السياسة علم، وليس دجل-مقاربات لفهم الأزمة الجزائرية-

رابح لونيسي
lounici.rabah2008@yahoo.fr

2017 / 11 / 14

قدم الشعب الجزائري للعالم أجمع ثورة عظيمة، وكانت محط أنظار العالم، وأعطت أكثر من مليون ونصف مليون شهيد، لكن بعد 55 سنة من إستعادة الجزائر إستقلالها، لم يستطع هذا الشعب تحقيق أحلام وطموحات الكثير من الشهداء الذين كانوا يعتقدون أنه بعد طرد الإٌستعمار، فإن الجزائر ستصبح في غضون سنوات بلد يعيش شعبها في الرفاهية والتقدم وكنف العدل والديمقراطية وإحترام الحريات بكل أشكالها .
إن الفشل في تحقيق هذه الأحلام وتردي الجزائر اليوم في تقهقر شامل، يدفع الكثير إلى التساؤل كيف ولماذا وصلت الجزائر إلى هذا الوضع ؟ وأين تكمن أسباب وجذور ذلك ؟ ومن أوصلها إلى هذا الوضع؟، وتختلف الإجابات من واحد إلى آخر، فبعض الغلاة من المعمرين ينطلقون من رؤى عنصرية، انتشرت بقوة في القرن التاسع عشر في أوروبا، مفادها أن التقدم والحضارة هي حكر على الغرب فقط دون الشعوب الأخرى، ويريدون إقناعنا أن بلدان العالم الثالث، ومنها الشعوب المسلمة، لا يمكن لها أن تتقدم، وأن التخلف طبيعة فيها، ودفعهم ذلك إلى القول بأن للإستعمار كانت له الكثير من المحاسن، ويستدلون في ذلك بما وصلت إليه الأوضاع بعد إسترجاع بلداننا إستقلالها، بل هناك بعض المثقفين تحسروا على دعمهم حركات التحرر في الماضي مثل ألبير ميمي صاحب الكتاب الشهير "صورة المستعمر والمستعمر" الذي صدرعام1957، أين فضح الدمار الذي ألحقه الإستعمار بالبلدان المستعمرة والإنسان المستعمر، ليتراجع بعد عقود، ويكتب كتابا آخر في2004 بعنوان "صورة الإنسان ما بعد المستعمر" يتطرق فيه لفترة ما بعد الإستعمار والوضع المأسوي الذي خلفه الوضع الجديد، ومنها الجزائر.
كما نجد أطرافا أخرى تحاول تفسير هذا التخلف بالنظام العالمي الذي لا يسمح لشعوب العالم الثالث بالتقدم بعد ما ربطها بالإقتصاد الرأسمالي العالمي، ويطالب أصحاب هذا التفسير بإعادة النظر في النظام الإقتصادي العالمي، ومنهم أصحاب نظريات التبعية وإرتباط التخلف بالتوسع الرأسمالي، ويذهب الرئيس الجزائري الأسبق أحمد بن بلة هذا المنحى، وذلك إنطلاقا من تجربته في السلطة وإصطدامه بالقوى والمصالح الرأسمالية العالمية، فيعترف بالقول "أن البلدان المتخلفة ستفشل في كل مشاريعها، طالما لم تتخلص من إطار وقواعد النظام الإقتصادي الرأسمالي العالمي"، ولعل هذا المأزق هو الذي دفع الرئيس هواري بومدين إلى تركيز جهوده كلها في السبعينيات من القرن العشرين من أجل إقامة نظام إقتصادي عالمي جديد أكثر عدلا وإنصافا.
وتوجد تفسيرات أخرى لهذه الأوضاع المتردية، ومنها من يردها إلى عوامل أعمق في التاريخ والتكوين المجتمعي لكل شعوب المنطقة التي تنتمي إليها الجزائر، ومنهم الباحث البحريني محمد جابر الأنصاري الذي يقول بأن مأساة شعوب هذه المنطقة، تعود إلى عمق تاريخها، وأثبت في عدة دراسات له، بأنه حتى ولو تغير النظام، وطبقت كل الأيديولوجيات، فإن المصير هو تكرار الفشل دائما لأن "الأزمات السياسية المتلاحقة التي نعانيها ...ليست وليدة الحاضر الراهن وحده، وليست نتاج لحظاتها الآنية المنعزلة، وإنما هي أعراض لتراكم واقع موضوعي طويل الأمد، تداخلت فيه عوامل المكان والزمان والتكوين الجمعي، أي بكلمة أخرى: عوامل الجغرافيا والتاريخ والتركيبة المجتمعية المتوارثة، والممتدة إلى عمق الحاضر المعاش في مختلف مظاهره وأعراضه التي نعانيها اليوم".
ويمكن أن يستند آخرون في تفسير هذا التقهقر على دراسة عالم إجتماع الثورات كرين برنتون الذي يقول بفكرة دورات الثورات، حيث يرى أن كل ثورة تعود إلى نقطة البداية أي مرحلة بداية الثورة على الوضع المتردي، مثل الوضع الإستعماري الفرنسي في حالة الجزائر، وتوصل كرين برنتون إلى ذلك من خلال دراسته لكل من الثورات الثلاث الكبرى الفرنسية والأمريكية والروسية ومقارنتها بجسم الإنسان وعلله، فيقول "أننا سنعتبر الثورات...نوعا من الحمى، ومن السهل معرفة الخطوط العريضة التي تبين الحمى، ففي المجتمع خلال الجيل أو نحوه قبل إنفجار الثورة-في النظام القديم-ستوجد علامات الإضطراب القادمة، وهذه العلامات على وجه الدقة ليست أعراضا تامة، إذ أنه عندما تظهر الأعراض بصورة كافية يكون المرض قد حل بالجسم فعلا ، ولربما من الأفضل وصفها بأنها نذر، ودلالات يعرف منها الطبيب أن المرض في طريقه إلى الظهور، ولكنها ليست نامية بالقدر الكافي لتصبح هي المرض نفسه، ثم يأتي وقت تظهر فيه الأعراض تماما، وعنذئذ نستطيع أن نقول أن حمى الثورة قد بدأت، وهذه الحمى تشتد أحيانا وتخف حينا، ويصحبها في أغلب الأحيان هذيان، هو حكم أشد الثوار عنفا، حكم الإرهاب، وبعد ذلك تجيء فترة النقاهة، وهي تتميز عادة بنكسة أو نكستين، وأخيرا تنتهي الحمى، ويستعيد المريض نفسه مرة أخرى، وربما يشعر بالقوة في بعض النواحي نتيجة التجربة، ويكتسب على الأقل مناعة لفترة ما ضد مرض مماثل، ولكن من المؤكد أنه لا يصبح كلية إنسانا جديدا، وهذا ينطبق على المجتمعات التي تقوم بثورة كاملة، فإنها تخرج منها قوية إلى حد ما، ولكنها لا تكون جديدة تماما"، وبتعبير آخرفإنه "قد تنشأ حالة إختلال نسبي في التوازن وينفجر ما نسميه ثورة"، فهي تشبه جسم الإنسان" نحن نعرف في جسم الإنسان يكون إختلال التوازن الذي نسميه مرضا مصحوبا ببعض التفاعلات التي تعمل على إعادة الجسم إلى حالة تشبه ما كان عليه قبل هجوم المرض. ويبدو من المحتمل تماما أنه في النظام الإجتماعي المختل التوازن، يكون هناك شيء ما من نوع هذه التفاعلات التي تعمل على إعادة الظروف القديمة، وأن هذا ليساعد على أن يفسر لماذا لا تصبح الثورات كما يريدها الثوار، أن التكيفات القديمة تعمل على إعادة إستقرارها، وتنتج ما يعرف في التاريخ بالرجعية أو العودة إلى نقطة البداية"، فهل عرفت الثورة الجزائرية هذه الدورة ووصلتها اليوم ؟ وهل تعيش الجزائر اليوم على فوهة بركان ثورة أخرى بفعل إختلال التوازن في المجتمع من جديد كما كان عشية إندلاع الثورة الجزائرية ضد التواجد الإستعماري الفرنسي عام1954 ؟ .
كما يمكن الإستناد على طرح للمفكر الإيراني علي شريعتي يقول فيه أن كل الدعوات الكبرى ومنها الرسائل السماوية يقع فيها الإنحراف بعد إنتصارها، ويستولي عليها "الطغاة والإستغلاليون"، ثم يلبس هؤلاء لباس تلك الرسالة أو الدين ليستغلوا بها الجماهير، فكتب علي شريعتي يقول "عندما يبعث الأنبياء الداعون إلى التوحيد، ترى دين الشرك يتصدى لهم ويقف في وجههم، وعندما ينتصر الأنبياء في هذه المواجهة، تستمر حياة دين الشرك وأنصاره وخلفائهم بشكل خفي" أي يتسترون تحت عباءة الدين الجديد ومثله وقيمه "، ويلخص شريعتي فكرته بالنسبة للإسلام بقوله "لقد حكم دين الشرك بإسم الإسلام ...وبإسم القرآن كما حكم في القرون الوسطى بإسم عيسى وموسى..."، فهل وقع ذلك للثورة الجزائرية ؟ فهل استولت الثورة المضادة على قيم الثورة ومبادئها ورسالتها، واختفت تحت عباءتها وقيمها ومبادئها لضرب الثورة من الداخل وتقويض أهدافها السياسية والإجتماعية والثقافية؟، فكان هؤلاء وراء ما وقع في الجزائر، فصادر هؤلاء الثورة الجزائرية، واستخدموها لخدمة مصالحهم، وصادروا إستقلال الشعب الجزائري وثورته-حسب فرحات عباس-الذي ألف كتابا عنونه ب"الإستقلال المصادر".
ويكاد يتم الإجماع في الجزائرعلى أن هناك إنحرافا قد وقع في مسار الثورة الجزائرية، لكن يختلف هؤلاء في تحديد من وراء الإنحراف وفي أي فترة تاريخية بدأ، فنجد المؤرخ محمد حربي يرده إلى فترة الثورة المسلحة مستندا على الطروحات التروتسكية وتحليلات مجلتهم "إشتراكية أم بربارية"، فيرى أن جبهة التحرير الوطني قد تحولت إلى جهاز بيروقراطي، فتولد منه "طبقة برجوازية بيروقراطية"، فوقع الإنحراف، وهو نفس ما وقع للثورة الشيوعية على يد النظام الستاليني، وقد سمحت الأيديولوجية التروتسكية لمحمد حربي بإكتشاف مايسميها ب"البرجوازية البيروقراطية" داخل نظام جبهة التحرير الوطني أثناء الثورة وبعد إسترجاع الإستقلال، كما كانت طروحاته التروتسكية وراء نقده اللاذع لممارسات جبهة التحرير الوطني التي عادة ما يشبه ممارساتها بشكل غير مباشر ب"الممارسات الستالينية" رغم إنتمائه إلى هذه الجبهة حتى عام1965 .
أما عالم الإجتماع السياسي الجزائري عدي الهواري، فينطلق من فكرة مفادها أن في الجزائر سلطتين منذ إسترجاع الإستقلال، فهناك سلطة ظاهرية أو واجهة، لكن تعينها سلطة فعلية وخفية، وتتمثل في جهاز الأمن العسكري، الذي يعد في نظره التنظيم الوحيد الموجود في الجزائر، فهو يتحكم في السياسيين وكل التنظيمات والمنظمات والمؤسسات وأجهزة الإعلام وغيرها من المؤسسات والأجهزة التي تغلغل إليها وسيطر عليها، وأن هذه السلطة الفعلية، والتي تتحكم في السلطة الظاهرية، هي التي أنتجت رداءة في كل المجالات، وأبعدت الشعب الجزائري عن السلطة وتقرير مصيره وإنتخاب وإختيار ممثليه السياسيين.
كما نجد البعض يفسرون الوضع في الجزائر بكلام أيديولوجي أكثر مما هو علمي، وينتشر بقوة لدى بعض المثقفين سواء كانوا معربين أو مفرنسين، وهو نتاج الشقاق الثقافي الذي تعرفه الجزائر، ويحاول كل طرف تحميل الآخر المسؤولية، فبعض المثقفين المعربين يحاولون إختزال أسباب الوضع كله في سيطرة الذين يسمونهم ب"المفرنسين والتغريبيين" في السلطة، وينعتونهم ب"حزب فرنسا"، ونجد طرح معاكس لدى بعض المثقفين المفرنسين الذين يحملون المسؤولية للذين ينعتونهم ب"الأصوليين والبعثيين" الذين سيطروا –حسبهم- على المدرسة والإعلام والإدارة والحزب وغيرها من المؤسسات، وغرابة الأمر أن عناصر من السلطة ذاتها تدعم كلا الطرفين في هذا القول، كي تبعد المسؤولية عن كاهلها، كما تضرب السلطة هذا الطرف بذاك طبقا لمبدأ "فرق تسد".
كما تسعى دائما السلطة في الجزائر إلى إلقاء مسؤولية الوضع المتردي على الآخرين كالإستعمار والعدو الخارجي والأمبريالية وغيرها من التعبيرات التي تشبه إلى حد ما قول بعض الجزائريين أثناء العهد الإستعماري، بأن الإستعمار قضاء وقدر، بدل تحمل كل فرد المسؤولية عن وضعه الإستعماري، ويسعى للتحررمنه .
وتتعدد التفاسير البسيطة لهذا الأمر لدى عامة الناس، فنجد منهم من يرد بداية الإنحراف إلى فترة حكم الشاذلي بن جديد، ويسميها ب"العشرية السوداء"، ومنهم من يذهب أبعد من ذلك ويردها لفترة هواري بومدين أو أحمد بن بلة، بل نجد من يرد هذه البداية إلى أكتوبر 1988، ويعتبر تلك الأحداث مؤامرة لإجهاض الثورة.
وهناك بعض الباحثين الإجتماعيين الموضوعيين والمتسمين بالعلمية، فإنهم يحاولون الغوص في تركيبة المجتمع الجزائري وتكوينه التاريخي لتفسير العديد من القضايا، ونرى نحن مثلا أن أبن خلدون بإمكانه أن يفسر لنا العديد من القضايا اليوم، ومنها العصبية الجهوية والقبلية التي تضرب الجزائر في عمقها اليوم، بالإضافة إلى قول البعض بأن الريفيون والفلاحون هم الذين سيطروا على الدولة عام 1962 بدل الحضر والمدينيون، وهو ما ينطلق من التفسير الخلدوني لظاهرة الدولة في البلاد المغاربية.
إن هذه المقاربات تحتاج إلى تعمق أكبر لفهم ذاتنا وأسباب عجزنا عن التقدم، ويجب على الباحثين في كل التخصصات وضع كل هذه الفرضيات والمقاربات على طاولة النقاش العلمي الجاد بهدف التوصل إلى الأسباب الحقيقية لوضعنا المتردي بهدف طرح الحلول السليمة بدل ترديد كلام سياسوي عام لاعلاقة له بالعلمية إطلاقا، فقد حان الوقت لأخذ الأكاديميين مكانهم الحقيقي والتعاون فيما بينهم لإيجاد حل مبني على أسس علمية بدل تركهم المجال لسياسويين أغلبيتهم أميين ودجالين ومتاجرين بمصير الجزائر خدمة لمصالحهم الخاصة، ألم يحن الوقت كي ينتفض الأكاديميون ضد هؤلاء السياسويين الدراويش الذين أحتلوا الساحة السياسية متناسين أن السياسة هي علم بذاته، وليس بولتيك تمارس من هؤلاء الدجالين.


البروفسور رابح لونيسي
- جامعة وهران-



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن