خروج روسيا من النفق

سمير أمين

2018 / 2 / 23


تظل الأبواب مفتوحة على تغيرات تمس جوهر الأمور. والمقولة صحيحة بالنسبة إلى روسيا، كما هى صحيحة بالنسبة إلى أى منطقة أخرى من الكوكب .فمن جانب لم ينجز النظام الرأسمالى الليبرالى الحاكم أهدافه المعلنة، أى درجة من الاستقرار الاقتصادى والسياسى والاجتماعى تضمن استمرار. ومن الجانب الآخر لم تظهر بعد- لا فى روسيا ولا فى غيرها من أقاليم العالم- قوة استطاعت أن تقيم الجبهة الواسعة المطلوبة لانقلاب اتجاه التطور العام. وترسى خلاصة التحليل الذى قدمته فى القضية فى طرح مقولة «المشروع الوطنى المستقل» بصفته الخطوة الأولى على الطريق الطويل للاشتراكية. وأقصد بـ«الاشتراكية» مرحلة أعلى فى حضارة الإنسانية تقوم على مبدأ لحم النسيج المجتمعي، على أساس سيادة الديمقراطية، ويحل محل لحمه على أساس سيادة السوق. ويتجلى مضمون «المشروع المستقل» المطلوب والممكن فى إقامة «رأسمالية دولة مستقلة» ذات التوجه الاجتماعى الشعبى بصفتها الخطوة التى تفتح الباب لتطويرها إلى «اشتراكية دولة» ثم بالتدريج إلى تقدم الأخيرة نحو الاشتراكية. كيف يمكن ترجمة هذه الخطوط العامة إلى برنامج عمل ملموس فى ظروف روسيا اليوم؟ تقوم أطروحاتى فى هذا المجال على النقاط الأساسية الآتية:

1- الخروج من سيادة انفراد نمط الملكية الخاصة وإحلال سيادة «رأسمالية دولة مستقلة» محله. يقتضى تنفيذ المشروع العودة إلى تأميم أهم قطاعات الإنتاج الروسى التى يملكها حالياً أعضاء الأوليجاركية بصفتهم أصحاب ملكية خاصة: النفط والغاز ، قطاعات صناعية مهمة مختلفة. وذلك دون إلغاء مبدأ الملكية الخاصة بشكل عام، بكلمة أخرى بناء «اقتصاد مختلط».

2- الخروج من سيادة تحكم السوق فى إدارة المنشآت تحكماً مطلقاً، وتعويضه بالعمل بمبدأ التفاوض بين ثلاثة أطراف: أصحاب القرار (سواء كانوا موظفين يديرون القطاع العام أم أصحاب رءوس الأموال الخاصة)، العمال المستخدمون فى القطاع المعني، الدولة. ويقتضى تنفيذ المشروع إبداع الإطارات المؤسساتية المناسبة على جميع الأصعدة من مستوى المنشآة إلى مستوى القطاع ، ثم إلى مستوى الوطن. وتمثل هذه الخطوة عاملاً فاعلاً ومتحكماً فى دفع رأسمالية الدولة لتحويلها بالتدريج إلى اشتراكية الدولة.

3- الانعتاق من سيادة مبدأ انسحاب الدولة من مجالات الخدمات العامة ونقل مسئولية إدارتها إلى رأسمال المال الخاص، وتكريس قيام الدولة بإدارة الخدمات المذكورة (التعليم، الصحة، الإسكان، الضمان الاجتماعي... الخ).

وتفترض العودة إلى قيام الدولة بدورها القائد فى هذه المجالات إصلاحاً جذرياً فى النظام الضريبى بحيث توفر الحصيلة الضريبية الموارد المطلوبة، بالإضافة إلى خروج الدولة من التبعية الريعية فى تمويل أنشطتها. أقول إن النظام الراهن- القائم على تحديد نسبة خفيفة (17%) للضرائب وتعميم هذه النسبة (أى النظام المسمى بالإنجليزية flat tax الضريبة الموحدة الخفيفة)- هو أسوأ نظام ضريبى يمكن أن يكون! وبالفعل هو نظام يحول الصناعة الروسية إلى منشآت تعمل من الباطن، وتتيح امتصاص أرباحها لصالح رأس المال الإمبريالي. ولكنه نظام مدمر يسبب نمط تنمية رثة ولا غير.

4- اتخاذ إجراءات تدفع الديموقراطية إلى الأمام، الأمر الذى يفترض سن قوانين تتيح حرية تنظيم الأحزاب والنقابات والمؤسسات الأهلية، بل تشجيع ازدهارها بتوفير دعم لها. الخ. تمثل هذه الإجراءات الوسيلة الوحيدة التى تفتح مجالاً لتقدم مقرطة المجتمع السياسي. وليست هذه مشكلة خاصة بروسيا. فقد تسببت عقود من سيادة رأسمالية الدولة فى روسيا وفى بلدان أخري، وعقود من سيادة رأسمالية «الموافقة التامة» فى الغرب ثم عقدين أو ثلاثة من سيادة الرأسمالية الليبرالية المنفلتة، تسبب ذلك التاريخ فى تنويم الوعى السياسى وطمس الثقافة السياسية على صعيد عالمي.

فلا ينفع إجراء «انتخابات» فورية فى هذه الظروف، بل يحتاج الأمر إلى إصلاح الوضع قبل ذلك لخلق مناخ وممارسات ديمقراطية حقيقية حتى يرتفع مستوى الوعى المسيس إلى المستوى المطلوب.

قطعاً ليس دستور روسيا لعام 1993 دستوراً ديمقراطياً، شأنه فى ذلك شأن معظم الدساتير القائمة على مبدأ تفوق سلطة الرئيس على السلطات الأخرى (البرلمان). و تتلخص مثل هذه الدساتير فى أشكالها المتطرفة فى بند واحد مفاده الحقيقى يقٌرأ «للرئيس السلطات»! بيد أن حل المشكلة لن يأتى من خلال انتخاب فورى لجمعية وطنية مسئولة تسن مشروع دستور جديدا فى روسيا. وقد أثبتت التجربة التونسية هشاشة الأوهام المعلقة على هذا الأسلوب، بل يستحسن تأجيل اتخاذ هذا الإجراء حتى تخلق ممارسة ديمقراطية فعلية على أرضية الواقع الشعبى.

5- مثلت البنية السوفيتية المتعددة القوميات إنجازاً تقدميا.وبالتالى اعتبر تفكيك الاتحاد ظاهرة سلبية تاريخياً. أقول أكثر من ذلك: «إن القوى الرجعية التى طالبت بالاستقلال المزعوم لم تتمتع فى لحظة سقوط الاتحاد بمساندة شعبية واسعة ، وفُرض الاستقلال غير المطلوب على جمهوريات آسيا الوسطي. وقد سعت الأوليجاركية الروسية من وراء هذا القرار منها إلى التخلص من «عبء المعونة» المصممة من الداخل فى هيكل النظام الاقتصادى السوفيتى كما ذكرت. وفى بعض الجمهوريات الأخري- أوكرانيا، الدول القوقازية- طرحت قطاعات من الأوليجاركية المحلية ولا الشعوب المعنية هذا المطلب ومولت أجهزة الإمبريالية بسخاء المؤامرة كما أن الإعلام الغربى ضخم صور «الانتفاضات» من أجل الاستقلال تضخماً فاحشاَ. على أنه بعد الحصول على «الاستقلال»- ازدهرت أوهام فى صفوف الجماهير تعلق آمالاً على «معونة» غربية تحل محل الدعم السوفيتى السابق بل تتفوق عليه. وطبعاً لم يحدث ذلك، حدث العكس تماماً: دفع مشروعات الإمبريالية لنهب ثروات الجمهوريات المعنية. آن الأوان إذن لفتح مجال لإعادة بناء نوع من التقارب، وربما أكثر، بين الجمهوريات الجديدة وروسيا، وفتح مفاوضات من أجله ويفترض دفع استراتيجى فعالة فى هذا المجال:

أولاً : تجنب تصور العودة إلى إقامة سلطة مركزية على نمط الاتحاد السوفيتى السابق. الأمر الذى يتطلب من الطرف الروسى أن يدرك سلامة مخاوف الشعوب الأخرى بسبب غياب التوازن بينهم.

ثانياً : تجنب منطق «السوق المشتركة» فى بناء العلاقات الجديدة بين روسيا والجمهوريات المعنية، إذ تمثل السوق المشتركة وسيلة تنتج وتعيد إنتاج التفاوت بين أطرافها إذا اقيمت فى الأصل بين أطراف غير متساوية. وبالتالى ينبغى تصور قيام البديل بالنسبة إلى العلاقات بين روسيا والجمهوريات المعنية على قاعدة أخري: بناء تكامل مدروس وموازٍ نتاج تفاوض بين الدول المعنية، بحيث يحفظ استقلال رأسمالية الدولة الخاصة لكل أطراف التحالف. ويضرب مشروع «ألبا» فى أمريكا الجنوبية مثالاً للنمط المطلوب، خارج سيادة علاقات السوق.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن