قراءة في روايةدوامة الرحيل- الروائية ناصرة السعدون

لنا الفاضل
lana37fadhil@gmail.com

2017 / 10 / 18

رواية (دوامة الرحيل ).
الرواية الفائزة بجائزة كتارا للعام (2015) الصادرة عن دار (المؤسسة العربية للدراسات والنشر).
تتملك القاريء منذ اللحظة الاولى وهي تحمل في غلافها لوحة من لوحات فنانتنا الاكثر إبداعاَ ومسيرة مشرفة في -تاريخ الفن العراقي الحديث- السيدة (وداد الاورفلي).
منذ دخولي عالمها لحين خروجي من آخر أحداثها وفي قلبي شعلة أمل ان الانسانية ستجعلنا ننجو يوماَ ما من اوجاعنا ومحنتنا في الاغتراب القسري . الوجع الذي ثا رفي روحي وذاكرتي وهي تستعرض حياتنا كعراقيين منذ زمن الاحتلال عام 2003 في أجواء حقيقية ربما حدث أغلبها لكل عراقي وخاصة نحن ،مَنْ نُعتبر الطبقة المتوسطة والملاحقة من قبل العدو لابادتهم بكل اصرار ، نحن الطبقة التي كانت عاملة لبناءه من الاطباء والمهندسين والفنانين والادباء وكل الكفاءات التي اجبرها الموت المفتعل والمدبر للهجرة ، نحن من كان يتشكل منا الوطن ليستمر ويكبر انجازا ،هاجموه ليقتلوه وطناَ ويقتلوننا عقولاَ وقلوبا تنبض بحب الوطن الاوسع تاريخا وعطاءاً من كل من اوغلوا أيديهم في دماءه.
.
منذ الفصل الاول الذي تصف به رحلة الرحيل رحلة الاقتلاع من الجذور التي اعتقد جازمة انه لا يوجد عراقي الان لم يمر بها أو تمسه في أحبابه هجرة ونزوحا وتشتت.تفجرت المعاناة التي قد يقرأها اي قاريء من بلد آخر بانفاس هادئة لكنها لن تكون كمثلنا نحن ابناء التجربة ونحن نغادر ليلا لعلنا لا نرى بوضوح اي عالم نغادر واي شوق سيعتمل فينا نغادر وطناً تعرفنا شمسه كما تعرفنا أنسام لياليه التي لم تشبهها اي ليالي او نهارات في اوطان إغترابنا اللاحقة .
يبدأ الفصل بهذه الابيات للشاعر عبد الرزاق عبد الواحد
يا سيِّدي
يا عراق الأرض
يا وطني
يا زهو عمري مُذْ رنَّت جلاجيلي
لتبدأ الاحداث للمهندسة الشابة (إباء قيس السالم ) لتغادر أرضا محتلة، بعد تعرضها وعائلتها لاحداث متتالية قُتِلَ فيها أباها في سجِنِ (أبو غريب) سيءالصيت، بعد إعتقاله وهو يدافع عن مصنعه ،
وحادثة مقتل أخاها الوحيد (بارق)بعد دفع فدية كبيرة من المال لإنقاذه من الخاطفين فسلموه لعائلته جثة هامدة، كعادة الخونة من عصابات انتجها الاحتلال وعملاءه ، وهي قصة وجع من قصص العراق الحقيقية المتكررة و الاليمة
وشلل والدتها الطبيبة القوية .
استثمرت الكاتبة طريقة استعادة الاحداث والزمن لتقودنا في مسارات الروايه الى الدخول في الاحداث وتلقي جرعات من الوجع الماضي المتداخل مع وجع الحاضر.
لم تجعلنا الكاتبة ندخل عوالم وهمية تصطنع الالم بلا مبرر ولا عوالم تصنع النصر او الهزيمة محاكاة لخيال او واقع بعيد عنا، بل قادتنا بكل يسر وسهولة وحساسية مرهفة لنتنقل من حدث الى حدث ومن بلد الى بلد،
فكانت الفصول زاخرة بالمعنى وشديدة الالتصاق بالهوية التي قررت الدول العظمى محوها قسراً.
لكنها جسدت كل ما تعنيه كلمة ارادة الانسان ومشاعره واعتقاداته وحتى مشاعر الثأرالكامنة التي لا تعرف طريقا للتحقيق،وضعتها في الاطار المقنع والمقبول،
ولم تستفز فينا، سوى التساؤلات هل الابتعاد يهدف ان يلغي الوطن من ضميرنا ام يزيدنا تعلقا به ؟
تنتقل إباء الى الاردن لتجد فيه البلد الآمن والذي يحتضنها هي ووالدتها لكنما بلا ضمانات للعمل او العلاج وتحاول البقاء فيه وهي تكافح لصنع مصيرهما .
تمتاز الرواية بحواراتها الرقيقة الشفيفة التي تمتاز بالشاعرية التي تغمرنا بها الكاتبة
في عز الالم نجد الام وابنتها في حديث المشاعر والايام الجميلة والخجل المحبب رغم مرور السنين ،تستدرجها عن قصة الحب التي جمعت بين أمها وأباها
تقول إباء : ما زلت تخجلين من اعلان حبك ل قيس السالم؟
ترد (د.ردينة): بل أرى حبنا أمراً مقدساً لا تدنسه أعين الغرباء.)
إباء بطلة الروايه بطلة حقيقية قريبة منا ومن حكايانا وطموحاتنا وانجازاتنا في غربة لها من الرأفة مثل ما لها من القسوة ،
تجد نفسها في مفارقة اليمة ان يعرض عليها اللجوء من قبل منظمة الامم المتحدة -كحال كل من يتقدم بطلب الحماية منها كمنظمة -اللجوء إلى البلد الذي استباح وطنها ،ومجندته التي قتلت اباها،
وعصاباته التي ضيعت اخاها منهم للابد ،وتلك والسياسة الرعناء التي اطاحت بصحة وامها وعافيتها
ترضخ لهذا الاختيار المر وتقرر انه مرحلة مؤقته وانها ستجعله محطة تستثمر وقتها فيها بالدراسة لتنتقل لارض مسالمة النوايا تختارها بنفسها،استمرت إباء رغم قسوة الايام ومرض والدتها التي اقعدها الحزن على كرسي متحرك ،تصنع الانجازات المتتالية علماَ وفناَ،
لكن يبقى هاجسها الاول ان تترك البلد الذي قتل وطنها وجعلها تحمل قسراً لقب (لاجئة )وهي ابنة لأب من افذاذ مهندسي العراق وأم من كبار طبيباته المميزات..



"هرول معها "هذا جنون.أنت تسابقين الزمن للحاق بهذا الكم من المحاضرات"
أبتسمت وهي تلهث،"الم تعرف لحد الان أني خلقت لكي أسابق الزمن؟"


إباء تمثل الاباء العراقي حقا
تمثل العناد مع الايام التي خذلتها وخذلت وطنها وأهلها ،
إباء سيدة معجونة بفسيفساء الوطن وحب الارض وذكرى لا تزول ،
إباء الروح العراقية المتجذرة بالتاريخ ولا تقبل ان تمس عراقتها وعراقيتها مهما حاولت الحياة ذلك
فكانت رسالة الماجستير لها في عقر دار الغزاة بعنوان (العمارة في العراق) لتتخلد هناك في جامعاته العريقة رسالتها الثرية التي انجزتها بوقت قياسي لتحقق رغبتها الدفينة بترك هذا البلد
فكانت رسالتها رسالة علمية ورسالة تاريخية خفية قد يغفلها التاريخ مؤقتا لكنها ستظهر يوما ما ان البلد الذي بلا تاريخ القائم على قتل اهله الاصليين قد عبر المحيطات ليمحو من الارض بلدا عريقا عمره آلاف السنوات .
لتترك بعد ذلك الولايات المتحدة الامريكية وتترك حب عمرها وتوام روحها الذي وجدته هناك ورفضته لانه يحمل جنسية هذا البلد رغم محاولاته اقناعها انه ليس من طينة حكامه وسياسيه
لكن محاولاته تصطدم بجدارها العالي الراسخ الرفض لكل من ينتمي لقتلة اباها وسبب ضياع وطنها، ولتتلقى المفاجأة ان حبيبها من اصول كندية ،
ورغم ذلك تبقى مصرة على قرارها ، لتنتقل مهاجرة الى بلد جديد مسالم يرفض الحروب ليحتضنها مهندسة كفوءة ويعطيها فرصة محترمة في الحياة ،
ومجتمعا متفهماَ لا يتهمها بالارهاب كونها قادمة من بلد الصقوا به كل تهم الارهاب والتشدد والتخلف وهو منها براء كما عانت اول ايام دراستها الماجستير.
الرواية تنصف الانسان والشعوب لكنها لاتهمل ابدا ما جنته السياسة الحمقاء على مصائر البشر الابرياء .
تنتهي الرواية مفتوحة بين قرار إباء ان ترتبط بحبيبها لتنتصر الروائية للانسانية او تتمسك بقرارها الاول
نبحث في الرواية عن لمحات لناصرة السعدون كونها رواية تشبه السرد الذاتي فنجد انها أبتعدت عن طرح نفسها وذاتها وتجربتها الثرية ولا شك بما سبق لها من روايات عديدة فهذه روايتها الخامسة ولها ترجمات متعددة .لكنها هنا توثق محطة مهمه من تاريخ الوطن الذي يكتنفه الغموض حتى لمن عاصره باسراره العصية ولكن تأثيراتها غيرت حياة الاغلب من ابناءه ، كرواية ثرية تستحق ان نفخر بها في الادب العربي والعراقي خاصة ومن العجب اننا نجد قراءات قليلة عنها او نقدا رصيناً يعطيها حقها ، أجمل ما فيها انها رواية حميمة ،دافئة، رغم حزنها نجد فيها المواقف المتنوعة والطريفة احياناَ وكل فصلٍ فيها فصل ممتع جزلٌ بلغته ومعانيه وهو بتجوله بين شعر كبار الشعراء واغاني مطربيه وذكر الوان الموسيقى الشرقية الاصيله دون إقحام ولا تكرار مما يجعله فصلا مهماَ لا يقل عن ماسبقه بشيء بل يزيد ثراءا ومعاني .السيدة ناصرة السعدون من خلال هذه الرواية تخاطبنا فيها ،لنؤمن بذاتنا ،أن نصبح اقوى واكثر عطاءا ولو حكم علينا الزمن بالاغتراب وخاصة النساء ممن وقعت على كاهلهم ويلات الحروب ومآسيها وضغوطاتها ، و رسالة جميلة لنتمسك بهويتنا التي لن تسلخها منا اي انتماءات جديدة .
ما وجدته في الرواية ايضا محاولة فهم ودعوة لمعرفة اننا بشارة ضوء لن تنطفيء عبر الزمن اذا تركنا اثرا ولوكان في غربة تجهل من نحن فهذا الاغتراب يصنع معجزاته للانسان من اي مكان كانت جذوره قد إمتدت فهو هبة للحياة لن تتكرر.
شكرا ناصرة السعدون لقد كتبت ما يستحق ان يوصف أنه البلسم لاوجاعنا ووعيا لنرضى بما يحمله لنا قادم الايام .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن