( الخطبة ) من العصر العثمانى الى العصر الحديث

أحمد صبحى منصور

2018 / 2 / 4


( الخطبة ) من العصر العثمانى الى العصر الحديث
أولا : العصر العثمانى
1 ـ سقطت الدولة المملوكية وتحولت مصر الى ولاية عثمانية ، واصطحب السلطان سليم الأول العثمانى فى عودته لعاصمته آخر خليفة عباسى فى القاهرة .تدهورت أحوال مصر العثمانية وتدهورت معها أحوال العرب فى بقية الدولة العثمانية ، وتحول التقليد العلمى الذى كان فى العصر المملوكى الى جمود وتأخر فى العصر العثمانى ، وانعكس هذا على المؤلفات ، إذ طغت العامية على الاسلوب كما نراه فى كتابة ابن اياس فى تاريخه ( بدائع الزهور ) وفيما كتبه ابن زنبل الرمال فى تأريخه للوقائع بين العثمانيين والمماليك . بل رأينا قاضيا محترما فى العصر العثمانى يؤلف كتابا يشرح فيه قصيدة عامية لأحد الفلاحين ، وهو كتاب ( هز القحوف فى شرح قصيدة أبى شادوف ). هذا بالطبع لا ينفى عن هذا الكتاب أهميته القصوى فى التعبير عن أحوال الفلاحين فى العصر العثمانى ، ولا أهميته فى التعبير الصادق عن ثقافة العصر المتدنية الهابطة .
2 ـ ونأخذ من هذا دليلا على إنحطاط مستوى الخطبة الدينية ، خصوصا مع عاملين : طغيان التصوف وخرافاته ، وكون الخطبة الدينية تعبيرا عن هذا الجهل الدينى ، ثانيا : إنعدام التوظيف السياسى للخطبة ، فلم يعد السلطان العثمانى فى الآستانة محتاجا لأن يواجه أعداءا له بين العرب لكى يحاربهم بالخطبة فى المساجد . لذا سارت الخطبة فى العصر العثمانى على وتيرة واحدة هى الدعاء للسلطان بالنصر له ولعساكره ،وأن يهزم الله جل وعلا الكفار ويجعل أموالهم وبيوتهم ونساءهم غنيمة للمسلمين . ظل هذا الدعاء ساريا ومعتادا عدة قرون ، ظل حتى الآن دعاءا غير مستجاب . كنت أسمعه فى طفولتى ، واسمع معه هزائم المسلمين ووقوعهم فى براثن الاستعمار ( الكافر ).!
ثانيا : الخطب الوطنية بين عصرى الليبرالية والاستبداد العسكرى
1 ـ كشأن كل أمبراطورية لم يلبث الضعف أن إعترى الدولة العثمانية ، وأصبح يطلق عليها ( رجل أوربا المريض ) وتسابقت روسيا وانجلترة وفرنسا على إحتلال بعض الولايات العثمانية ، وحاول محمد على باشا إصلاح الدولة العثمانية بحربها عسكريا فوقفت أنجلترة وفرنسا فى وجهه ، وانتهى الأمر بأن تكون مصر وراثية فى عقبه ، ودخلت مصر فى عصر التحديث فى عهد محمد على ، ثم عرفت الليبرالية والنهضة فى عهد الخديوى اسماعيل ، وأصبحت القاهرة عاصمة للحضارة والثقافة فى منطقة البحر المتوسط فى القرن التاسع عشر ، وخشيت إنجلترة وفرنسا من طموحات الخديوى اسماعيل خصوصا بعد الافتتاح الاسطورى لقناة السويس فرتبت لعزله ، وتولى ابنه توفيق ، وإحتلت انجلترة مصر فى عهده عام 1882 .
2 ـ أسهمت الليبرالية المصرية مع انتشار التعليم والطباعة وظهور الصحف عن صحوة عقلية انعكست علي دور الخطبة الدعائي ، وتمثلت فى حركة وطنية ، بعثها من مرقدها جمال الدين الافغاني ( 1838 : 1897 ) ومدرسته ، والتي نتج عنها زخم اعلامي من الخطب الوطنية المثيرة ، مما ادي الي انفجار الثورة العرابية ، وكان عبد الله النديم ( 1842 :1896)خطيب الثورة العرابية ، وانتهت تورة عرابى بالهزيمة والاحتلال . وبعدها إشتهر شاب بفصاحته فى الخطابة فأصبح زعيما وطنيا ، إنه مصطفى كامل ( 1874: 1908 ) مؤسس الحزب الوطنى وجريدة اللواء . ثم قام سعد زغلول بتفجير ثورة 1919 ، وإشتهر بخطبه ، وإنتعشت به الخطبة الوطنية المصرية، وظهر أعلام لها من شيوخ الأزهر ومن الكنيسة ، كالشيخ مصطفى القاياتى و الشيخ محمود أبوالعيون . واشتهر القمص سرجيوس بلقب ( خطيب ثورة 1919 )، وهو الذى خطب على منبر الجامع الأزهر، وهو صاحب العبارة الشهيرة : ( إذا كان الإنجليز يتمسكون ببقائهم فى مصر بحجة حماية القبط فأقول ليمت القبط وليحيا المسلمون أحرارا . ) وهى مبالغة حمقاء ولكن كانت تعبر عن التطرف فى الوطنية وقتها ، تساوى ذلك النشيد الوطنى الأحمق الذى كنا نقول فيه فى المدرسة الابتدائية :: ( نموت نموت ويحيا الوطن ) ، فإذا متنا فبمن يحيا هذا الوطن .!
كانت الفصاحة فى الخطابة الوطنية أكبر مؤهل للزعامة ، وقد هاجم عباس محمود العقاد الزعيم الوفدى مصطفى النحاس معتبرا أكبر عيب فيه أنه فى خطبته يتكلم بلا حماس كما لو كان محاسبا يقرأ تقريرا .
3 ـ وانتهت الفترة الليبرالية المصرية بإنقلاب الجيش وحكم العسكر من عام 1952 . وإكتسب عبد الناصر زعامة شعبية جارفة بسبب كارزميته الخطابية والتى بدأت بخطبته فى الاسكندرية عند محاولة إغتياله وخطبته فى تأميم قناة السويس ، وتوالت خطاباته التى أسهم الراديو الصغير ( الترانزستور ) فى نشرها فى العالم العرب فأصبح عبد الناصر بخطاباته زعيم العرب يترقب الملايين سماع خطبه ، بل تحول مشاهير الطرب الى أبواق سياسية له ، لا فارق بين أم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم حافظ ، وكانت أغانيهم الوطنية أشبه بالمنشورات والخطب السياسية . والأعجب أن مطربة كانت عادية الصوت لكنها إشتهرت بسبب تخصصها فى الغناء ( الوطنى ) وهى فايدة كامل .وظلت خطابات عبد الناصر لها نفس السحر ومسيطرة على المصريين حتى بعد هزيمته عام 1967 . بدليل خطبته المؤثرة في التنحي عن الحكم بعد الهزيمة ، والتى بسببها خرج الملايين يتمسكون به ـ وكنت منهم فى مراهقتى العُمرية والعقلية ــ ولو كنا نعقل لخرجنا نطالب بإعدامه .
4 ـ إستبداد عبد الناصر لم نكن نحسّ به ، صدقنا كل ما قاله فى خطبه ، كرهنا الأحزاب والديمقراطية والاستعمار ، وفى ضوضاء خطبه لم تصل الى مسامعنا صرخات المعذبين فى السجون . عبدناه بكل ما تعنيه الكلمة ، رأيناه تجسيدا للوطن ( مصر ). أذكر أن أمنيتى فى شبابى الغض وقتها أن ألقاه وأتكلم معه . كل هذا بسبب عبقريته الخطابية . ليس هذا حديثا عن الذات ، بل هى شهادة على عصر عشته ، وعلى رعشة كانت تنتابنى وأنا أسمع خطاباته ، ولقد شهدته بعينى فى ميدان عابدين عام 1964 يخطب فى سرادق مفتوح ، وكنت أفتخر أنه لم يكن بينى وبينه سوى بضع مئات من الصفوف .
5 ـ هى كارثة أن يكون المستبد مفوها فى الخطابة قادرا على السيطرة على الجماهير . بنفس العبقرية فى الخطابة دمر أدولف هتلر ألمانيا وأوربا ، وتسبب فى قتل عشرات الملايين . ألا لعنة الله جل وعلا على كل الطغاة المستبدين .
6 ـ ولأننا شعوب نسكن ( الكلام ) وننبذ ( الفعل )ولأننا ظاهرة صوتية ولأن ثقافتنا سمعية وقولية ولأن الزعيم فينا هو القادر على ( الزعم ) أى الكذب فقد عبدنا صوت عبد الناصر وقدسناه . عبد الناصر فى الخُطب جعلته يتجسد الوطن ، بل ويتجسد فيه القومية العربية على المستوى العربى . وحاول تقليده صدام حسين والقذافى ثم على عبد الله صالح . وهم إنتهوا الى تدمير أنفسهم وتدمير الوطن الذى كانوا يمثلونه . وهناك ملايين من العرب والمصريين لا يزالون يعتبرون الزعيم المستبد هو الوطن ، ويرقصون على أنغام خُطب الزعيم المُلهم.
7 ـ وجاء (انور السادات ) بعد عبد الناصر فلم يكن له نفس السحر ولم تكن له نفس الكاريزما ، وكانت طريقته فى خطبه أقرب الى فلاحى محافظة المنوفية ، فكانت تثير فينا السخرية وربما الاشفاق . ثم جاء ( حسنى مبارك ) فرأيناه ( دابة ) تمكنت من النطق كالبشر لسبب ما ، فأخذنا نتلفت عجبا ، كيف وصلنا الى هذا الحضيض ؟ ثم جاء محمد مرسى الاخوانى فقلنا وصلنا الى أسفل سافلين ، والآن مع السيسى عرفنا أن هناك ما هو أسفل من أسفل السافلين .
أخيرا
1 ـ من هم الأسفل من أسفل الأسفل ؟
2 ـ إنهم خطباء الوهابية الذين نشروها عبر المساجد ووسائل الاعلام وحاليا فى الانترنت ، ليس أولهم الشعراوى والقرضاوى وليس آخرهم هذا الذباب الداعشى على الانترنت، والذى يثير الغثيان .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن