ومضات -8-

جميل حسين عبدالله
elourak@gmail.com

2018 / 1 / 24

أمر ما اختار أولئك الذين هزمهم الحظ أمام مقتضى العقيدة، أن يكونوا بين أمرين اثنين: إما أن ينظروا بنظر التشفي إلى ما يطرأ على حياة الناس من سلب، أو عطاء، فينتشوا بما في أيديهم بلا ضمير، ولا أخلاق، وإما أن يتأملوا فيما يقع من حوادث، لكي يكتشفوا منها كيف يكون القدر متصرفا فينا بالعطاء، والمنع، فيدركوا أن الأقدار تجري علينا بالمحبوب، والمكروه، لأنهم يريدون أن يعرفوا كيف يكون الثبات متعذرا في عالم متصف بالتغير، والحدوث، وكيف تصير الأشياء إلى طور آخر، بعد أن كانت في طورها الأول مغرية، ومطرية، إذ قصارى الجهد في الحياة البشرية، أن يوقن الإنسان بأنه لا يملك جلب نفع، ولا دفع ضر، ما لم يكن مهتديا إلى سبل الوقاية، وطرق الحماية، لأنها بمنظور العقائد التي رسمت صورة العلاقة بين المطلق، والمقيد، والمقدس، والمدنس، هي المناط الذي يضمن حرية الاختيار، والإرادة.
وذلك غير متأت لكل من يهرف بما لا يعرف، ويخال ما ينطق من دعوى امتلاكه لسر لغة السماء، هو الحقيقة التي سطرها الإله في الأزل، لكي تصير وردا مورودا لعبيده المنطلقين برواحلهم إلى رحاب حضنه، وحياضه. فما أبله هؤلاء المتشدقين بلغة المطلقات، وهم مفلسون عن ترويض الذات الممتحنة بشهواتها الزاحفة، وتنمية قدراتها على الكسب الذي يدفع مذلة الاسترزاق في عالم متسم بالنسبيات المتناقضة التجارب السيئة، والخيبات الردية، لأن أعظم سلاح يمتلكه السائر إلى دائرة الواصلين، هو ذلك البعد الذي يفل حد جيوش أفكاره المتناثرة بين القوة، والضعف، والمشتتة بين ادعاء الامتلاك، وإيقان الافتقار، إذ ليس في الوجود شيء أثمن من الاهتداء إلى عرف سليم الصيغة في التعامل مع الكيان الموجود للامتحان، والاسترشاد به في طي المراحل الفاصلة بين الأنية النورانية، والأنا الظلمانية، إذ هما في تنافرهما المزلزل لركن السلم الداخلي، لا يحدثان طريقا قويما لهدف متصل بما هو مراد الغاية، وهو كل ما يحتوي على أمن المسير بين غوائل المصير، بل يحبس النظر في خندق المتعارض، والمتناقض، فتضيع مسحة العمر بين جمع، وفرق، وهما عدوان للوحدة التي تلف الذات بإزار الستر، والوقاية. .
كلا، بل كل شيء فيه متشكل بالعلل الذي أقيمت للاستيلاء على المعلول، ومتولد من الأسباب الموضوعة لحيازة المسبب، وهو كل تصرف بشري كامن فيه بلازم الجبر، ولا أثر له فيه، إلا بحرية حركته المختبرة للأشياء المتنافرة المعاني، والمستكنهة لما فيها من غوامض، وعوارض، إذ لو كان هؤلاء أملك لإربهم المنتحب غوره بالغرائز الفاتكة، وأقدر على نفث سلسبيل الحقيقة في روعهم المشتت بين النظر إلى الخلد، والحذر من الفناء، لكان لكلامهم أثر في أوضاعنا التي نستاء من تصورها، ونكره ما يرغمنا على معايشتها، وإن كنا نماري بأنها جميلة الصناعة، وجليلة الصياغة، لا لأننا ننفي وجود معرات تستوجب الإنكار، وتستلزم الإدبار، لاسيما في كينونة تحكمها عقيدة معينة، هي مصنع الرؤى، والمواقف، بل لأننا تآلفنا مع ما هو حادث من مصادر العناء، ومجالب الألم، وصار من شدة الانبهار به محددا لسقف تطلعنا، ومستشرف ترقبنا، لأننا في نهاية الكبد الذي أردنا أن نرجع به الزمن الغادر إلى الوراء، لكي تظهر غرة الصورة القديمة بألوانها البهية، وأطيافها السنية، لم نطق إلا أن نسلم لما وقع، ونعلن انهزامنا أمامه، إذ هو ما تستطيع أن تصل إليه مركبات تفكيرنا العقدي، أو مرامات قصدنا الإيديولوجي، ولو أيقنا بلينها الظاهر في محاربة ما نندفع إليه من رغبات مقرفة، وشهوات مقززة، لأننا حين التزمنا بالمناطات التي تجتمع في بؤرتها أشكال كل ما نلتزم بكمية آرائه، أو كيفية مواقفه، لم نكن إلا محدودين ببدوية نظرتنا إلى التغير، والتحور. وذلك ما فرض علينا الاستسلام لما هو كائن، والتفويض لما هو حادث، والتسويغ لما هو حاضر، إذ هو عصارة الفكر المندحر برغبات النفس، وشهوات العقل، وخلاصة تجربتنا في مقارعة الندوب، والخطوب، ونهاية ما بلغته نياتنا في الجلب، والكسب، وغايتنا التي تكاملت عندها طرق بنائنا لسلم العروج إلى عالم السماء، وهي في طهارتها لا تقبل التطهر بوضوء الدنس، لأنها قدس الأقداس الذي لا يقبل بين رياضه إلا ما كان خالصا، وصافيا.
لكن، لو امتلكنا أن نرفض ما نندفع إليه بنزوة الامتلاك، أو بشهوة الاستحواذ، أو برغبة الاستجداء، لأنكر كثير منا ما يقوم به من أفعال متدنية النية، ومتبرمة الغاية، لأنه لا يأتيها إلا مثقلا بأعباء حياة فقدت مفاتيح أبواب الفضيلة، وتاهت بين ألوانها الخادعة أعين حائرة، وعقول ذاهلة، إذ لا خيار لنا في أوضاع نتماشى مع هوسها، ويتجارى بنا هوجها، وهي فاقدة الجدوى، وعديمة الطوبى، ما دمنا لم نصنع ما تراكم فيها، وما يتفاعل بها، وإلا، لو كنا نطيق أن نفصح بأن ما نسميه بياضا، هو السواد عينه، لانتهت كثير من أزماتنا النفسية، وأوجاعنا الاجتماعية، لأننا لن نعيش بين خيار العقيدة الذي يجسده الضمير الحي، وخيار المصير الذي يفرض علينا أن ننزل عن بشريتنا الحائرة، لكي نعايش واقعنا كآلات صماء، لا تملك موقفا، ولا تبني توجها، ولا ترجو اتجاها، إذ ما وصلنا إليه من تأليه الرغبة، وما تحمي به الكيان من ملذات، ومسرات، قد منعنا عن الصلاة في حضرة المعنى، وهي لا تمد يدها إلا من استطاب فقدان ما ليس له حقيقة، واعتباره عارضا يتوقف عنده الأمل في مسام ضيقة، يكون أكبر أثره عناء نلتزم به، ولا قيمة له عند عد الأرقام التي حصلنا على سرها في ميزان العناية، والتوفيق، والسداد.
وحقا، لو أيقنا بأننا نمتلك تلك اللغة القادرة على التعبير عن عناصر فكرنا المترنح بين المطلقات المعنوية، والمقيدات الحسية، سيصير خيارنا أحديا في ذاته، وصفاته، يتناسب مع لون العقيدة التي توجب علينا أن نرى الأحدية في كل شيء متوقف على جرمه، أو متمدد في حيزه، أو مستول على محله، ومستو فوق موقعه، بل حتى ما يصير بحكم الطبع مستهجنا، ومستقبحا، لا محالة، سيتضمن معناها الواحدي، لا الفرداني الأناني، ولو سعى المطبلون باسم السماء إلى وضع الحدود بين الخلق وظاهرته في الوجود، أو إلى رسم خطوط منفصلة بين الذات، وفعلها اللازم للأزل من جهة الإرادة التكوينية، وللحدث من الإرادة التشريعية، إذ الأظهر عندي، وهو رأي كثير من العرفاء في الديانات السماوية، أن في كل شيء روحا جارية في نياطه، وساريه في أوصاله، وأن ما له روح قائمة، وهي تجلي الوجود في الموجود، هو دال على من أسبل عليه إزار الحياة المتحركة، والعزيمة المنفعلة، وهو كل ما فاضت عليه عوامل الحركة من نقطة الأزل الخالد، ولا يستقل بكنهه، ويتبع جوهره الذي هو تمام ماهيته في الطبيعة.
لكن، لم ييأس هؤلاء البله من وضع متاريس بين الأرض، والسماء، وغابات بين عوالم الدنيا، وعوالم الآخرة، وكأنها منفصلة عن بعضها، ومتنابذة فيما بينها، وهي ليست إلا امتدادا روحيا لأفق واحد؛ هو الإنسان الذي وكل بأمر السماء حين يكون عاقلا، وأنيط به سمو الأرض حين يكون فاعلا بالانفعال، والتفاعل، أو ذاك الكائن الواحد الذي ندرك بأنه يسمي نفسه حيوانا ناطقا بالجبلة، وهو في شعوره المتناقض، يرى استقلاله في الاختيار، والإرادة، والقدرة، لأننا لو امتلكنا لغة الكائنات الأخرى، لكنا أقدر على معرفة ما يروج في غورها عواطف، وما يضبط حقيقتها من عقول، لكننا لم نستطع أن نكتشف صورة العقل المدرك للروابط المنطقية بين الحقائق إلا فينا، وبين خنادق ذواتنا، وكأننا حصرنا عن فقه ما يموج حولنا من حركات توحي بوجود دافع له هدف، ومقصد، هو السر المكنون فيما غاب عنها درك حقيقته، ولو زعمنا أننا نشد على عضد كل شيء في عالم الموجود، والمعلوم.
لكن، ألا يعني هذا أننا مخطئون، أو مفلسون، لأننا أدركنا العقل في كياننا الأوحد، ولم نستخبره في غيرنا، وهو سبب رئيس في حيرتنا، وطيشنا، وسفهنا، إذ لو تجاوزنا نقطة الغرور التي حبستنا في قفص اللغة المفهومة لأسماعنا، لتعرفنا عليه في الأشياء التي نزعم أنها نامية بلا غاية، أو نظن أنها حيوانية بلا قدس، لأننا لو نزلنا عن برج اغترارنا بما نراه عقلا كاشفا، لوجدنا أن تمام آلة الإدراك في صيرورة الفعل المقصود أثره بالنتيجة، هي أن نجد كل معنى في مداره، وأن نقيم النظام في محاله، وأن نتصرف معه بمقتضى ناموس الطبيعة، وقانون الكون، لكي يكون كل شيء متسقا في موسيقى الوجود، فيغدو صوته متناغما مع لحن الأزل التالد. وإذ ذاك يجوز لنا أن ندعي أننا نطيق أن نرشد الناس إلى ما تعج به المراحل والمنازل من صراع مع النفس، ومع العقل، ومع العقل، إذ هي التي تلخص معنى الذات العاقلة، وتؤسس لمفهوم الماهية التي تفضي إلى اكتشاف سر الروح في قيمومتها بالأمر المطلق الإلهي.
لكن، أليس الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يدبر مكيدة لهذا العزف النازف من قيثارة الكون المتأله، والمتحنث.؟ بل، ألا يعتبر عقل الإنسان سببا لفقدان صوت الحياة لكثير من جماليته الهامسة باسم الإله، وهي ما صنعت في روعتها لمقتضى الافتتان، ولا لواجب الامتنان، وإنما وجدت لنتحد معها، ونتألف بها، ثم نصير معها في مساحة واحدة، نتساوى فيها بلا تفضيل، ونمشي بين مسافاتها بلا تمييز.؟ قد يكون ادعاء امتلاكنا لقدرة السيطرة على الأشياء الموحية بالجمود، والخمود، هو سبب تعاستنا، أو تفاهتنا، لأننا، ومهما قلنا بتفضيلنا على سائر الكائنات التي لا ننكر وجود حياة فيها، فإننا في النهاية القصوى، لم نكن سعداء مع الحقائق التي تتضمنها الطبيعة، وتحتويها البيئة التي صنعنا العيش بين مهادها، والأنس بوهادها، والسير بين فجاجها، بل أغرقنا هذا الإدراك المجحف بحق الأشياء في سبة تدمير العالم، وتأزيم التعايش على بساطه، وتأثيم مصير الإنسان، وإرغامه على الولوغ من قذارة العبودية المذلة لجوهره الإلهي، وجنسه البشري، لأننا لم نحصل على النتيجة التي توهمنا وجودها فيما نصوغه من أحداث، وهي في كثير من أفراد أفكارها الموجهة لها نحو تحصيل الغايات بموجب ما تختزنه من منافع، ومصالح، ليست إلا هرطقة المفلسين، وتجديف المدحورين، إذ كثير ممن يرفع هذا الشعار المتطاول على حقائق الطبيعة، والكون، والحياة، والإنسان، لم يكن قيمنا بإدراك وجوده في ذاته، ولا جديرا بأن يفجر المعرفة من عمقه، فاختار أن يستولي على عقول الدهماء، وأسحار الأغبياء، لكي يكتسب بهاءه من وراء حصن ما فقده من عز المعرفة بالحقيقة الخالدة.
ومن هنا، فإن الذين يعدوننا بأننا سنسيطر على العالم، وستنتهي كل آلام الأمم، والشعوب، لو أقمنا في كهوف سجنوا بين ديجور ظلمتها ما صنعوا معناه من هزائم التاريخ، ونكبات الحضارة، لم يكونوا إلا حماة لذلك العوز الذي في أعماقهم الكليلة، ورعاة لتلك الرغبة التي فترت عنها همهم العليلة، ولم تجدها بين مخاض عقلها المستعر بحب الامتلاك، والاستيلاء، وعثرت عليها في بيع وهم الخلاص، وحلم الفداء. تلك مهنة قديمة، وهي شبيهة بالعهر الذي تفشى في المجتمعات المفتوحة الأبواب على الحياة المتنائية عن إحساس الإنسان، وحرصه على تمام وجهها، وكمال نعمتها، لأن المتعة متعتان؛ متعة الظاهر، وفيها تتحرك الأعضاء بعملها المثمر للذة المشبعة لنهم الرغبات، والشهوات. ومتعة الباطن المتضمن لكل القيم التي تحصل بها السعادة المعنوية، وتتوقد بها الروح في صعودها إلى عالمها الفوقي الجميل، وهي الجديرة بالاعتبار في كل رسم يدونه طالب المتعة الحقيقية، ومهما استدل عليها بدليل السماء، أو بعنوان الأرض.
لكن، لم تترك في دائرة المسخ على طبيعتها المثلى، لكي تكون مكتسبة بالوجدان الفردي، بل أحجم دورها بما يزفر به المفلسون، والمغردون على فنن المصلحة الشخصية، حين تدخلوا فيما بين العبد، وإلهه، فرأوا بأن عالم الداخل ملك لهم، وإذا لم يتقيد بحدودهم، كان مصيره الموت في الدنيا، أو الحرق في الآخرة. وهنا كان هذا التدخل بشعا، ووقحا، لأنه تتبع موارد صناعة تلك الصورة الرائعة في الذهن الموثق لعملية الصيرورة القائمة بين الأزل، والحدوث، والمتصلة بالوجدان المترنح بين أفياء المثال الأمثل، والأكمل، والأجمل، وتقفى أثرها في الخارج الذي يضمن التكليف، والبارز الذي يمنح صفة الانتماء إلى إيديولوجية المجتمع المنبوذة، والانتساب إلى ثقافته المقهورة، ولم يتركها تكتسب معناها من تجربة الإنسان، وحريته في قيام ذاته بذاته، وإقامة كل ما ترتبط به من علاقات في جوانها، وبرانها، لأن المفلسين، والصرعى بما يسبل عليهم من آيات المدحة الموجبة للإغراء، والإطراء، لم يكونوا في الزمن القديم الذي أنشأ ظاهرة الاستئثار بحظ السماء، إلا دجالين، ووقد استحال خداعهم إلى رسم مقدس عند العقول المعجونة من خليط الإخفاق، والتناقض، والانتظار، ثم تباطأ الزمن بنا بين حيف الدهر، وعنف القدر، وبلغنا مرحلة من الحيرة، والشكية؛ فإما أن نكون علمانيين، لكي نحترم الإنسان في خصوصيته التعبيرية عن دينه، وإما أن نكون لائكيين، فندع أمر الإله في جب التاريخ المنسي، وإما أن نكون لاهوتيين، فنمارس عملية القرصنة لما في العقول، والقلوب، وإذ ذاك نحكم عليه بأحكام الإفناء أو الإيجاد بمقتضى تصورنا للإنسان، وللإله، وإما أن نكون روحانيين، فنقيم مائدة حوار الأديان والثقافات والحضارات بخصوصية التنوع والتعدد في التشكل، وفي المظهر، ونجعل حقيقة الروح السارية في الأشياء المختلفة، أو في الوجود الكلي لكل ما هو موجود، هي الجامع الذي يمنحنا صفة الإلهية التي نكون بها عقلانيين، أو متفاعلين ومتواصلين في تنظيمات متسمة بالعقل الفاعل في الحقيقة، والمنتج للوحدة في إطار الأحدية.
وهب، أن هؤلاء قد امتلكوا فعالية سيادة العالم كما يحلمون، فهل سيكون العالم موحدا كما يزعمون.؟ أم سيموت الجزء الأعظم منه بحرب قذرة، تتفحم فيها جماجم البشر، والزواحف، والهوام، والحيوانات، وتحترق بها الضروع، والزروع، والأشجار، والأحجار، لكي يبقى الجزء الأقل من الحصة متمتعا بنصيبه من متعة الأرض، ونعمة الكون، وهو بدون اختلاف عناصره، سينهار، ويزول.؟ شيء مربك لكل الأحرار في الكون الإنساني، وسواء بوذا، أو أفلاطون، أو أفلوطين، أو الحلاج، أو الفارابي، أو السهرودي، أو ابن عربي، أو ابن سبعين، أو دانتي، أو فولتير، أو طاغور، أو غيرهم من الإشراقيين الذين صعقتهم نفحة الجمال الإلهي في كون الألم الإنساني، لأنهم بمقدار ما آمنوا بالمثال الذهبي الذي يرسمه كل كائن في ذهنه المستقل، فإنهم رأوا صورته العظمى في الإنسان المتحرك نحو سمائه بشوقه، وعشقه، فهو الإله في نسبة الوجود، وهو ظله في صفة الموجود، لأن ما أوجد ظله إلا على صورته التي اختارها لوصول فيضه إلى العالم المفارق له مادة، والمتصل به ناموسا، وقانونا. وليس كل شيء في وجوده إلا دالا عليه، وهو المالك له بلا انفصال، إذ لا يمكن عندهم أن نبتر الصلة بين الصورة، والمادة، لأن مزجهما في عنصر متداخل الطبيعة، هو الذي يعطينا صورة الإنسان الكامل، وهو ذلك الكائن الإلهي في ثقافة، أو الرباني في ثقافة، أو هو الفناء في ثقافة، أو هو الشهود في ثقافة، وسمه بأي لحن شئت، فما تعدد الأوصاف هنا، إلا لانعدام القدرة على حصر المعنى.
وكل ذلك، تجسده بوضوح عقيدة التثليث في اللاهوت المسيحي، لأنها، ولو زعم أعداء المسيحية أنها قد فصلت بين المعاني الثلاثة، فإنها متصلة من حيث الجوهر الأزلي، ومنفصلة من حيث الماهية في المرئي المادي. فذا هو ذاك، وإذا نظرنا في المرآة التي تقابلت عليها المعاني في نقطة الحقيقة، فلن يظهر إلا وجه واحد، هو الأزل بحده المرتبط زمانه ومكانه بالطبيعة التي هي مسرح التجلي، والإشراق، ولو تعدد المركب في الصوغ، لأنه متحد في العناية، إذ هي التعبير عن حقيقة واحدة، هي الجامعة لمعنى اللاهوت والناسوت في قيمة واحدة، هي الوجود بالقوة في الصورة، وتجليه بالفعل في الموضوع. ولذا، كان أثر هذا التصور منتجا للمعرفة الدقيقة عند توما الأكويني، أو لدى رواد الفلسفة المدرسية، أو السكولائية، لأن الانتقال من مرحلة الفصل إلى لحظة الوصل، هي التي تضمن الحقيقة، وأي حقيقة أعظم من أن ترى الأشياء بروح واحدة، هي روح الإله الذي يسري في الأشياء بتدبيره، وتصريفه، ورسم الآيات التي دونتها الكتب في قديم العهد، وجديده، وفي كل تنزيل بدد الظلمة، ونشر النور، والأمن، والسلام.
حاشية
هل العدم مقابل للوجود.؟ أم للموجود.؟ الذي يظهر لي، أن العدم لا يقابله الوجود، بل الموجود، لأنه نفي الصفة، وهو الموجود، وليس الذات، لأنها هي المصدر، وهو الواجد الذي لا يمكن أن يوصف بضده، وهو عدم الإيجاد، إذ ذلك لا يقتضي النظر، لأنه متعذر تصوره في مدارك العقلاء، إلا إذا قلنا بأنه إنهاء للموجود، أو إفناء له، وذلك غير مقصود في الحقيقة، إذ لا يسمى ما حصل من ذلك عدما، بل موتا. وهنا تبين لي أن قولهم في التعريف: الوجود بما هو موجود خطأ بين، وقد نبهت على ذلك في إحدى مقالاتي المنشورة، إذ الوجود الذي لا صورة له؛ إلا إذا كان فعلا للذات الفاعلة بقدرتها المجردة، ولا يفتقر إلى شيء سواه، حتى يستدل به عليه، لأنه قائم بذاته المطلقة، وكل ما هو كذلك، لا يحق لنا حصره بالماهية، إذ هو جوهر فرد، ومستقل، وليس محدودا بالكنه، ولا منتهيا بشيء ينقش فواصله، لكي تحتويه ماهية، فهو مستغن أن يوصف بعرض يعتبر ضدا له في عقل لم يحز مراتب المعاني في لوحة الحقائق. ومن هنا، فإن الوجود لا ينفصل عن ذاته، وهو الواجد، وربط العدم به، هو ابتعاد عن مورد المعرفة، لأنهما لا يتقابلان في المرتبة، لكي يكون ذا لازما للآخر، فلا يلتحمان في الدلالة إلا ببروز أحدهما، واختفاء الثاني. فافهم القصد.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن