لغز الكون الأعظم

عبد الغني سلامه
sabdelghani@hotmail.com

2017 / 10 / 9

كل من يقترب من محاولة فهم نظام الكون وآليات عمله، وكيف نشأت الحياة، وما هو دور الإنسان الوظيفي فيه.. وكل من يطرح على نفسه مثل هذه الأسئلة الوجودية، سيجد نفسه مباشرة أمام مدرستين مختلفتين تقريبا في كل شيء؛ الأولى تفسر الحياة وتفهم نظام الكون استنادا إلى الفهم المادي والتاريخي المجرد، بينما الثانية تنطلق من الإيمان بما جاء في الأديان حول الخلق، ودعّمته بالبراهين العقلية والنقلية، وما اعتبرته أدلة علمية لا تقبل الشك.

ولو كان للباحث خيار أن ينهل ما يشاء من المدرستين دون أن يعرض نفسه لخطر التكفير أو اتهامه بالجهل، لما كانت هناك مشكلة، لكنه سيجد نفسه في خضم معركة فكرية شديدة الشراسة! وكل طرف يدّعي أن نظريته تدعمها الاكتشافات التاريخية والتجارب العلمية.

ومن المؤكد أن العلماء واجهوا عراقيل كبيرة، وصعوبات لا حصر لها حينما شرعوا بالإجابة على الأسئلة الكبرى، من خلال تأريخ مسيرة تطور الكون؛ وتكمن الصعوبة في ذلك، لأن الكون موغل في قِدمه، وفسيح في حدوده إلى حد الخرافة.. وأحدث المسبارات وأكثرها تعقيدا لا تصوّر لنا إلا جزءاً يسيراً جداً من هذا الكون المترامي الأطراف. وعندما يتخطى العلماء حاجز المليارات من سنين الضوء يكون حديثهم في نطاق التكهنات والفرضيات، وحتى إنهم حين درسوا تاريخ الأرض - والتي هي تحت أقدامهم - واجهوا صعوبات جمّة، فما هو متوفر عن تلك الأزمان الغابرة من أحفوريات ومستحثات شحيح إلى حد الندرة، وبالكاد يعطي معلومات غامضة وأحيانا متضاربة، وهي دلائل تقترح أسئلة أكثر مما تقدم إجابات.

ومع ذلك فإن العلماء متفقون، على الأقل، على قصة بدء الكون من خلال نظرية الانفجار العظيم، والتي أثبتها العالمان "بانزياس" و"ويلسون"، عندما رصدا ما يُسمّى بالنور الأحفوري، وهو النور الآتي من الأزمنة السحيقة من بقايا الانفجار العظيم. ومتفقون على أن ذلك الانفجار الهائل حدث قبل نحو 13.7 مليار سنة، وهذه المليارات هي عمر الكون..

ولم يستطيع العلم اجتياز اللحظة التي سبقت لحظة نشوء الكون، أي لحظة ما وراء الخليقة، أو ما قبلها، ولم يقدم العلماء مقترحا نهائيا لكيفية نشوء الكون من العدم، ولأن العدم بمعناه الفلسفي غير موجود فيزيائياً، لذا باتوا على قناعة بأن الكون بدأ بالزمن (أي أنهما بدءا معا)، وصار كل قياس علمي لابد أن ينطلق من "زمن بلانك" وهو أقصر مدة زمنية ابتدأ بها الكون ممثلة في جزء من مليارات الأجزاء من الثانية.

والإنسان ومنذ أن تنطّح للإجابة على تساؤلات نشوء الكون، كان ومازال ينطلق من غروره الذي زيّن له بأنه مركز الكون، وأن كل تلك المليارات من السنين من تاريخ الكون لم يكن لها إلا مهمة وحيدة، هي إنجابنا: نحن والحاضر الذي نحياه الآن، وأن مسيرة تاريخ الأرض الطويلة قد وصلت إلى خاتمتها، وأدركت غايتها بإيجاد الإنسان!!

وتاريخنا العلمي الحالي يقدم لنا سلسلة من النظريات التي حاولت فهم نظام الكون، بدأت منذ عهد "أرسطو" و"بطليموس"، وتواصلت عبر علماء المسلمين الذين ترجموا ما وصلهم من فلسفات يونانية وأضافوا عليها، ثم وصلت إلى "جاليليو" و"نيوتن"، ومن بعده "أينشتاين"، الذي دشن عهدا جديدا في علم الكون، وصولا إلى النظريات الذرية الحديثة.

في القرن العشرين، تطور علم الكون بشكل جذري، وقد شكلت نظرية "أينشتاين" النسبية حجر الزاوية في هذا العلم، ومع ذلك، فهي تُشكل جزءًا من قاعدة علم الكون، وليس القاعدة كلها. وبالتالي كان على علماء القرن العشرين أن يرفدوا النسبية العامة بالفيزياء النووية، ثم بنظرية المجال الكونتمية، ثم بنظريات التوحيد المجالية الحديثة، حتى يتسنّى لهم التغلب على مفارقات علم الكون، وتفسير الظواهر الكونية التي تفجرت في الساحة العلمية في النصف الثاني من القرن العشرين.

ولحل لغز نقطة بدء الكون؛ يقول العلماء الخلقيون أن انفجاراً هائلا بحجم الانفجار العظيم، كان يمكن أن يخلِّف وراءه دماراً رهيباً يؤدي إلى تبعثر للمادَّة في كلِّ مكانٍ على غير هدى، أو أن تتفوق مضادات المادة على المادة فينتهي كل شيء عند لحظة الولادة، أو أن تنهار هذه البذرة المتناهية في الصغر تحت تأثير قوة الجاذبية الرهيبة قبل أن يتاح لها المجال للتحول إلى كون، لتعود إلى العدم الذي انبثقت منه... وبما أن هذه الاحتمالات لم تحدث، بل أدَّى الانفجار إلى إبداع نظامٍ كونيٍّ بتصميمٌ دقيقٌ محكم، تنضبط فيه الكتل والأحجام والمسافات، وتنتظم فيه الحركة على الوتيرة نفسها من أدقِّ دقائقه إلى أكبر وحداته، على الرغم من تعاظم أبعاده، وكثرة أجرامه، ما يعني أن خالقا عظيما كان وراء ذلك كله..

ولبرهنة ذلك يقولون بأن الكون بكل ما فيه من مادَّة وطاقة ومكان وزمان وُجد في وقتٍ واحد، وكانت له بدايةٌ محدَّدة؛ وبالتالي لابدَّ أنَّ موجوداً (خالقا) على الدوام كان سابقاً لوجود هذا الكون، وهو الذي أوجده؛ لأنَّه ببساطةٍ شديدة إذا لم يوجد أيُّ شيءٍ قبل ذلك، فلا شيء يمكن أن يوجد بعده، وأنه ليس هناك ما يدعو للافتراض أنَّ المادَّة والطاقة كانتا موجودتين قبل الانفجار العظيم، وأنَّه حدث بينهما تفاعلٌ فجائيّ، لأنه من الصعب أن نميز تلك اللحظة عن غيرها من اللحظات في الأزليَّة، والأبسط من ذلك هو أن نقتنع بأن ما حدث هو خَلْقٌ من العدم، أي إبداع الإرادة الإلهيَّة للكون من العدم. وأنها هي صاحبة القرار بحدوث هذا الانفجار الرهيب. لأنَّ العدم بذاته لا يخلق وجودا، ولا يَنتُج عنه إلا العدم، وما دام للكون بداية، فلا مفرَّ من القول بوجود موجودٍ سابقٍ على وجود هذا الكون وبدايته، وهو أزلي ليس له بداية، وهو يسمو على المادة، لأنه غير ماديٍّ، وهو موجودٌ دائما وأبدا.

كيف أجاب العلماء الماديون على هذه النقطة المحيرة؟

حول نقطة بداية الكون، يقول العلماء الماديون بأن الكون أزلي، متناهٍ في القِدم، وأن نقطة بدايته تتمثل بلحظة الانفجار العظيم، وأنه وُلد من رحم نقطة متناهية في الصغر، كانت بحجم يقلُّ كثيراً، عن حجم "البروتون"؛ ومع ذلك كانت بـوزن الكون كله، وقد تركَّزت فيها كل مادة الكون، أي كل كتلته وطاقته.

ولكن، من أين جاءت تلك "النقطة"؟ مِمَّ تتألَّف؟ ما "القوانين الفيزيائية" التي حكمتها؟ إذا ما كان من وجود لتلك القوانين! ماذا كان يجري قبل لحظة الانفجار؟ كيف نعرف إذا كان الكون في تلك اللحظة الفريدة باردا أم ساخنا؟! هل كان فراغا عدما أم ماذا؟ وكيف نتخيل اللحظة (والمكان) التي سبقت الانفجار؟!

كل هذه الأسئلة، وغيرها، لا إجابات عليها، لا في نظرية "الانفجار الكبير"، ولا لدى مؤسِّسيها، ومطوِّريها؛ علماً أن العلماء يتحدَّثون، بدِقَّة وتفصيل عن لحظة الانفجار نفسها، وكأنَّهم كانوا هناك.

يكمن لغز البداية في عدة نقاط: أولها أنه لا مادة يمكن أنْ تُوْجِد إلاَّ من مادة وُجِدَت من قبلها. وثانيها: إذا كان الكون متركزا في البيضة الكونية التي انفجرت عند بدء الزمان، فهذا يعني بالضرورة أن لتلك البيضة قوة جذب هائلة. فمن أين أتت تلك الجاذبية؟ يقول آينشتاين أن الجاذبية عبارة عن "انحناء الفضاء"، أو "ما يعتري حركة الأجسام من تغيير بسبب إنحناء الفضاء". وحسب هذا التعريف، نتوصَّل إلى استنتاج "أنْ لا وجود أبداً للجاذبية إذا لم يكن من وجود للفضاء نفسه"؛ فكيف لها أنْ تُوْجَد (وأنْ تكون "هائلة") إذا لم يكن من وجود لفضاءٍ، ولانحناءٍ في هذا الفضاء؟!

اعتبر عالم الفيزياء الشهير "ستيفن هوكينج" أنه حتى نجيب على تلك الأسئلة الغامضة لا بد لنا من تخليص نظرية الانفجار العظيم من مفهوم "النقطة". وأضاف: "من غير المنطقي التحدّث عن زمن ما قبل بداية الكون، وسيكون الأمر أشبه بالبحث عن نقطة واقعة جنوب القطب الجنوبي. فهي ليست محدّدة ولا وجود لها".

ويؤكد العلماء الماديون بأن كل ما في الكون من مجرات ونجوم قد نشأت من لحظة الانفجار العظيم، وأن هذا الكون قد انتظم من تلقاء نفسه، وسار بقوانين مادية صارمة، آخذاً في صيرورته مسارا تطوريا تصاعديا إجباريا، وينفون عنه صفة الغائية، بل ويروحون إلى ما هو أكثر من ذلك؛ ويقولون إنه نظام عبثي في مساراته، وأنه رغم دقته الظاهرة في تكوينه؛ إلا أن إصطدامات رهيبة تجري بين أجزائه، وهناك ما لاحصر له من الإنهيارات والثقوب السوداء، التي تؤدي إلى فوضى عبثية في أركانه القصيّة البعيدة عن إدراكنا. وأن التصميم والنظام الظاهر في الكون ما هو سوى رؤية إنتقائية ناتجة عن إسقاط إنطباعي إنساني؛ فنحن تدهشنا الحياة على الأرض، بينما الكون يحتوى على مليارات المجرات والكواكب الخربة التي تعمها الفوضى والعشوائية، والتي لا تصلح للحياة.

بمعنى آخر (وحسب ما يقوله الماديون) نحن نعيش فى نقطة نظامية ذات حظ فريد، إستقرت فى الوجود المادي وسط ملايين الحالات الفوضوية التي لم تُنتج حياة أو نظام، ونطلق عليها نظام لأننا من داخلها، وأن هذه اللحظة التاريخية التي نشهدها والتي تبدو نظامية قد تكون مجرد طرفة عين من تاريخ الكون السحيق المليء بالفوضى والغموض.

وهناك نظرية أخرى تحاول تفسير نشأة الكون، تدعى نظرية الأوتار الفائقة، تقول هذه النظرية أن كل وجود هندسي في الكون يتكون من أحد عشر بُعداً، منها أربعة منظورة (ثلاثة أبعاد مكانية مع الزمن) وسبعة خفية، أو مجعدة بداخل الوتر نفسه، ما يعني أن الكون وكل أحداثه ما هو إلا سيمفونية أوتار فائقة الذبذبة، وهو عزف موسيقي ليس إلا.

وتأتي نظرية الأوتار تتويجا للنظرية النسبية والنظرية الكمية، لكنها لم تُجب عن سؤال أصل الأوتار، وماهيتها، أو كيف تقسمت بهذا الطول، ولا من أين أتى اهتزازها.. إذن النظرية بكل مدياتها مازالت مفتوحة، وتحتاج للكثير من الأبحاث للتأكد من صحتها.

لا يعرف أحد بعد إذا كانت نظرية الأوتار هي النظرية النهائية (نظرية كل شيء)، إذا كان هناك شيء من هذا القبيل أصلاً، لكنّها نظرية أنيقة بشكلٍ لا يُصدق، وهي الأقوى حالياً عند الحديث عن نظريات تُفسِّر وبشكلٍ عميق طبيعة عمل الكون.

من جهة أخرى، بالنسبة إلى النظرية الكوسمولوجية المعتمَدة حاليًّا، نشأ الكون من العدم؛ وبما أن "العدم" يمتد إلى مساحات شاسعة، فإنه من الممكن علميًّا نشوء أكوان عديدة في "أمكنة" مختلفة من العدم. وطالما أن الآلية التي أدَّت إلى نشوء كوننا مازالت فاعلة، ما يعني إمكانية أن كوننا قد أنجب أكوانا أخرى: الانفجارات العظيمة تحدث باستمرار، فتنتج عوالم مختلفة.

وبقول آخر، تقول النظرية أن كوننا قد نشأ من رحم الانفجار الكبير، والذي جاء على أنقاض فناء كون آخر، وعندما يفنى كوننا الحالي سينشأ على أنقاضه كونا جديدا، وهكذا تتوالد الأكوان، بلا نهاية.. ويقترح العلماء مدة لا تقل عن 80 مليار سنة هي فترة حياة كل كون. أو أنه في نفس اللحظة التي نشأ فيها كوننا نشأ كون آخر، وربما كونان، أو عدد لا متناهي من الأكوان الموازية. ما يعني أن سؤالنا عن البداية والنهاية سيضيع تماما في زحمة تلك الأكوان التي بلا بداية وبلا نهاية.

سيظل العلماء يبحثون عن نظرية شمولية متكاملة للكون؛ تفسر وجوده وتجمع ما بين ما هو متناهي في الصغر وما هو متناهي في العظمة في معادلة واحدة، بحيث تحتوي على ربط متين بين كل القوى المعروفة في الطبيعة، وتكون قادرة على التنبؤ بكل مشاهدة بدقة متناهية. ومن المتوقع أن يواصل العلماء بحوثهم إلى ما لانهاية، وأن يطرحوا ما لا يُعد من نظريات، قبل أن يتمكنوا من حل اللغز الأعظم: لغز الكون والحياة.

الحقيقة المجردة تتطلب منا أن نأتيها حفاة، مجردين من الموروثات التي سكنتنا طويلا، لنرتدي ثوب العلم، ونستخدم أدواته الصارمة والحازمة دون أن نعبأ بالنتائج. فهل لدينا الشجاعة الكافية لفعل ذلك؟!



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن