أمريكا: تخفيض الضرائب - طوباوية البيتكوين (Bitcoin)

محمود محمد ياسين
mahyassin@hotmail.com

2017 / 12 / 26

إن قانون تخفيض ضرائب الشركات والأفراد في أمريكا الذى أقرته إدارة ترامب الامريكية في ديسمبر 2017 يمنح الشركات العاملة هناك أرياحا كبيرة غير متوقعة (windfalls)؛ فقد خفضت ضريبة أرباح الشركات بواقع نسبة كبيرة تعادل 14%. فقطاع الصناعة في أمريكا يشهد حالة من الشلل وتدهوراً ملحوظاً خلال العقود الماضية، ففي عام 2000 فقد 5 مليون عامل وظائفهم نتيجة لإغلاق وحداتهم الصناعية أو تخفيض طاقاتها الإنتاجية أو نقلها للعمل خارج الحدود الأمريكية. والسبب في هذا هو نزوع الأرباح فى نظام الإنتاج الراسمالى إلى الإنخفاض.

إن ميل الأرباح فى الرأسمالية إلى الإنخفاض هو قانون موضوعى يحدث نتيجة لإزدياد تكاليف الإنتاج في المؤسسات التي تعمل على أساس الربح. فإستخدام الماكينات والمعدات المتطورة، ونظم الإنتاج والتكنلوجيا الحديثة تؤدى إلى التكلفة العالية للإنتاج فى القطاعات الإقتصادية، وبالتالي تناقص الأرباح، وهذا الهبوط في الأسعار ينتج عن طبيعة وآلية عمل الفئتين التاليتين:

الفئة الاولى: زيادة رأس المال الثابت، الذي يشمل الماكينات والمعدات، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار المواد الخام التي يتغير حجمها بتغير الطاقة الإنتاجية ولكنها لا تجدد قيمتها التي تنقلها للسلع (فهى لا تنتج القيمة).

الفئة الثانية: تقليص العمالة؛ فزيادة رأس المال الثابت وارتفاع أسعار المواد الخام يحدث على حساب رأس المال المتغير المتمثل في العمالة. والعمالة تجدد قوة عملها بشكل متواصل مما يجعلها قادرة لإنتاج المزيد من فائض القيمة. ففائض القيمة (الربح اختصارا) تحققه العمالة وليس راس المال الثابت والمواد الخام؛ وبالتالي فإن تقليل العمالة يتسبب فى انخفاض معدل الربح.

إن تخفيض الضرائب الأمريكية الذى سوقته الإدارة الأمريكية على أساس أنه سينعش القطاع الإنتاجي ويسهل عملية إعادة الأموال التي تحتفظ بها الشركات الأميركية في الخارج تجنباً للضرائب العالية المطبقة قبل التخفيض، يتناقض مع القوانين الاقتصادية التي تتحكم في توجهات عمل الشركات الضخمة العابرة للقارات في عالم اليوم. فنتيجة مباشرة لتناقص الأرباح في بلدانها، فإن الرأسمالية - التي كان تمددها في العالم يحدث في فترات نموها الأولى كشيء طبيعى متأصل في طريقة عملها*-صارت وحشاً كاسراً يجنح للعنف والتدخل العسكرى المباشر في البلدان الفقيرة والسيطرة عليها بغرض استعادة أرباحها المفقودة في البلدان الأم عبر استغلال العمالة والمواد الخام الرخيصتين والإفادة من أسعار الآراضى المنخفضة.

والنافذة الأخرى كبديل لاستثمار الشركات الأمريكية هى المضاربة في سوق الأموال؛ فقد ارتقعت أسعار الأسهم في بورصة نيويورك في السنوات الأخيرة لتقفز لأكثر من 20% للفترة من يناير حتى أول ديسمبر 2017.

وهكذا على الرغم من أن برنامج تخفيض الضرائب قد يكون عملية إنقاذ (bailing-out) لبعض الشركات التي شل انخفاض الأرباح عملها تماما، إلا أن أغلبية مؤسسات القطاع الإنتاجي لها أموالاً ضخمة في خزائنها تقدر ب بأكثر من تريليون ونصف تريليون دولار أمريكي لا تسطيع استثمارها والسبب ليس الضرائب بل ميل الأرباح للانخفاض بمعدلات ضخمة. وتخفيض الضرائب المُنفَّذ لا يعادل ما يمكن أن تجنيه تلك الشركات من الميزات واسعة النطاق التى يجنيها الاستثمار في البلدان الفقيرة المغلوبة على امرها أو تحقيق الأرباح الفاحشة (profiteering) من وراء المضاربات المالية.

˜˜˜˜˜˜˜˜˜˜˜˜˜˜˜˜˜˜˜˜˜˜˜˜˜˜˜˜˜˜˜˜˜˜˜˜˜

من أهم التطورات مؤخراً في مجال الاسواق المالية العالمية هو التعامل التجارى الآجل (future trading) ب "عملة" البتكوين مما أدى لإرتفاع سعرها من 900 دولار في بداية العام الحالي 2017 إلى 1900 دولار في ديسمبر من العام؛ ولم يشهد تاريخ الاقتصاد العالمى نظاما ماليا يسجل مثل هذا الارتفاع في قيمته. والبتكوين ظهرت في 2009 فقد قام بإنشائها مجموعة من الأشخاص المخفيين العاملين في مجال برمجة الكمبيوتر وهى مبنية على أساس تصميم سجل حسابات (ledger) عام مخزن رقمياً في أجهزة الكمبيوتر للمشاركين، وهى، على عكس العملات الأخرى، بدون غطاء وغير خاضعة لأى سلطة رقابية على أي مستوى كان قومى أو عالمى ولهذا فهى إختراع ساعد على حدوثه عبقرية في إستخدام التكنولوجيا الرقمية، فهى لم تنشا كما نشأت النقود تاريخيا، أى بشكل موضوعى ليس لخلق القيم بل لأداء وظيفة مستودع ووحدة لقياس القيمة ووسط لتسهيل تبادل السلع والخدمات. ومصادر البتكوين هي تعدينه، وسمى كذلك كمُماثلة لاستخراج المعادن الثمينة من باطن الأرض، وهو إستعمال برامج كمبيوترية متخصصة وإجراء عمليات حسابية شديدة التعقيد لإنتاج البتكوين من الإنترنت؛ والمصدر الآخر هو الشراء من صرافات (exchanges) على الإنترنت متخصصة في شراء وبيع البتكوين.

وهكذا فإن البتكوين ليست عملة بالشكل المعروف بل يمكن اعتبارها ليس أكثر من نسخة رقمية من العملات القابلة للتحويل (أهمها الدولار) أو عملة اصطناعية (synthetic)، فوحدة البتكوين بالنسبة لأغلب المستثمرين وسلية تمنحهم المضاربة على قيمتها حيث يتم شراؤها بالدولار واسترداد قيمتها فى النهاية بتحويلها للدولار؛ والبتكوين هي الوسط الاستثماري الافتراضى (virtual) الذى تحدث فيه المضاربة على قيمة وحداتها. ويجب ملاحظة أن المنافذ (outlets) التي تقدم السلع والخدمات على أساس قبول البتكوين، كأداة دفع، محدودة العدد للدرجة التي تجعل الاعتماد عليها في المعاملات اليومية شديد الصعوبة؛ كما أن التعامل بالبتكوين يتطلب براعة في استخدام الكمبيوتر (computer savvy).

الفكرة الأساسية كما ادعى الأشخاص المخفيين من وراء اختراع البتكوين وهو تحرير الناس من الإعتماد على العملات المعروفة وبالتالي من تحكم الحكومات التي، مثلاً، قد تلجأ لمصادرة أموال الأشخاص. ولكن هذه فكرة طوباوية. إن طريقة عمل البتكوين التى تقود إلى تجزئة رؤوس الأموال تتناقض مع أهم قوانين الاقتصاد الراسمالى التى أدت إلى أن يكون النشاط الاقتصادي متمركزاً في مشاريع وإستثمارات مالية كبرى. كما أن البتكوين ليس لها القوة على فرض تجزئة رؤوس الأموال بدون رقيب، فراس المال يسيطر على القمم (commanding heights) الاقتصادية الشيء الذى يجعل أي محاولة لزرع أنظمة خارج مسار النظام الرأسمالي مجرد حلم طوباوي.

وحتى الآن فإن التجربة أكدت أن من يمكنهم الإستفادة من البتكوين هم الأثرياء الذين لديهم وفرة المال ويتطلعون لتحقيق الأرباح بصورة سريعة أو التهرب من الضرائب أو غسيل الأموال أو أي عمليات تتطلب نقل الأموال لأسباب غير قانونية. كما أن الإستثمار في البتكوين هو إمتداد للمضاربة التي تحدث في البورصات العالمية، فهذه البورصات، مثل بورصة نيويورك العملاقة (أكبر بورصة في الولايات المتحدة والعالم من ناحية الحجم المالي)، أصبحت كالكازينوهات تتم فيها المضاربة على الأدوات المالية التقليدية -الأسهم (stocks) والسندات المالية (bonds)- وارتفعت هذه المضاربات لمستوى أعلى بإنشاء عشرات وربما مئات المشتقات المالية وهى عقود لإدارة الأدوات المالية التقليدية والتخفيف من مخاطر الاستثمار فيها. وقد ساعدت هذه المشتقات على رفع الأرباح (والخسائر) بمستويات أعلى كثيرا بشكل دراماتيكي من العوائد المالية فى مضمار التعامل بالأدوات المالية التقليدية؛ وهذا أدى إلى فجوة ضخمة بين الاقتصاد المالى والاقتصاد العينى (الحقيقى). وعليه يمكن إعتبار البتكوين عقداً ماليا يرفع وتيرة المضاربة في الأسواق المالية بتحريك قيمة أسهم الشركات بدون إنتاجية لمستويات أعلى كثيرا مما هو حادث الآن؛ وإن إتساع الفجوة بين أسعار الأسهم والمشتقات المالية الأخرى وبين نمو الاقتصاد الحقيقى لن يؤدى في نهاية المطاف الا إلى الازمة المالية.

لكن الرأسمالية لها دوماُ الميكانزيم لدرء وقوع الأزمات المالية (مؤقتاً)، وهذا يحدث بشكل موضوعى عبر عمل قانون العرض والطلب من ناحية، ومن ناحية أخرى بالتدخل المباشر للسلطات الحاكمة؛ ولهذا، عرضاً، فإن الازمات المالية والاقتصادية لا تقبر الرأسمالية، ولكن حدوثها المتكرر كمحصلة لا مفر منها في ملازمة دورات الإنتاج السلعى هو أحد الاسباب التى تحتم على البشرية في نهاية المطاف، عن طريق الفعل الواعى، إلغاء نظام الإنتاج السلعى.
------
راجع مقال الكاتب " دوارد سعيد وإستشراق كارل ماركس! (2-3)" حيث ورد الآتى " فقد إكتشف ماركس أن السبب فى تمدد الدول الرأسمالية الغربية (الإستعمار) يرجع لصفة متأصلة (inherent) فى رأس المال. فخلافاً للإستعمار فى الحقب قبل الراسمالية حيث كان الهدف من غزو الدول الاخرى هو الحاقها كملكيات عقارية (landed estates)، فإن الإستعمارية الراسمالية حركتها بواعث مختلفة. يعتبر ماركس أن راس المال يتسم بنزعة جوهرية للتمدد الجغرافى وإنشاء سوق عالمى، فهو يقول ” إن إنتاج راس المال لفائض القيمة المطلقة مشروط بتمديد نطاق التداول (لراس المال) ...وبالتالى فإن راس المال مثل ما ينزع بصورة دائمة لتحقيق فائض من العمل، فهو كذلك يمتلك نزعة مكملة تتمثل فى إيجاد أكثر من نقطة للتداول....إن إنتاج فائض القيمة يتطلب خلق إستهلاك جديد...من خلال توسيع الإستهلاك الحالى: من ناحية، بخلق حاجات جديدة بواسطة دعاية واسعة النطاق للحاجات الحالية، ومن ناحية اخرى بإكتشاف قيم (سلع) إستعمالية جديدة.“



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن