ديستوفسكي في عيادة فرويد - تشريح المثلية المكبوتة

مروة التجاني
maraweltigani@yahoo.com

2017 / 10 / 9


يمكن تحليل شخصية ديستوفسكي من خلال ثلاث عوامل هي حياته الأنفعالية غير العادية ، استعداداته الغريزية وموهبته الفنية التي تستعصى على التحليل . وجود هذه الرابطة بين العلاقات المختلفة لا تعني بالضرورة وجود مرض عقلي .، حيث كان هناك توازن بين مطالبه الغريزية وضروب الكف عن تعارضها ويمكن تسمية ديستوفسكي بالشخصية الغريزية . لا يوجد في شخصيته ذلك العصاب الذي كلما ازدادت القابلية له كلما ازداد التعقيد الذي ينبغي السيطرة عليه بواسطة الأنا ، لأن العصاب ليس إلا علامة على أن الأنا لم ينجح في تكوين مركب ، ذلك إنه في محاولته للقيام بذلك قد أضاع وحدته .. إذن كيف يظهر عصابه ؟



كان ديستوفسكي يتعرض لنوبات صرع تأتي مصحوبة بفقدان للشعور وتصلبات عضلية يتبعها هبوط ، الآن أصبح من الأكثر احتمالاً أن ما كان يسمى صرعاً لم يكن إلا عرضاً من أعراض عصابه وينبغي أن يشخص تبعاً لذلك بأنه صرع هستيري . مع ذلك لا يمكن الجزم بهذا التشخيص لأن المعلومات المتوفرة غير موثوق بها ولأن فهم الحالات المرضية المرتبطة بنوبات ذات مظهر صرعي لا يزال ناقص . كانت لهذه النوبات دلالة الموت ، إذ كان ينذر بها خوفاً من الموت ، كانت تتألف من حالات من السبات والغفوة ، داهمه المرض أولاً - بينما كان لايزال صبياً - في صورة اكتئاب مفاجئ لا أساس له ، وشعور قال عنه لصديقه إنه كما لو كان على وشك أن يموت في التو . تدل النوبات على تقمص شخص ميت سواء كان شخصاً ميتاً بالفعل أو كان شخص ما يزال على قيد الحياة ولكن ترغب الذات في موته ، فالمرء كان يرغب في أن يموت شخص آخر والآن أصبح هو هذا الشخص الآخر ، وقد أمات نفسه .




ينشأ تعقيد آخر حينما يكون العامل التكويني الذي نسميه بالثنائية الجنسية متطوراً تطوراً نسبياً عند الطفل ، لأن ميل الطفل عندئذ - تحت تهديد ذكورة الصبي بالخصاء - أقوى في الأنحرافات إلى اتجاه الأنوثة ، ليضع نفسه في مكان أمه ، وليقوم بدورها كموضوع لحب أبيه . لكن الخوف من الخصاء يجعل هذا الحب مستحيلاً ، فالصبي يفهم أن عليه أيضاً أن يخضع للخصاء إذا هو أراد أن يكون محبوباً من أبيه كأمرأة . هكذا فأن كلا الدافعين - كراهية الأب ، والدخول في علاقة حب مع الأب - يعانيان الكبت ، وهناك تفرقة سيكولوجية معينة في الحقيقة القائلة بأن كراهية الأب تختفي نتيجة لخطر خارجي هو الخصاء ، بينما يعتبر الدخول في علاقة حب مع الأب خطراً غريزياً داخلياً رغم إنه يرجع في أساسه إلى نفس الخطر الخارجي . من بين العاملين اللذين يكبتان كراهية الأب يمكن أن نسمي العامل الأول - أي الخوف المباشر من العقاب والخصاء - بأنه العامل السوي ، يبدو أن الحدة المرضية لهذه الكراهية لا تحصل إلا بإضافة العامل الثاني ، أي الخوف من الموقف الأنثوي . هكذا يصير الأستعداد الجنسي الثنائي القوي أحد الشروط الأولية أو العوامل المعززة للعصاب ، ولابد أن نفترض وجود هذا الأستعداد عند ديستوفسكي ، وهو يظهر في صورة يمكن النفاذ إليها مثل الجنسية المثلية الخفية ، وفي الدور الهام الذي تلعبه علاقات الصداقة مع الذكور في حياته وفي موقفه اللين الغريب نحو المنافسين في الحب ، وفي فهمه للمواقف التي لا يمكن تفسيرها إلا بالجنسية المثلية المكبوتة على نحو ما تظهر في أمثلة كثيرة من رواياته .





إذن فالقضية بالنسبة لديستوفسكي هي إنه شخص ذو استعداد قوي خاص للثنائية الجنسية ويمكنه أن يدافع عن نفسه بدرجة كبيرة من الشدة ضد الأعتماد على أب يتميز بالقسوة . تقوم خاصية الثنائية الجنسية هذه كشئ مضاف إلى أجزاء طبيعته . من ناحية أخرى .. يمكن أن نفهم أعراض النوبات الشبيهة بالموت التي كانت تعتريه مبكراً على إنها تقمص للأب في جانب من الأنا قام به الأنا الأعلى كنوع من العقاب . " إنك تريد أن تقتل أباك لتصبح أنت هو ، الآن أنت أبوك ، ولكنك أب ميت " ذلك هو ميكانزم الأعراض الهستيرية المنظم ، بعد ذلك " الآن أبوك يقتلك أنت " أن عرض الموت بالنسبة للأنا هو اشباع في خيال الرغبة الذكورية وهو في الوقت نفسه اشباع ماسوكي ، هو بالنسبة للأنا الأعلى اشباع عقابي أي اشباع سادي ، وكلاهما ، الأنا والأنا الأعلى يقومان بدور الأب .



كان الحكم بالأعدام على ديستوفسكي - كسجين سياسي - حكماً ظالماً لكنه قبل بهذا العقاب الذي لم يكن يستحقه بين يدي الأب البديل ( القيصر ) كتعويض عن العقاب الذي يستحقه على خطيئته ضد أبيه الحقيقي ، هنا نجد لمحة من التبرير النفسي للعقاب الذي يوقعه المجتمع ، فمن الحقيقي أن جماعات كبيرة من المجرمين تشتاق إلى العقاب ويطلبه الأنا الأعلى عندهم ، وهو بهذا - أي المجرم - ينقذ نفسه من الحاجة الضرورية إلى أن يوقع العقاب بنفسه .



يمكن القول أن ديستوفسكي لم يتحرر من الشعور بالذنب الذي كان ينشأ عن نيته في قتل أبيه . كما كان هذا الشعور يحدد موقفه في مجالين مختلفين آخرين كانت علاقة الأبوة بينهما هي العامل الحاسم ، موقفه نحو سلطة الدولة ونحو الإيمان بالله ، انتهى في الموقف الأول إلى الخضوع لأبيه البديل ( القيصر ) الذي أخرج معه في الواقع كوميديا القتل التي كانت نوباته تقدمها غالباً في صورة تمثيل ، وهنا كان للتفكير اليد العليا . أما في مجال الدين فقد أحتفظ لنفسه بحرية أكبر ، فطبقاً للتقارير الموثوقة كان يتذبذب بين الأيمان والألحاد . جعل عقله العظيم من المستحيل عليه أن يتغاضى عن أي من الصعاب العقلية التي يؤدي إليها الأيمان . كان يأمل أن يجد مخرجاً وتحرراً من الذنب في المثل الأعلى المسيحي وأن يستفيد مما يعاني من الآم كوسيلة لأن يلعب دوراً شبيهاً بدور المسيح وذلك عن طريق اجمال فردي للتطور في التاريخ . فإذا لم يكن قد حقق الحرية وأصبح رجعياً فقد حدث ذلك لأن شعور الذنب تجاه النبي بلغ عنده درجة فردية فائقة في شدتها .

- المصدر : كتاب التحليل النفسي والفن ، سيغموند فرويد .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن