من المنفلوطي إلي يوجين نيدا

أحمد الخميسي
ahmadalkhamisi2012@gmail.com

2017 / 11 / 19

خضعت الترجمة في عصرنا الحديث إلي العشوائية والتأليف أحيانا والتعريب أحيانا، وأشهر مثال على ذلك هو المنفلوطي الذي بدأ منذ 1900 في إعادة صياغة روايات فرنسية معتمدا على ترجمة أصدقائه لها لأنه شخصيا لم يكن يعرف الفرنسية، وحينما ينتهون من عرض العمل عليه يقوم هو بإعادة صياغته بكامل راحته ودونما أي حرج من المؤلف الأصلي، هكذا أصبحت رواية " بول وفرجيني" تسمى عند المنفلوطي" الفضيلة" ، وتمسي رواية " تحت ظلال الزيزفون" مجدولين! ولا يمنع ذلك أن المنفلوطي قام بدور كبير في تقريب الأدب الروائي إلي القراء معتمدا على ترجمة مع تأليف على تعريب واقتباس وإطلاق الحرية للمخيلة اللغوية. في كل الحالات اعتمد المنفلوطي على ما يسمى " الترجمة الثنائية" أي الترجمة التي تعتمد على شخصين، أحدهما يتقن اللغة الأصلية المكتوب بها العمل، والآخر يتقن اللغة التي سيترجم إليها العمل. ويروى نجيب محفوظ أنه كان يقرأ قصة لموباسان مترجمة عن الفرنسية فوجد فيها التالي: " يتجه الشاب بول إلي صديقته ويقدم إليها زهرة قائلا : تفضل يا ماري وردة جميلة لأنه كما قال سيدنا محمد تهادوا تحابوا"، ويعلق نجيب محفوظ على ذلك بأنه كان مدهوشا من أن كاتبا عظيما مثل موبسان على إطلاع بثقافتنا الاسلامية ! وفيما بعد أدرك أن ذلك كله نصف ترجمة ونصف تأليف لترويج العمل! وقد قطعت الترجمة شوطا طويلا لتنتقل من العشوائية والتأليف والتعريب وتصبح علما بدءا من خمسينيات القرن العشرين مع ظهور كتاب العالم الأمريكي يوجين نيدا " نحو علم الترجمة" عام 1964، وكتب أخرى منها كتاب جيريمي مندى المسمى "دراسات التراجمة: نظريات وتطبيقات" وغيره، ثم بدأت بعد ذلك تظهر عندنا أبحاث عربية على طريق بلورة علم الترجمة. ومازالت قضية " الترجمة الثنائية " موضع تساؤل، إلي أي مدى قد تكون دقيقة؟ بل إلي أي مدى يمكن حسبانها ترجمة؟. والواقع أن ذلك النوع من الترجمة قائم ويطرح نفسه باستمرار بصفته ضرورة. وهناك في ذلك المجال نموذج يوضح ضرورة اللجوء إلي تلك" الترجمة الثنائية"، وأعني حالة رسول حمزاتوف أحد أعظم شعراء القرن العشرين. حمزاتوف من داغستان، ومن قومية صغيرة داخل داغستان تسمى" الآفار"، لغته الأساسية هي " ألافارية"، لكنه يعرف الروسية بحكم دراسته في موسكو لكن ليس لدرجة اتقانها بحيث يترجم منها أو إليها. عندما اشتهر حمزاتوف بدأ الكثيرون في ترجمة شعره إلي الروسية. لكن .. كيف؟ لا أحد تقريبا من الروس يعرف الأفارية ، اللغة التي يتكلمها حوالي نصف مليون نسمة! لهذا كانت الترجمة تتم بشكل ثنائي بالتعاون بين حمزاتوف الذي يعرف الآفارية والروسية وبين المترجم الروسي، ينقل حمزاتوف للروسي المعاني والكلمات والصور، ويقوم الروسي بصياغة ذلك شعرا. والضرورة وحدها هي التي تقود إلي" الترجمة الثنائية"، وتبرز تلك الضرورة خاصة في مجال الشعر.وعلى سبيل المثال صدرت مؤخرا عن المجلس الأعلى للثقافة " مختارات من الشعر الأرميني"
قام بالترجمة من الأرمينية إلي العربية مترجم أرميني ثم صاغ القصائد بالعربية صياغة شعرية الشاعر المعروف محمد ابراهيم أبو سنة. هنا أيضا تبرز الضرورة لأن قلة قليلة جدا هي التي تعرف اللغة الأرمينية عندنا. صدرت أيضا "مختارات من شعر كوريا الجنوبية" عن المركز القومي للترجمة.ترجمها كورويون ترجمة حرفية ثم تمت صياغتها بواسطة مترجمين عرب وسترى في الكتاب القصيدة باللغة الكورية وفي الصفحة المقابلة الترجمة بالعربية.
وفي لقاء صحفي مع الشاعر الأمريكي روبرت هاس، سألوه عن ترجمته إلي الانجليزية الشاعر البولندي " فيتشيسلاف ميلوش" الحائز على نوبل فقال:" كان ميلوش جاري بالمصادفة، ومن ثم بدأت مع صديقة تتقن البولندية في ترجمة بعض قصائده، هي تنقل لي الكلمات حرفيا وأنا أصوغها بالانجليزية، ثم أجدت قليلا اللغة البولندية بمرور الوقت، والآن أنا أعمل مباشرة مع ميلوش، هو يقوم بالترجمة الأولى، ثم نجلس معا وننقلها إلى الانجليزية التي نتفق عليها". الواضح أن الترجمة الثنائية تفرض نفسها أكثر ما تفرض في حالة الشعر، عندما لا يكون المترجم شاعرا، والقاعدة أن معظم المترجمين ليسوا شعراء، هم مترجمون فحسب. لكن هناك حالات نادرة كان المترجم فيها هو المترجم والشاعر في الوقت ذاته، مثل حالة الشاعر الروسي باسترناك عندما ترجم شكسبير إلي الروسية، ولم يكن بحاجة لأحد، لأنه يتقن اللغتين، ثم أنه شاعر يستطيع أن يصوغ الترجمة شعرا.
ويكاد يكون هناك شبه اجماع على أن الترجمة الثنائية تتسم على الأغلب بعدم الدقة، لأن الصياغة وموسيقية اللغة الجديدة تتغلب على المعنى الأصلي، وهذا ما حدث مع ترجمة القرآن الكريم الي الروسية التي قامت بها فاليريا بورخوفا الروسية مع زميل عربي، وفيها أضافت المترجمة كلمات زائدة على الأصل لمجرد اضفاء الطابع الشعري على النص. ومن أمثلة ذلك الآية الكريمة:" إذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا" فقد ترجمت بورخوفا معاني تلك الآية كالتالي:" ورأيت الناس الصالحين يدخلون في دين الله أفواجا" وأضافت كلمة " الصالحين" من عندها لمجرد أن للكلمة وقعا موسيقيا يتسق مع الكلمات السابقة واللاحقة. وإذا كان تاريخ الترجمة قد خضع لقطبين : الترجمة الحرفية ، والترجمة الحرة، فإن الترجمة الثنائية تسترشد في معظم الأحيان أو تنساق إلي الترجمة بتصرف وقد يكون هذا أحد عيوبها. مع ذلك تظل الترجمة الثنائية ضرورة لا جدال في أهميتها.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن