ وأصدائها سواءً بسواء. لم تكن حاجتها إلى النوم أقل من الآخرين، بالأخص لأنّ الغد يَعِدُ بعمل كبير. ولكنّ المضي للفور إلى الفراش، ما كانَ أمراً مُجدياً. كانت تدرك أن الرقاد سيجفو جفونها، ما لم تستجوب المرافقة بشأن مهمّة الضاحية. على حين غرّة، تذكّرت أمرَ الأوراق. نهضت عندئذٍ لجلب المخطوطة، المودعة في مكانٍ أمين. " آه، عليّ فوق ذلك التمحيص في هذه الكراسة اللعينة! "، فكّرت باستياء. كونه أمراً لا مناص منه، فإنه سيكلفها ساعاتٍ من السهر المُجهد. كانت تبغي سبرَ المخطوطة على عجل، علّ ذلك يوفّر جهدَ قراءتها جميعاً. الوصول إلى صفحاتٍ بعَينها، سيجعل الخانم ولا مِراء على قدر كبير من التوتر. راحت إذاً تقلّب بين يديها المجلّدَ الكبير، المرصوصة بين دفتيه الأوراق المنضدّة على الكومبيوتر. كانت موقنةً، أنّ المفردات ما تنفكّ محتفظةً ببصمات مَن نضّدتها ونقّحتها: " شيرين "، التي رُصّ جسدُها المُهشّم بدَوره بين جداري حفرةٍ عميقة، مغمورة بالتراب الأحمر الدافئ.. الأكثر دفئاً، على أيّ حال، من عالم الأحياء المتجلّد المشاعر.

*
لم ترَ بأساً في طرد الطيف المنكود، طالما أنّ حضوره يمكن أن يشوّش قراءتها. مع ذلك، اضطرها دخولُ المرافقة إلى الصالة أن تضعَ المجلد جانباً. عادت " للّا عيّوش " لتقف فوق رأس مخدومتها عابسةً، متخذةً وضعية المذعن للأوامر مهما تكن خرقاء. الخانم، من ناحيتها، فكّرت مبتسمةً أنها تدع مطالعة المخطوطة كي تتفرغ لقراءة ملامح هذه المرأة، الطريفة الطبع. فلم تتأخر في مواجهتها بحزم، وإن كان متصنعاً: " لعلكِ تتوقعين، أن علاقة وصال من الممكن أن تنشأ بيني وبين ذلك الشاب، ما دام يقيم في كنفي؟ "، قالتها مستخدمة تعبيراً معيّناً بالدارجة المحلية. جحظت عينا المرافقة، وما لبثت أن هتفت بنبرة مذعورة: " معاذ الله.. ". رددت الجملة، قبل أن تعقّب على كلام سيّدتها: " لو أنني كنتُ أتدخل بخصوصيات من خدمتهم على مرّ الأعوام الماضية، أكانت جرت تزكيتي لديكِ بين عشراتٍ من النسوة، بعضهن يفضلنني بإجادة الفرنسية؟ "
" هه، إنك تتكلمين كما لو أنّ هنالك فعلاً ما يدعو لكتمانه في حياتي الخاصّة! "، أجابتها بقسوة دونما أن تتمكن من كبح رغبتها الجامحة بالعبث. منّت نفسها بالموقف المُسلّي، لتسلوَ ما أمكنَ من الهموم. راقبت عن كثب تعبيرَ ذعرِ المرافقة، المتفاقم، مجاهدةً كبتَ ضحكةٍ ترتقي هوناً درجاتِ حلقها. وكانت المسكينة لا تني تفكّر بإجابةٍ مناسبة، مضطربةً رافعةَ عينيها إلى الله عبرَ سقفٍ مرقّشٍ برسوم مُحرّمة. رحمتها سيّدتها أخيراً، حينَ قالت بهدوء وهيَ تتأمل نارَ الموقد: " لا أهمية لكلّ ذلك، ولن يؤدي إلى شيء ". ثم أردفت وقد استرجعت لهجتها الجادة: " بمناسبة إجادة الفرنسية، أرجو ألا يكون الفضولُ قد أجبركِ على فتح مجلّد الكراسة خلالَ ساعاتٍ ثلاث تأخرتِ فيها عن موعدي معك؟ ". أنهدّت المرافقة فوق الكنبة، وكان يبدو عليها الإرهاق أكثر منه الجَزَع. قالت تُحملق بمخدومتها في نبرةٍ تكسوها الضراعة: " رحماكِ، لِمَ هذا التحقيق وأنتِ لم تَرَي مني مرةً ما ينمّ عن الكذب لا سمح الله؟ ساعات تأخري، لها علاقة بانجاز المهمّة. ما كانَ سهلاً تنقيب تلك المرأة في فيللا الرسام الفرنسيّ، لحين تمكنها من الاهتداء إلى الكراسة. كما أنك أوصيتني نسخها بالفوتوكوبي في المدينة لا الضاحية، وهذا أخذَ مزيداً من الوقت بما أنّ علينا إعادة المخطوطة الأصلية مجدداً إلى مكانها الأول. كلّ ذلك كان في كفّة ميزان، والكفّة الأخرى تحملتها فترة إقناعي للمرأة الجشعة بقبول الصفقة ".



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن