هوية وطنية... وئاكرة منسية

علي مرزوك الجنابي
alimarzook@yahoo.com

2017 / 11 / 6


هوية وطنية... وذاكرة منسية
الكاتب/ علي مرزوك الجنابي

الذاكرة التأريخية هي تصورات جماعية تشترك بها مجموعة بشرية معينة، وتتمحور هذه التصورات حول أحداث وقعت في الماضي الذي يجري ادراكه كأساس لتشكيل الهوية الموحدة لهذه الجماعة وكيانها السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي المعاصر. وقد تتبنى الجماعات المختلفة في المجتمع التعددي ذاكرة اجتماعية ترسخ تصوراتها عن الماضي بمعزل عن الدولة، وتنشأ هذه الظاهرة كوعي بالذات خلال فترات التغيير السياسي والاجتماعي السريع.
تختلف الذاكرة التأريخية عن تلك التي تتبناها الدولة.. كيف؟ ان الاولى تؤدي الى تفكك المجتمع، وتقود الثانية الى التماسك والاندماج ضمن السياسة العامة للدولة، ويمكن للدولة ان تفرض سلطتها بسهولة اذا اقنعت مواطنيها بتقبل رؤيتها وتصوراتها لتاريخ المجتمع واحداثه، وتُسهل عملية تحقيق الاجماع حول هذه الرؤية على الدولة انشاء مجموعة من الوقائع التاريخية التأسيسية التي تعد مسألة جوهرية تدعم الشعور بالهوية الجماعية. ولا جرم ان الدولة تتعرض لخطر التفكك اذا تجاهلت الذاكرة التاريخية خاصة في حالات التغيير السريع على الصعيدين السياسي والاجتماعي.
وتثار هنا التساؤلات الاتية: ماهي هوية المجتمع السياسي العراقي بعد عام 2003؟ وما هي الوقائع التاريخية التي سيتطلع اليها العراقيون لبناء هويتهم المشتركة؟ وكيف سترتبط مكونات المجتمع المختلفة مع بعضها ومع الدولة؟ وتبرز هنا اهمية الذاكرة التاريخية الجماعية بوصفها مطلباً اساسياً لبناء الدولة خاصة في مراحل البناء الاولى التي يصاحبها عدم الاستقرار، وتعد الديمقراطية، والمشاركة وفاعليتها من اهم العوامل التي تغني الدولة وتبعدها عن الحاجة لفرض تراث مختلق.
لقد سعت دول العالم غير المتقدم الى استغلال محتوى الذاكرة التأريخية لتهميش المكونات الاجتماعية التي اتخذت موقف المعارضة، واخذت هذه العملية على ثلاثة اشكال، الاول تمثل في محاولة الدولة صناعة وقائع تأريخية وفرضها على هذه المكونات، وتمثل الشكل الثاني في تقبل الدولة بشكل ظاهري للموروث الثقافي للجماعات المختلفة وسعيها في الوقت نفسه لأثبات عدم توافق هذه الثقافات مع العصر وعدم صلاحيتها لأن تكون جزءاً من الحياة اليومية للمجتمع ويمكن ان تقتصر مظاهرها على المناسبات والاعياد الدينية او القومية، واتخذ الشكل الثالث تجاهل الدولة للثقافات والوقائع التاريخية التي تعدّها ضارة وتتقاطع مع رؤيتها وتصوراتها، مع عدم الاشارة اليها في الوثائق الرسمية للافراد، وبهذه الاساليب تؤدي استخدامات الذاكرة التاريخية الى تعزيز مشاعر الشك وانعدام الثقة بين الجماعات الاجتماعية المختلفة في المجتمعات التعددية، وانعدام التواصل الثقافي المتبادل بينها فضلا عن تراجع الشعور بالمواطنة وتقسيم المجتمع وتبعثره الى مجموعات عرقية ودينية وطائفية واثنية، وهذا لا يكوّن هوية وطنية تعلو الهويات الفرعية في هذه البلدان.
في المجتمعات الديمقراطية، الذاكرة التأريخية للمجتمعات تتم صياغتها لتكون حافزاً للتشجيع على الاندماج الاجتماعي والثقافي والتكامل السياسي وتعزيز المشاركة السياسية، ولاتحتاج الدولة الى تهميش او إلغاء ثقافات الجماعات المختلفة في عملية تفسيرها وتصويرها للماضي، بينما تتعامل الانظمة التسلطية مع الذاكرة التاريخية بأسلوب فرض رؤيتها عن طريق الهيمنة واهمال وتجاهل الثقافات الفرعية، او التقليل من شأنها، ويؤدي هذا التوظيف السلبي الى ترسيخ الحواجز الثقافية بين مكونات المجتمع التعددي ويقود ذلك الى الانغلاق وانعدام التواصل والتفاعل بين الثقافات المختلفة في المجتمع وينعكس ذلك سلباً على وحدة المجتمع وتماسكه.
في العراق، صاحبت المصاعب والازمات وعدم الاستقرار عملية تشكيل وبناء الدولة العراقية منذ عام 1921، وكان المجتمع العراقي يعود الى نقطة البداية بعد كل أزمة كبرى تعصف به وبكيان الدولة، ويبدأ الحديث عن عملية إعادة البناء السياسي وكأن المجتمع لم يعرف وجوداً للدولة والقانون، ومن العوامل الرئيسة المسببة لهذه الظاهرة غياب فكرة الدولة والذاكرة التاريخية بوصفها قاعدة تأسيسية للهوية الجماعية فضلاً عن عنف السلطة الذي جمع بين البعد المادي للعنف وبين البعد المعنوي الثقافي عبر سعي الطبقة السياسية لتطويع الذاكرة التاريخية وفرضها بالقسر والهيمنة.
ان واقع الحياة السياسية في العراق خاصة بعد 2003 يشير الى عدم الاستقرار في عملية بناء الدولة، وعدم القدرة على تجاوز نمط تشكيل السلطة على أساس الهيمنة وانعدام المشاركة بسبب العقلية الاجتماعية التقليدية فنشأت حالة انعدام الثقة بين مكونات المجتمع العراقي فيما بينها، وبين المجتمع والسلطة الحاكمة ولم يتحقق الاندماج الاجتماعي لعدم وجود حس مشترك بالانتماء الى هوية جماعية ومجتمع سياسي موحد، وتعود جذور عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي الى تنازع مبدأين على هوية المجتمع السياسي العراقي: المبدأ والرؤية القومية العروبية التي تستند الى ذاكرة ترتبط بماضي التاريخ العربي الإسلامي والرؤية القطرية التي بحثت عن وقائعها التاريخية التأسيسية في حضارات العراق القديمة وفي التراث العربي الاسلامي دون ان تعطي للاخير الارجحية على التراث العراقي القديم فنشأ التحدي والصراع بين الرؤيتين، وقد أدى سعي الحكومات العراقية المتعاقبة الى فرض الرؤية القومية العروبية على مكونات المجتمع واغفال حقيقة تعدديته واخضاع الثقافة لهيمنة الدولة خاصة بعد عام 1968 الى عنف ثقافي جسده سعي السلطة لتطويع الذاكرة التاريخية وشكل العنف الثقافي امتداداً لعنف السلطة المادي.
ان الذاكرة التاريخية الجماعية للمجتمع العراقي، يمكن تطويرها عبر الوقائع التاريخية الحقيقية ذات الصلة بالموروث الثقافي، ويقع هذا على عاتق مؤسسات التربية والتعليم في الدولة، حيث توفر للمجتمع البيئة والقدرة للتوصل الى تصورات مشتركة حول التاريخ والمجتمع وهويته من خلال صياغة وتبني مجموعة متنوعة من الوقائع والتصورات والانشطة المستوحاة من ثقافات مكونات المجتمع لتعميم ونشر نوع من التفكير الموحد الذي يفضي الى الاندماج الاجتماعي والتكامل السياسي.
وتواجه الدولة العراقية تحدياً يتعلق بتكوين شعور مشترك تلتقي فيه مكونات المجتمع، ويجب ان يتوصل الافراد وبقناعة الى الاقرار بوجودهم في وطن يجمعهم في اطار هوية موحدة تحدد انتمائهم له فالمجتمع العراقي بحاجة الى هوية وطنية عامة تشكل المرجعية للمجتمع والدولة وقد أدت سلوكيات الحكومات المتعاقبة واخطائها في تجاهل حقيقة تنوع وتعددية المجتمع الى سيادة الولاءآت والانتماءآت الفرعية في عقلية كل مكون من مكونات المجتمع العراقي، وترسخ الشعور بالغربة بين الجماعات الاجتماعية على نحو كرس الاختلافات وجعل من المجتمع والدولة كياناً هشاً.
وهنا يأتي واجب المؤسسات التربوية والتعليمية والجامعات بشكل خاص في وضع الحلول والمعالجات عبر التربية والتنشئة والتثقيف لغرس قيم ثقافية تقوم على قبول الآخر فالتعصب الفكري والطائفي والعنصري يولد التشدد ويؤدي الى العزلة بين الجماعات عندما لا توجد محددات لسلوكيات الافراد وتوجهاتهم، والجامعات بوصفها مؤسسات علمية معنية بالتنشئة يجب ان لا تكون بعيدة عن مشاكل المجتمع ومكامن الوهن في بنيته، وسيكون لسلوك الطالب المكتسب في الجامعة انعكاس وتأثير في محيطه الاسري وضمن الجماعة التي ينتمي اليها ويتحول هذا السلوك مع مرور الزمن الى سلوك مجتمعي سائد بالتدريج فالجامعات والمؤسسات التربوية والتعليمية الاخرى مراكز اندماج للتوجهات والقيم والافكار والتصورات وهي من عوامل تنمية الترابط بين مكونات المجتمع بما يؤدي الى تلاحمها واندماجها في كيان اجتماعي سياسي واحد يكون الولاء فيه للدولة على حساب الولاءآت الفرعية.
ويبرز هنا دور الدولة في تحديد نوع التعليم المطلوب والغايات التي يراد منه تحقيقها واي السبل تؤدي الى تلك الغايات وتحديد الأولويات لكي يوظف التعليم لتلبية متطلبات المجتمع والدولة فهو اهم روافد ومرتكزات بناء الفرد المواطن والمجتمع والدولة.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن