في ذكرى مئوية ثورة أكتوبر1917-إنقاذ الإستعمار للنظام الرأسمالي-

رابح لونيسي
lounici.rabah2008@yahoo.fr

2017 / 11 / 6

تمهيد
يعيش العالم اليوم على وقع الذكرى المئوية لثورة أكتوبر الإشتراكية 1917 التي فشلت في تحقيق حلم الإنسانية في إقامة مجتمع عالمي عادل وخال من الطبقات، فقد تعددت التفسيرات لهذا الفشل، ومنها القائلة بأنها أنحرفت عن الطرح الماركسي الأصيل القائل بضرورة وجود أرضية صناعية كبيرة لإنتصار الشيوعية، وأن روسيا لم تكن كذلك، كما يرى آخرون بأن ما طبق في الإتحاد السوفياتي هي الستالينية التي لم تسمح بالحريات والديمقراطية، مما أدى إلى ميلاد برجوازية بيروقراطية إستغلالية من صفوف رجالات الحزب والإدارة، وهو ما يذهب إليه التروتسكيون، كما نجد إلى جانب هؤلاء أصحاب مجلة "إشتراكية أوبربارية" في نهاية الأربعينيات بقيادة اليوناني كاستروياديس الذي أنتبه آنذاك لبذور نمو طبقة البرجوازية البيروقراطية في الإتحاد السوفياتي.
نحن لاننفي هذه الأسباب في فشل ثورة أكتوبر الإشتراكية، لكن نعتقد أن للعامل الإستعماري دور كبير في إستمرار الرأسمالية، كما سنبين ذلك من خلال تتبع آليات إستمراريتها وتكيفها.



أولا-آليات الإستمرار والتوسع في النظام الرأسمالي وإنعكاساته
كان الإستغلال الرأسمالي البشع في أوروبا وراء ظهور حركات إجتماعية وبروز الأفكار الإشتراكية التي بدأت طوباوية على يد سان سيمون وفورييه وغيرهما، لتتخذ فيما بعد شكلا راديكاليا على يد كل من كارل مارس وفردريك أنجلس اللذان أصبحا يتحدثان عن إشتراكية علمية تعمل من أجل تقويض أركان النظام الرأسمالي، وأنتشرت بقوة هذه الأفكار في صفوف الطبقة الشغيلة والكادحين مدعمة بتزايد التناقض الطبقي الحاد بين الطبقة البرجوازية والبروليتاريا، لكن يبدو أن طبقة البرجوازية عرفت كيف تواجه ذلك بأسلوب ذكي وبآليات أنقذت النظام الرأسمالي من السقوط، بل وأكثر من ذلك أعطت رفاهية حتى للبروليتاري والكادح، وقوضت في المهد الطرح الماركسي القائل بأن الرأسمالية ستظهر في البلد الأكثر تقدما في المجال الصناعي أي أنجلترا، فما هي هذه الآليات التي أنقذت النظام الرأسمالي من الغضب الإجتماعي، ونجحت في إزدياد الرفاهية الإقتصادية للإنسان الغربي بمافيه الطبقة الكادحة مقابل إسقاط المعسكر الإشتراكي وتقويض أيديولوجيته الماركسية فيما بعد ؟ .
يمكن لنا القول أن للرأسمالية قدرة فائقة على التكيف وخلق آليات الإستمرارية والتوسع، وهناك عدة عوامل وراء إستمراريتها، ويأتي على رأسها لجوء البلدان الرأسمالية إلى إستعمار البلدان المتخلفة، ولم يكن الهدف من الإستعمار هو فقط البحث عن المواد الأولية ومناطق للإستثمار والأيدي العاملة الرخيصة والأسواق لتصريف منتجاتها، بل كان الإستعمار وسيلة لتحسين الظروف المعيشية المزرية للطبقات الكادحة في أوروبا والحد من الغضب الإجتماعي الذي سيؤدي حتما إلى ثورات إجتماعية ضد النظام الرأسمالي ولصالح الأفكار الإشتراكية الجديدة .
ولم يخف الكثير من دعاة الإستعمار ومنظريه في القرن 19م علاقة دعوتهم بإنقاذ دولهم من ثورات إجتماعية، فيقول المنظر الإستعماري الأنجليزي سيسل رودس عام 1895 "كنت بالأمس بلا يست أند )وهوحي العمال في لندن(، وحضرت إجتماعا من إجتماعات العمال العاطلين، وقد سمعت هناك خطابات فظيعة كانت من أولها إلى آخرها صرخات الخبز ! الخبز !، وأثناء عودتي إلى البيت كنت أفكر بما رأيت، وتبينت أوضح من السابق أهمية الإستعمار...وأن الفكرة التي أصبو إليها هي حل المسألة الإجتماعية، أعني لكي ننقذ أربعين مليونا من سكان المملكة المتحدة من حرب أهلية مهلكة، ينبغي علينا نحن الساسة طلاب المستعمرات أن نستولي على آراض جديدة لنرسل إليها فائض السكان، ولنقتني ميادين جديدة لتصريف البضائع التي تنتجها المصانع والمناجم، فالأمبرطورية وقد قلت مرارا هي مسألة البطون، فإذا كنتم لا تريدون حربا أهلية ينبغي عليكم أن تصبحوا إستعماريين".
أما الكاتب الفرنسي فاهل Wahl فيرى أن الإستعمار كان " نتيجة إشتداد تعقد الحياة والصعوبات، التي لا تضغط على جماهير العمال وحسب، بل وعلى الطبقات الوسطى، يتراكم في جميع بلدان المدنية القديمة الضجر والأحقاد مهددة الأمن العام، وطاقة خارجة عن مجراها الطبقي...ينبغي حبسها لإستخدامها في الخارج كي لا تتفجر في الداخل"، ونجد نفس الطرح لدى المدافعين عن الإستعمار الفرنسي للجزائر مثل الشاعر لامارتين ودي طوكفيل وغيرهم .
فقد حول الإستعمار البلدان المستعمرة إلى أكبر خادمة ومنقذة للإقتصاد الرأسمالي العالمي من خلال عدة آليات وأساليب، وتتمثل في:
1-نهب ثروات المستعمرات: لا يمكن لأحد أن ينكر عمليات النهب الكبيرة التي تعرضت لها ثروات المستعمرات، فمثلا أخذت بريطانيا من الهند أثناء الحرب العالمية الأولى ما قيمته 217 مليون جنيه أسترليني من المواد الخام والغذاء فقط، وقال الإقتصادي لورد كينز في كلمة ألقاها في مؤتمر بريتون وودز عام 1945 "أننا لشاكرون لهؤلاء الحلفاء، وعلى الأخص أصدقاؤنا الهنود الذين وضعوا تحت تصرفنا مواردهم بدون تقتير، وارتضوا لأنفسهم الحرمان من أجل ذلك، إن جهدنا الحربي كان يصيبه الإرتباك لدرجة جدية، بل ربما لدرجة خطيرة، لو أنهم أحجموا عن معاونتنا معاونة صادقة وعلى نطاق واسع" .
2-تحقيق أرباحا ضخمة جدا من خلال الإستثمار في الصناعات الإستخراجية، فمثلا جمع الملك البلجيكي ليوبولد الثاني مامقداره 30 مليون دولار كأرباح على الإستثمار في إستخراج المطاط والعاج في الكونغو، وجنت بريطانيا أرباحا قدرت ب129 مليون جنيه أسترليني سنويا من جراء إستثمارها قيمة 840 مليون جنيه أسترليني في الصناعات الإستخراجية في جنوب أفريقيا عام 1955.
3-دفع أجور زهيدة جدا لعمال المستعمرات مقارنة بالعمال الأوروبيين: فمثلا العمال المغاربة والجزائريون يأخذون أجرا لا يتجاوز على أقصى تقدير 25% من أجر الأوروبي، ولا يتجاوز أجر العامل النيجيري شلن واحد في اليوم وهو ما يقابل أجرة ساعة للأوروبي .
4-التبادل غير المتكافيء من جراء التقسيم الدولي للعمل: قام الإستعمار بالتقسيم الدولي للعمل، حيث فرض على البلدان المستعمرة إستخراج المواد الأولية وإنتاج المحاصيل الزراعية النقدية مقابل تحويل البدان الإستعمارية لهذه المواد إلى سلع أو مواد مصنعة، وهذا ما أدى إلى مايسمى بالتبادل الغير متكافيء، حيث يبيع العالم الثالث مواده الإستخراجية والزراعية بأسعار بخسة مقابل شراء مواد مصنعة بأسعار عالية، ومما يدل على إختلال التوازن يوما بعد يوم بين أسعار المواد الأولية والمواد المصنعة، نجد مثلا أن الإنسان من العالم الثالث يشتري سيارة جيب ب14 كيس من البن في عام 1954، ويشتري نفس السلعة في عام 1962 ب39 كيس من البن، ويقول بيير جاليPierre Jalée أن العالم الثالث قد خسر ما بين عامي 1954 و 1965 نسبة 19 % من تبادله مع العالم المتقدم، ولهذا يجب عليه كي يشتري عام 1965 على نفس سلعة عام 1954 عليه أن يبيع نفس كمية المواد الأولية التي باعها عام 1954 ويضيف لها نسبة 19% من الكمية المباعة عام 1954، وكان هذا التقسيم الدولي المجحف وما أنجر عنه هو الذي دفع الرئيس الجزائري هواري بومدين بصفته ممثلا لحركة عدم الإنحياز يطالب في خطاب له أمام الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة عام 1974 بإعادة النظر في النظام الإقتصادي العالمي قائلا بأن هذا النظام قد وضعه الإستعمار في غياب عالم الجنوب أي العالم الثالث الذي كان مستعمرا.
وقد أختلفت النظريات المفسرة لهذا التبادل الغير متكافيء بين العالم الثالث والعالم المتقدم، إلا أنها تكاد تجمع على أن سببها الرئيسي هو هذا التقسيم الدولي للعمل وربط الإستعمار لإقتصاديات البلدان المستعمرة بالغرب الرأسمالي، فلابنز مثلا يقول بأن البلدان المصنعة تملك سوقها الخاص وإقتصادها متمركز حول الذات، أي هي التي تتحكم فيه، لكن البلدان المصدرة للمواد الأولية تابعة للسوق الخارجية ومحرك إنتاج هذه المواد هو الخارج، أي حاجة الصناعة الغربية، وهو ما يدفع بلدان العالم الثالث إلى التهميش الإقتصادي في الكثير من الأحيان خاصة في حالة عدم حاجة هذا الغرب الرأسمالي إلى هذه المواد الأولية، وهو ما يطلق عليه الكثير من الإقتصاديين بالتبعية الإقتصادية للغرب الراسمالي .
ويذهب رمزي زكي إلى نفس الطرح تقريبا بقوله "أن الشطر الأعظم من التجارة الخارجية للدول الرأسمالية يتم بينها، إلا أن غالبية تجارة البلاد المتخلفة تصديرا وإستيراد لا تتم بينها، وإنما مع البلاد الراسمالية الصناعية، ودلالة هذا الإختلال في التوزيع الجغرافي للتجارة الخارجية للبلاد المتخلفة، هو أن تلك البلاد ترسف في أغلال التبعية للمراكز الرأسمالية الصناعية، حيث تتأثر صادراتها بشكل محسوس تبعا لحالة الدورة الإقتصادية بهذه المراكز".
أما ألجيري إيمانويلAlghiri Emmanuel فيذهب أعمق من ذلك إذ يقول "في لحظة من لحظات مسيرتها وجدت الرأسمالية في طريقها الإنسان المتخلف الذي خرج منذ عهد قريب من العصر القبلي من ناحية حاجاته، لكنه في نفس الوقت له عشر أصابع وذراعان مثل الإنسان المتقدم، وله نفس العقل ويفكر مثله، فمن خلال الفرق بين طاقة الإنسان المتخلف في إستعمال الآلات الحديثة وفي نفس الوقت ليس له حاجات هذا العصر، تأتي الأرباح من التبادل اللامتكافيء للعالم المتقدم"، وشرح كارلوس روميو هذه الفقرة بقوله" أن التبادل اللامتكافيء يتلخص في مقايضة بين كمية قليلة من العمل ذات أجر مرتفع )أي سلعة العالم المصنع( مقابل كمية كبيرة من العمل ذات أجر منخفض )أي سلعة العالم الثالث( " .

يتبين لنا مما سبق أن العامل الإستعماري هو العامل الرئيسي الذي كان وراء تحسين المستوى المعيشي لكل سكان البلدان الإستعمارية بما فيها الطبقة المحرومة منهم الذين كانوا يهددون النظام الراسمالي الغربي، فبفضل الإستعمار تمكن الرأسمالي من نقل نهبه وإستغلاله لعمال بلده إلى نهب وإستغلال ثروات وعرق عمل الشعوب المستعمرة، ثم يعيد توزيع جزء من منتوج العمل الإجتماعي الكلي للمستعمرات على طبقات العمال في الغرب على شكل خدمات إجتماعية وأجور عالية، وبتعبير بسيط كان الرأسمالي الغربي يوزع جزءا مما نهبه من المستعمرات على البروليتاري والمحروم في البلاد الإستعمارية، وعادة ما كان يتم ذلك تحت ضغط النقابات العمالية، وقد حافظ هذا التوزيع على نوع من الإستقرار والتوازن الإجتماعي في هذه البلدان، لكن السؤال المطروح هو كيف أستطاعت هذه البلدان الرأسمالية الكبرى الحفاظ على هذه الرفاهية رغم خروجها من البلدان المستعمرة فيما بعد ؟ .
قد استعمل الغرب الرأسمالي عدة آليات لإبقاء نهبه وإستغلاله للعالم المتخلف، ومنها تنصيب القوى الإستعمارية في العديد من مستعمراتها التي أستقلت حديثا أنظمة موالية لها وفي خدمتها، كما نشرت النمط الإستهلاكي الغربي بنشر الثقافة الغربية بواسطة وسائل الإعلام التي يسيطر عليها، مما يؤدي إلى إبقاء أسواق العالم الثالث مفتوحة أمام إنتاج الغرب الرأسمالي، مما يشجع على نمو قوى الإنتاج وإستمرارية الإنتاج في الدوران وتحقيق الرأسمالي لأرباح كبيرة جدا .
وقد ساهم إنتشار النمط الإستهلاكي الغربي في بلدان العالم الثالث في إنخفاض وضعف معدلات الإدخار في هذه البلدان بفعل الإنفاق الكبير على شراء السلع الإستهلاكية الغربية وتلبية حاجات السوق المحلية، وقد ضخم هذا الإنخفاض التبادل اللامتكافيء حيث تبيع هذه البلدان موادا أولية بأسعار بخسة مقابل شرائها موادا مصنعة بأسعار عالية بسبب تحكم الغرب في التجارة الدولية والتقسيم الدولي للعمل الذي فرضه في القرن 19م كما سبق أن أشرنا إلى ذلك آنفا، كما ضاعف هذا الضعف الإنفاق الأمني والعسكري بسبب الصراع حول السلطة في هذه البلدان والحروب الحدودية التي عادة ما تغذيها البلدان الإستعمارية السابقة التي خلقت بعد خروجها مشاكل حدودية التي تحولت إلى قنابل موقوتة، وتساهم هذه الصراعات والحروب بشكل كبير في تمويل الصناعات العسكرية في البلدان الغربية، فالحروب آلة من آلات تقوية الرأسمالي في الغرب، لأن ما يتنساه الكثير هو أن أغلب الصناعات في الغرب هي صناعات عسكرية، وتشغل هذه الصناعات حوالي 200 مليون عامل، كما أن 40% من الإنتاج الصناعي الأمريكي هو في المجال العسكري، كل هذا دون أن نغفل الأرباح الضخمة التي تعود على الشركات الرأسمالية الغربية من جراء مساهمتها في إعادة تعمير البلاد التي خربتها الحروب .
إن ضعف معدلات الإدخار في العالم الثالث دفعت إلى طرح مشكلة تمويل الإستثمار بحدة في هذه البلدان، فجاء الحل بتدبير إقتصادي رأسمالي غربي يتمثل في" مضاعفة الصادرات وزيادة المساعدات والقروض التي تقدمها البلدان المتطورة، وكبح نمو السكان"، لكن ثبت لدى الكثير فيما بعد زيف هذا الحل وخطأه، مما جعل أ.م.بايو وزير الشؤون الإقتصادية وتخطيط التنمية في تنزانيا الستينيات يعلق حول هذه الوصفة بقوله "أننا أتبعنا هذه الوصفة بدقة رغم أن الواقع أثبت خطأها فكم نحن بحاجة إلى إستئصال الإستعمار الفكري طالما أن تلك الوصفة لا تتفق مع ما هو بديهي، ولا مع علم إقتصاد سديد، ولا مع خبرتنا الذاتية" .
كما كان ضعف الإدخار وراء لجوء دول العالم الثالث إلى الإستدانة، لكنها اكتشفت هذه الدول بعد سنوات أنها وقعت في فك الأفعى المالية العالمية، وبأن المؤسسات المالية العالمية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ما هي في الحقيقة إلا أدوات في يد القوى الإستعمارية القديمة والجديدة لمواصلة نهبها القديم للشعوب التي أستعمرتها من قبل، فبعد ما وقعت بلدان العالم الثالث في مشكلة الديون وجدت نفسها أنها غير قادرة على دفع الديون وخدمات الديون المرتفعة جدا، إلا إذا اضطرت إلى تكثيف صادراتها من المواد الأولية أو الزراعية التي تخصصت فيها من قبل بفعل التقسيم الدولي للعمل الذي وضعه الإستعمار في القرن 19م .
وبهذا الشكل حققت القوى الرأسمالية الكبرى وحافظت على نفس الأهداف التي سعى إليها الإستعمار في القرن 19م، ومنها ضمان المواد الأولية الضرورية لصناعاتها بأسعار بخسة، كما أن الكثير من عائدات المواد الأولية تعود إلى الغرب الرأسمالي بطرق وأساليب عدة، ومنها حرص الكثير من الأنظمة الحاكمة في بلدان العالم الثالث على تلبية حاجيات السوق المحلية بفعل النمط الإستهلاكي الغربي الذي توسع إنتشاره بقوة خاصة في صفوف الطبقات العليا من المجتمع، بالإضافة إلى حاجة الأنظمة لشراء الأسلحة الغربية لمواجهة أعداء الخارج والداخل، وهذه العملية هي التي يسميها بعض الإقتصاديين بعملية "تدوير الدولار"، أي بمعنى أن أموال عائدات المواد الأولية والطاقوية تعود إلى الغرب التي أتت منه على خدمات ديون وشراء أسلحة وسلع إستهلاكية .
ويصل الأمر في الكثير من الأحيان أن البلدان المدينة نفسها عاجزة تماما على دفع خدمات ديونها، فتضطر إلى إعادة جدولة الديون لتأجيل الإنفجار الإجتماعي مؤقتا، وهي تدرك جيدا أن هذه العملية ماهي في الحقيقة إلا فخا "معد بشكل محكم لإصطياد الفرائس التي تطلب إعادة الجدولة وإخضاعها بالقوة لحظيرة الهيمنة المباشرة للدائنين لضمان تسديد الديون وإملاء الشروط والضوابط التي تكفل مصالحهم حاليا ومستقبلا من خلال ما يسمى بعملية التكييف"، وهو ما يظهر بجلاء من خلال عدة مطالب من الدول المدينة، ومنها تحرير التجارة وفتح السوق بدون شروط أمام السلع الغربية وتخفيض دعم الأسعار وتسريح العمال وتوجيه الإستثمارات بقوة نحو الصناعات الإستخراجية مثل المحروقات والمواد الأولية، والهدف من هذا كله ليس فقط هو "ضمان تسديد ديونها ، بل ولضمان بقائها خاضعة لشروط عمل الرأسمالية على النطاق العالمي وتشديد إستغلالها وزيادة إنفتاحها".

يتبين لنا مما سبق أن آليات الرأسمالية حققت نفس أهداف الإستعمار التقليدي كنهب ثروات شعوب العالم الثالث بشرائها بأسعار زهيدة، وتوسيع السوق لتصريف فائض إنتاجها، وإيجاد مناطق للإستثمار في الصناعات الإستخراجية، ومن وراء هذا كله إستمرار النظام الرأسمالي بفعل الحفاظ على رفاهية الإنسان الغربي بما فيه البروليتاري بفعل إستغلال عرق جبين الشعوب المستعمرة في الماضي بشكل مباشر وشعوب العالم الثالث اليوم بشكل غير مباشر من خلال عدة آليات سبق لنا أن ذكرناها آنفا .
ويمكن الذهاب أبعد من ذلك، فنقول أن هذه الآليات الرأسمالية هي أيضا أحد الأسباب الرئيسية في نظرنا لإنهيار المعسكر الشيوعي أمام المعسكر الغربي عام 1989، لأن الغرب الرأسمالي، وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية لجأ إلى السباق نحو التسلح لدفع الإتحاد السوفياتي إلى مجاراته في ذلك، فيضطر إلى إنفاق أموالا ضخمة على التسلح للحفاظ على التوازن العسكري بينه وبين الغرب، لكن الفرق بين الغرب الرأسمالي والشرق الشيوعي الذي يخفيه الكثير من المفكرين الغربيين هو أن هذا الإتحاد السوفياتي ومعه الشرق الشيوعي كان ينتزع الأموال من عرق شعوبه وكدحها، على عكس الغرب الرأسمالي الذي كان يأخذها من عرق شعوب العالم الثالث، ولهذا فليس سبب الإنتصار الغربي يعود إلى قوة ونجاعة النظام الرأسمالي بل إلى الإستعمار ثم آليات الرأسمالية لإستمرار ثم إستغلال بلدان العالم الثالث التي ذكرناها آنفا، وهو نفس التفسير الذي ينطبق على إستمرار رفاهية الشعوب الغربية .
وبتعبير ملخص نقول أن آليات الإستغلال الرأسمالي منذ إكتشاف العالم الجديد وتجارة الرقيق مرورا بالإستعمار الحديث في القرن 19م ثم شروط صندوق النقد الدولي هي وراء ما يلاحظ اليوم من إستهلاك 20% فقط من سكان العالم ل80% من الإنتاج العالمي .


لكن إن كان العامل الإستعماري وإنعكاساته عاملا رئيسيا في الحفاظ على رفاهية الغرب وتقدمه، إلا أنه لا يمكن لنا أن نغفل عن عوامل أخرى ومنها:
- قبول الأحزاب الاشتراكية الممارسة السياسية في إطار الديمقراطية البرجوازية واحترام أسس النظام الرأسمالي، مما حول قيادات هذه الأحزاب إلى طبقة برجوازية منفصلة عن الجماهير الشعبية، وأصبحت تلعب دورا تخديريا في حق الجماهير العمالية بدل أن تشكل قوة سياسية وثقافية تكشف عن مدى الإستغلال الغير المباشر الذي تتعرض له هذه الطبقات .
- مساهمة النقابات العمالية بضغوطها من أجل تحسن الظروف المعيشية للبروليتاريا.
- الكينزية: التي ظهرت بعد الأزمة الاقتصادية في عام 1929 والتي وضعها الاقتصادي الإنجليزي جون ماينرد كينز، والتي تقول بأنه في حالة ركود اقتصادي لابد من رفع القدرة الشرائية للمواطن لكي يمتص فائض الإنتاج. وفي حالة العكس على الدولة تخفيض الإنفاق الحكومي، وبهذا الشكل أصبحت الدولة تتدخل في الشؤون الاقتصادية لدعم القدرة الشرائية بشكل، أو بآخر بهدف إستمرارية آلة الإنتاج وعدم الوقوع في الأزمات الدورية للرأسمالية. ونشير إلى أن الرأسماليين في الولايات المتحدة الأمريكية كانوا يرفضون تطبيق هذا المبدأ، فلم يطبق إلا في الصناعات العسكرية التابعة للدولة، فأصبح الإنتاج الصناعي العسكري وسيلة مهمة لامتصاص البطالة ورفع القدرة الشرائية للمواطن، هذا ما يدفعنا إلى التساؤل عن دور هذه الصناعات العسكرية في قيام الحرب العالمية الثانية. وهذه القضية تبين لنا أن الرأسمالية تهدد السلام العالمي لأنها بحاجة دائما إلى الحروب التي تسمح لها بتصريف فائض الإنتاج العسكري، وهذا ما يناقض ما يقوله البعض من أن الرأسمالية تحتاج إلى السلام الضروري للاستثمار،
- ظهور المعسكرالشيوعي: الذي أعطى دعما غير مباشر للنظام الرأسمالي لأن الرأسمالية تبحث دائما عن عدو كتحد لها. والهدف من خلق عدو حقيقي أو وهمي هو توحيد صفوف القوى الرأسمالية ودعم قوى الإنتاج وخاصة العسكرية، بالإضافة إلى إستخدام الخطر الشيوعي السوفياتي كأداة لتخويف الطبقات الكادحة من محاولات سوفياتية لإحتلال بلدانهم وأن الخطر السوفياتي لا يختلف عن الخطر النازي، فتحيي بذلك وسائل الإعلام والمثقفين التابعين للطبقة البرجوازية ومختلف أدواتهم الأيديولوجية النزعات القومية والدينية في صفوف العمال وبأن الشيوعية تهددها، وتصل إلى درجة وصف كل المدافعين عن مصالح الطبقات الشغيلة بأنهم عملاء للإتحاد السوفياتي، ولعل هذا العامل وراء ظهور ما يعرف بالشيوعية الأوروبية المستقلة بل المناهظه للشيوعية السوفياتية، وهذا هو ما أدركه أنطونيو غرامشي عندما أشار إلى الهيمنة الثقافية في الدولة وضرورة مواجهتها بالمثقفين العضويين الذين يتلخص دورهم في كشف زيف طروحات الآلة الأيديولوجية والثقافية للطبقة البرجوازية، وقد استفاد غرامشي مما رآه من إستغلال النازية والفاشية للنزعات القومية والدينية الكامنة لدى الطبقات العاملة لإضعاف الحركات الماركسية وتوحيد كل الطبقات المستغلة والمستغلة في صف واحد .
وكلما خف الخطر ضد الرأسمالية برز إلى السطح التنافس والصراع بين القوى الرأسمالية نفسها حول الأسواق والثروات ومناطق الاستثمار، مثلما يظهر بشكل حاد التناقص داخل الطبقة الرأسمالية نفسها، وهو المتمثل بين الرأسمالي الصناعي والرأسمالي المالي المتحكم فيه من خلال سيطرته على البنوك. ويبدو لنا اليوم أن الخوف من انفجار الغرب الرأسمالي من الداخل بعد انهيار المعسكر الشيوعي هو الذي يختفي وراء تركيز الإعلام الغربي على خلق خطر وهمي وهو "الخطر الإسلامي"، وتخويف الطبقات المستغلة بهذا الخطر ودفعها إلى نوع من العنصرية والكراهية ضد الحضارات الأخرى هو أحد العوامل التي تبقي على الإستغلال الرأسمالي الناعم لهؤلاء الكادحين .

لكن إذا كان هذا كله ينطبق على أوروبا، أما بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية فإن من العوامل التي تختفي وراء إستمرارية النظام الرأسمالي نذكر تحسين المستوى المعيشي للعمال الناتج عن ما يسميه أنطونيو غرامشي بالتنظيم الفوردي للإنتاج الذي رافقته أجورا مرتفعة جدا وأخلقة الحياة الخاصة للعامل، وذلك بهدف تحسين الإنتاج كما وكيفا، لكن ما طرحه غرامشي يناقضه اليوم الحقيقة المتمثلة في الإقتصاد الصيني، فبعد الإصلاحات الإقتصادية الصينية في التسعينيات من القرن الماضي، والتي أدت إلى ماعرف ب"إشتراكية السوق الصينية" التي جلبت إستثمارات أجنبية ضخة بسبب العمالة الصينية الرخيصة، والقمع الذي يمكن أن تتعرض لها هذه العمالة في حالة الإحتجاج بسبب الحفاظ على النظام السياسي الشمولي قد أعطى ضمانات كبرى لهذه الشركات الرأسمالية العالمية، وهو ما أدى إلى حركة رؤوس أموال للإستثمار من المركز الرأسمالي التقليدي إلى مناطق أخرى، ويأتي على رأسها الصين بفعل العمالة الرخيصة، وبتعبير آخر إنتقال المركز الراسمالي إلى الصين وإعادة نفس تجربة القرن التاسع عشر في أوروبا بدفع أجور زهيدة للعمال بدل الأجور المرتفعة في كل من أوروبا وأمريكا الشمالية، لكن أدى ذلك كله إلى غزو السلع الصينية الرخيصة للأسواق العالمية مما أدى فيما بعد إلى كساد إقتصادي وتأثير سلبي على الإنتاج الرأسمالي في أوروبا وأمريكا الشمالية وبروز بطالة في هاتين المنطقتين .
فقد أدى زيادة الإنتاج بدوره إلى فائض في الإنتاج، مما يؤدي بدوره إلى الكساد الإقتصادي، وبتعبير آخر نشوء الأزمات الدورية للرأسمالية، وهو ما يفسر به البعض اليوم دخول العالم في أزمة مالية لأن البنوك لم تجد في حقيقة الأمر لمن تقرض الأموال بسبب الكساد ونقص الإستثمار في القطاعات الصناعية المنتجة، فوجدت حريتها في إقراض الأموال للمستثمرين في إقتصاد الخدمات بدل الإقتصاد المنتج وللمضاربين في العقارات وغيرها، مما أدى بدوره إلى عجز هؤلاء المقرضين تسديد ديونهم مما أدى إلى إفلاس البنوك، وهذا الإفلاس سيؤثر بدوره على الإقتصاد المنتج كلية، مما يولد إنكماشا وبطالة وغيرها من الإنعكاسات، لكن هل فعلا هذا هو التفسير السليم للأزمة المالية العالمية اليوم أم أن هناك تفاسير أخرى ؟ .
عادة ما يفسر المثقف والإقتصادي المدافع عن سلامة النظام الرأسمالي عن هذا الطرح ويضيف إليه التأثير الصيني التي أغرقت السوق بالسلع الرخيصة نتيجة للعمالة الرخيصة الصينية التي أدت بدورها إلى جلب الإستثمارات الغربية، لكن يحمل هذا المثقف المسؤولية للمضاربين بدل القول أن الخلل يكمن في النظام الرأسمالي ذاته، بالرغم من أن العودة إلى ماركس يفسر ذلك بكساد السلع والأزمات الدورية للرأسمالية، وهذا ما يطرح أمامنا السيناريوهات المستقبلية لهذه الأزمة المالية العالمية، وتأتي على رأسها عودة الصراع الأيديولوجي من جديد بين أنصار الإقتصاد الرأسمالي الحر وأنصار تدخل الدولة في الإقتصاد .

ثانيا- بعض السيناريوهات المستقبلية على المديين القريب والمتوسط
يمكن أن نصنف هذه السيناريوهات إلى نوعين: تأثيرات على العالم المتقدم وتأثيرات على العالم المتخلف أو الجنوب، ونذكر من ضمنها:
يرى البعض بعودة الصراع الأيديولوجي من جديد بين الرأسماليين والشيوعيين داخل أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، ويعود من جديد طرح غرامشي حول المثقف العضوي الذي سيدافع عن إقتصاد إشتراكي والمثقف البرجوازي الذي سيدافع عن فعالية الإقتصاد اللبيرالي، لكن سيعود الماركسيون بطرح أكثر جدي، ويستفيد من الأخطاء التي وقعت فيها الأنظمة الشيوعية في الشرق الشيوعي، ويطرح إشتراكية إنسانية، تسمح بالديمقراطية والحريات، وهو بتعبير آخر إنتصار للأممية الإشتراكية الثانية التي ستعيد التدخل في المجال الإقتصادي وعدم ترك حرية مطلقة للحياة الإقتصادية كما وقع بعد نهاية الحرب الباردة، ويبدو أن حتى أشد دعاة الإقتصاد الحر سيسيرون في هذا النهج مؤقتا على الأقل، حتى يستعيد الإقتصاد الرأسمالي عافيته، لكن خفي على أصحاب هذا الطرح أن الأزمة المالية ليست هزيمة للنظام الرأسمالي بعمومه، بل هو هزيمة لمدرسة مونت بيلرن، والتي أسسسها كل من كارل بوبر وميلتون فريدمان وفريدريك فون هايك التي نشأت بأحد منتجعات سويسرا، والتي طالبت منذ الثمانينات من القرن العشرين بالعودة إلى المبدأ الرأسمالي القديم الذي دعا إليه آدم سميث، أي إنهاء أي تدخل للدولة في النشاط الإقتصادي، وقد وصل أصحاب هذه المدرسة إلى السلطة في عهد تاتشر وريغان، وأقنعوا الغرب أن هزيمة المعسكر الشيوعي كان بسبب هذه السياسات الريغانية والتاتشرية، وبتعبير آخر عرف هؤلاء كيف يستفيدون من طروحات غرامشي ذاته بتحقيق هيمنة ثقافية أمام تراجع الماركسيين الذين أذهلهم السقوط السريع للمعسكر الشيوعي، كما لا يخفى علينا أن من طبيعة الرأسمالية كما قلنا قدرتها على التكيف بهدف الإستمرارية، حتى ولو كان ذلك بالتخلي مؤقتا على بعض أسسها المبدئية كما وقع مع الأزمة الإقتصادية عام 1929 وظهور الكينزية التي سمحت بالدولة للتدخل في المجال الإقتصادي، خاصة وأن الأمريكيين يتميزون بالبرجماتية وعدم الإنغلاق، وهو ما نلاحظه من خلال طرح كل الحلول التي تخرجهم من هذه الأزمة المالية، ومنها العودة إلى ماركس والإستعانة به، كما ستستعين بشكل آخر بالهجمة الشيوعية الجديدة على الراسمالية لدفع الرأسماليين إلى التكتل من جديد لمواجهة عودة خطر جديد هي الثورات الشيوعية، بل ستضخمها كي يتكتل الرأسماليون بعد ما دب الضعف في صفوفهم بسبب غياب الخطر الشيوعي وفشلهم في خلق خطرا جديدا هو الخطر الإسلامي، ونعتقد أنهم لن يتوانوا في إستخدام النموذج الإقتصادي الصيني، ولو مؤقتا، وذلك بعدم إطلاق تام للسوق الحرة أي إبقاء على نوع من رقابة الدولة على القطاع الإقتصادي وإدخال نوع من المزج بين الحرية والتخطيط الإقتصاديين، كما يمكن أن يقوموا بالضغط على هذا البلد لتخفيض إنتاجها الإقتصادي بإستخدام عدم وجود النفط لديه وإعتماده على نفط بلدان الخليج، وكل ذلك بهدف إعادة إحياء الإستثمارات اٌلإقتصادية في القطاعات المنتجة في الغرب، مما سيعيد للدورة الإقتصادية الرأسمالية الحركية .
أما بالنسبة لعالم الجنوب، فإن تأثيرات هذه الأزمة ستكون وخيمة جدا لعدة أسباب، ومنها تبعيتها الكلية للنفط والمواد الأولية، وسيدفع الكساد الإقتصادي الغربي إلى قلة الطلب على هذه المواد الأولية والطاقوية، مما سيدخل هذه البلدان في أزمات إجتماعية حادة جدا، وقد توقع الدارسون إلى إمكانية وقوع 94 ثورة إجتماعية في هذه البلدان ، ومن بينها بلدان شمال أفريقيا، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى فوضى كبيرة خاصة إذا أنعدمت التنظيمات السياسية التي بإمكانها تأطير هذه الإنتفاضات مثل الجزائر، مما سيؤدي بدوره إلى إندلاع حروب أهلية، ويمكن أن يؤدي ذلك إلى تدخل القوى الغربية الكبرى في هذه الدول لضمان الإستقرار ومواجهة أخطار الهجرات إليها، مما سيجعل هذه البلدان في قبضة القوى الإستعمارية القديمة بشكل أو بآخر، وهو ما سيساهم في حل بعض المشاكل المالية للغرب الرأسمالي .
وإذا أدركت هذه البلدان هذه الأخطار المحدقة بها فبإمكانها العودة إلى فكرة تعاون جنوب-جنوب لحل بعض مشاكلها الإقتصادية قبل فوات الآوان، لكن الأمر مستبعد، كما نستبعد الطرح الذي يقول به البعض بعودة بعض بلدان الجنوب إلى الأفكار الإشتراكية، ويستدلون في ذلك بعودة اليسار إلى بعض بلدان أمريكا اللاتينية، لأن ذلك في حقيقته ما هو إلا هروب من الشعب إلى هذا البديل بسبب بعض المشاكل الإجتماعية، لكن سيثبت فشله في حل هذه المشاكل فيما بعد، بسبب الإرتباط الوثيق لبلدان الجنوب بالمركز الرأسمالي العالمي، ويمكن أن نقول نفس الأمر بالنسبة لبعض شعوب بلدان العالم الإسلامي التي بإمكانها أن تعود التيارات الإسلامية بقوة إلى الساحة، خاصة بعد إستغلال البعض من هذه التيارات هذه الأزمة المالية وتفسيرها إسلاميا، ثم القول أن الإسلام هو البديل، لكن سيكرس ذلك الفوضى والإضطرابات الإجتماعية التي ذكرناعها آنفا أكثر في هذه البلدان .


ثالثا- خطر العولمة الرأسمالية على مستقبل الإنسانية
بانهيار المعسكر الشيوعي في بداية تسعينيات القرن العشرين، شرع العالم يتحدث عن ميلاد نظام عالمي جديد، والذي لم يكن في حقيقة الأمر إلا إعادة هيكلة للنظام الرأسمالي القديم الذي له من العمر أكثر من خمسة قرون، وذهب بعض المستلبين فكريا في العالم الثالث إلى الدعوة إلى عولمة الرأسمالية وضرورة الاندماج في هذا النظام العالمي الرأسمالي، وأخطر من هذا أنهم يوهمون شعوبهم بأن ذلك كفيل بإخراجها من التخلف.
وتكمن غرابة الأمر في هذا التحالف الوثيق بين الرأسماليين وشيوعي الأمس، فهل كل طرف يحاول استغلال الآخر لخدمة أهدافه سواء أكانت اقتصادية أو إيديولوجية؟. ويبدو أن الشيوعيين يعتقدون أنه بإمكان انتصار الشيوعية انطلاقا من بلدان العالم الثالث، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بالمرور على الرأسمالية التي ستدخل هذه الشعوب في الحداثة الغربية من جهة، كما ستنشر الرأسمالية البؤس والفقر والتناقضات مما يسهل نشر الأفكار الشيوعية داخل مجتمعات العالم الثالث مادام "الفقر مستنقع الشيوعية" حسب تعبير الجنرال الأمريكي مارشال في عام 1947، فنتساءل هل شيوعيو اليوم أوفياء للإستراتيجية التي وضعها ماركس في الماضي وهو تشجيع البؤس كوسيلة لانتصار الثورة الشيوعية؟
وللإجابة على ذلك نقرأ جيدا ما كتبه كارل ماركس في ملحق كتابه (بؤس الفلسفة) حول حرية التجارة حيث يقول "ولكن نظام الحماية بشكل عام هو في أيامنا نظام محافظ، بينما نظام التجارة الحرة هو نظام مدمر، إنه يحطم القوميات القديمة؟، ويدفع التضاد بين البروليتاريا والبرجوازية إلى ذروة عليا، وباختصار أن نظام التجارة الحرة يسرع بالثورة الاجتماعية، وبهذا المعنى الثوري وحده أيها السادة أصوت لصالح التجارة الحرة".
أما الرأسماليون فلا يهمهم ما يستهدفه بعض الشيوعيين، مادام ذلك يسمح لهم بملئ جيوبهم وامتصاص كدح الشعوب، مثلما يعلمون جديا مدى قوة الرأسمالية على التكيف والاستمرارية من خلال خلق آليات جديدة للإستغلال.
إن الرأسمالية دخلت مرحلة العولمة بشكل جزئي أثناء المرحلة الاستعمارية، وأخذت بعدا عالميا أكبر بالظهور القوي للشركات المتعددة الجنسيات، فأصبح الرأسمالي لا وطن له، بل نجد شركة واحدة كبرى لها رأسها في واشنطن وفروع لها في كثير من مناطق العالم، بل نجد اليوم منتوجا واحدا تنتج أجزاءه في العديد من مناطق العالم، وقد أصبحت للشركات المتعددة الجنسيات دورا كبيرا في الاقتصاد العالمي بعد الحرب العالمية الثانية وظهور مشروع مارشال في 1947، الذي استهدفت الولايات المتحدة الأمريكية منه ظاهريا إعادة تعمير أوروبا واليابان التي دمرتها الحرب، لكنه في حقيقة الأمر هي وسيلة أمريكية للسيطرة الفعلية على الاقتصاد العالمي، فمثلما كانت إنجلترا تدعو في القرن التاسع عشر إلى حرية التجارة، فإن الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت تدعو اليوم إلى حرية الاستثمار.
إن البروز القوي للشركات المتعددة الجنسيات الأمريكية كان وراء خروج الولايات المتحدة الأمريكية من عزلتها وتخليها عن مبدأ مونرو، ويمكن لنا القول بأن ذلك الخروج هو تطوير وتوسيع لمبدأ مونرو الذي ظهر في بدايات القرن 19م، والذي كان ضد أي تدخل أوروبي في القارة الأمريكية رافعا شعار "أوروبا للأوروبيين وأمريكا للأمريكيين"، بمعنى أن القارة الأمريكية هي المجال الحيوي للولايات المتحدة الأمريكية فهي سوقها ومورد المواد الأولية ومناطق استثماراتها.
لكن بعد الحرب العالمية الثانية فرض التوسع الاقتصادي الأمريكي من خلال شركاتها المتعددة الجنسيات ضرورة توسيع مبدأ مونرو، فظهر مبدأ ترومان في عام 1947، والذي معناه حق الولايات المتحدة الأمريكية في الدفاع عن العالم الحر أي العالم الرأسمالي ضد أي خطر يهدده ومنه الخطر الشيوعي، أما اليوم فقد تطور ذلك إلى ما يسمى بالنظام العالمي الجديد الذي يعطي الحق للولايات المتحدة الأمريكية التدخل في أي منطقة في العالم في حالة تهديد مصالحها أو مصالح المركز الرأسمالي، فيمكن لنا القول أن هذه الدولة أصبحت أداة للدفاع عن مصالح الطبقة البرجوازية العالمية، ولعل القارئ يتساءل: ماذا نقصد بالبرجوازية العالمية؟.
إن في عالم اليوم انتهت البرجوازية الوطنية المتمركزة حو الذات والمتصارعة مع البرجوازيات الوطنية الأخرى، فالطبقة البرجوازية أصبحت عالمية مترابطة المصالح، مادامت الشركات المتعددة الجنسيات الكبرى هي المسيطرة، ويتحكم في الشركة الواحدة أناس من جنسيات وقوميات مختلفة، ولهذا فإن البرجوازية العالمية ستعمل جاهدة على توحيد العالم وتشكيل دولة عالمية واحدة بكل الوسائل مثلما ساهمت البرجوازية الوطنية في تكوين أو تقوية الدولة القومية في القرن 19م، وما يساعد هذه الطبقة العالمية اليوم هو تداخل المشاكل الدولية كتلوث البيئة والإرهاب والأسلحة النووية وخطورة انتشارها... وغيرها من المشاكل، فكل هذا يستدعي في نظرها إقامة حكومة عالمية تدير شؤون العالم، لكن هذه الدولة ستكون في خدمة هذه الطبقة مثلما كانت الدولة القومية في خدمة البرجوازية الوطنية أثناء القرن التاسع عشر، فيستمر بذلك الاستغلال وسلب فقراء العالم عرقهم وحقوقهم باسم القانون والشرعية، فأية محاولة لهؤلاء للثورة على هذا النظام العالمي الاستغلالي المجحف، فإنه يفسر من طرف البرجوازية العالمية السائدة بأنه تهديد للسلم العالمي واعتداء ضد الشرعية الدولية والقانون الذي وضعه الأقوياء على حساب الضعفاء.
ولإقامة هذه الدولة الرأسمالية العالمية لا بد من القضاء على كل الثقافات والحضارات، بل إمكانية إبادة الشعوب التي ترفض الخضوع، وبعبارة بسيطة فإن هذه الطبقة البرجوازية العالمية يمكن أن تكرر ما فعلته البرجوازية الوطنية وبعض الطبقات الحاكمة في الماضي من عنف ومحو الثقافات لتضع مكانها الثقافة الرأسمالية.
إن إبادة مختلف الثقافات والشعوب يمكن أن لا يحدث بشكل مباشر، بل يستعمل الضغط، حيث ستهدد الثقافة الرأسمالية الغربية هويات الشعوب، فتدفعها إلى الإنغلاق على ذاتها لحماية هذه الهويات، مما يؤدي إلى بروز قوي على الصعيد المحلي للمشاكل اللغوية والعرقية والدينية والطائفية والقبلية...وغيرها، فتظهر صراعات وحروب أهلية لغوية أو قبلية أو عرقية أو دينية داخل بلدان العالم الثالث، فتضعف وتندحر هذه الدول من جراء التقاتل الذي تغذيه القوى الرأسمالية بهدف تصريف إنتاجها العسكري، وبهذا الشكل تصبح هذه الدول المنهارة سهلة للإندماج في الدولة العالمية الرأسمالية الجديدة التي بدأت في التشكل منذ سنوات، لأن ما نلاحظه اليوم من تكتلات المركز الرأسمالي وتفتت الأطراف هي من طبيعة وسمات توسع النظام الرأسمالي، وقد حدث هذا في أوروبا في القرن 19م .
فلقد كان الصراع القومي بين مختلف الدول الأوروبية في القرن التاسع عشر يختفي وراءه الصراع الاقتصادي بين مختلف البرجوازيات الوطنية لهذه الدول، لكننا يمكن أن نلاحظ أن البرجوازيات القوية في أوروبا كانت تسعى دائما إلى توسيع أسواقها فتشكلت الدول القومية التي لم تتشكل بعد كألمانيا وإيطاليا، أما الدول التي تشكلت حولت قوميتها إلى قومية عدوانية لنفس الأهداف الاقتصادية مما أدى إلى الاستعمار والحروب.
أما البرجوازيات الضعيفة داخل الإمبراطوريات التقليدية كالدولة العثمانية وروسيا القيصرية والإمبراطورية النمسوية –المجرية، فقد عجزت بسبب هذا الضعف عن الحفاظ على هذه الإمبراطوريات وتحويلها إلى دول قومية موحدة، ومنيت سياسات التتريك في الدولة العثمانية والترويس في الإمبراطورية الروسية بفشل ذريع، وهذا الفشل لا يعود فقط إلى ضعف هذه البرجوازيات، بل إلى عدم قدرتها على مواجهة البرجوازيات القوية في الدول الأوروبية الأخرى، والتي استخدمت فكرة القومية نفسها لتحطيم هذه الإمبراطوريات وتفكيكها إلى دويلات صغيرة غير قادرة على تنمية صناعاتها، فتضطر إلى فتح أسواقها للإنتاج الصناعي للدول الأوروبية القوية، وإذا كان مصير مختلف هذه الإمبراطوريات التفكك وما صاحبه من ضعف، فإن روسيا نجت من ذلك بسبب استيلاء طبقة أخرى أكثر قوة وأكثر اتساعا على السلطة بعد الثورة البلشفية عام 1917م، وتتمثل في تحالف العمال والفلاحين، وقد أغلقت هذه الطبقة الحاكمة الجديدة الباب في وجه التوسع الرأسمالي، فتمكنت من الحفاظ على وحدة الإمبراطورية الروسية لمدة 70 سنة تحت فكرة الشيوعية المناهضة للرأسمالية ولفكرة القومية.
ولهذا يمكن لنا القول أن للتوسع الرأسمالي سمة أخرى جديرة بأخذها في الحسبان، وهي أنه كلما توسعت ازداد مركزها القوي في التكتل مقابل تفتت الأطراف الضعيفة التي تتحكم فيها برجوازيات ضعيفة تابعة للبرجوازيات القوية في المركز، وهذا ما يفسر لنا اليوم تكتل أوروبا وأمريكا الشمالية مقابل تفتت دول عالم الجنوب التي رضخت لفكرة عولمة الرأسمالية.
وقد بدأت تتجلى هذه الدولة العالمية الرأسمالية اليوم بمؤسساتها كصندوق النقد الدولي والبنك العالمي، وهيئة الأمم المتحدة التي تحولت إلى أداة في يد الأقوياء ضد الضعفاء، وكذلك من خلال محاولات الأقوياء فرض مفاهيمهم وشرائعهم وتقاليدهم وثقافتهم على ضعفاء العالم مثلما حصل في مؤتمر السكان في القاهرة، ومؤتمر المرأة في بكين، ومؤتمر البيئة بريو دي جانيرو بالبرازيل...وغيرها من المؤتمرات.
وهذا ليس معناه أننا ضد دولة عالمية لكننا ضد دولة رأسمالية عالمية تكون أجهزتها ومؤسساتها في خدمة أقلية استغلالية لا تتجاوز 15% من سكان العالم، ونلاحظ اليوم أن هذه الرأسمالية أصبحت دينا جديدا ضد كل الأديان، فهي تحمل أخلاقا رأسمالية تتمثل في الفردية والمادية والاستغلال واللصوصية والنهب والقتل والتدمير بهدف إرضاء إله جديد هو الدولار، إن دولة بهذا الشكل كارثة ودمار لأنها ليست في خدمة الإنسانية جمعاء بل هي قتل لروح الإنسان وإبادة للجنس البشري وإهانة لابن آدم الذي سجدت له الملائكة، وخلق الله السموات والأرض من أجله وفي خدمته. وكل هذا يطرح علينا اليوم مسألة التفكير في كيفية إنقاذ الإنسانية من الهلاك والدمار على يد وحش اسمه الرأسمالية، وإقامة نظام عالمي بديل أكثر عدلا وإنصافا وفي خدمة الإنسانية جمعاء وتضع كرامة الإنسان فوق كل اعتبار.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن