دراسة

رياض الدليمي
reyadaldellamy@yahoo.com

2017 / 10 / 1

هل للخطاب الأدبي من مرجعية ؟
القصيدة الحديثة انموذجا
رياض الدليمي

عندما تبحث عن أبجديات القصيدة الحديثة قد تصاب بدوار وتشتت للذهن وخاصة ان هوية القصيدة الحداثوية مشوهة بلا ملامح واضحة محاطة بهالة من ضبابية الشكل والمعنى لا تستقر عند فن معين أو منهج متفق عليه ، وغير خاضعة لاشتراطات الابداع ومن أهم اسباب ذلك نعزوه الى اختلاف الذائقة للمتلقي فمنهم من يسعده هذا التشوه الذوقي الذي يواكب ويتماها مع الارتباك الحضاري الذي يشهده العالم واختلاف المنظومة الاخلاقية والقيمية للمجتمعات من جهة ، والتسارع الجنوني للأحداث السياسية والانتقال من عزلة العالم الى الانفتاح الجنوني بين شعوب الأرض بفعل المنظومات التقنية الاتصالية الحديثة من جهة أخرى .
الشعر بوصفه فنا أدبيا جماليا لا يشترط أن يكون منسجما دائما مع الواقع الثقافي السائد للمجتمع ، فلابد للشعر أن يسهم بشحذ فكر وذائقة المتلقي ، وليس الاسهام بالانحدار الذوقي والتشوه الفكري الذي يعاني منهما المتلقي ، ومرده لأسباب عديدة ومنها : تدني المستوى الحضاري والانساني بشكل عام والتراجع الحضاري المروع للمجتمعات العربية وهنا لا نقصد المجتمعات / الشعوب فحسب بل النسق العام للأنظمة العربية الحاكمة ، وهنا يقول جهاد فاضل (ولا يعني كل ذلك أنّ الغموض مما يتأباه الشعر أو أنّ القصيدة ينبغي أن تكون أشبه بالتقرير الإداري ، فمن طبيعة الشعر هذا الرفيف الدائم في عالم الصور والأخيلة ، ومن طبيعة الشعر أن تشف معانيه ، وأن توحي ، ولكن طبيعة الشعر تأبى النشاز على ما كرسته قيم الفن، والجمال ، والدقة في الوصف ، والرسم ، والتعبير، منذ أقدم الأزمنة إلى اليوم ، والواقع إنّ المجانية في الشعر هي أعدى أعداء الشعر ؛ لأنّها تهبط بالشعر من المستوى الرفيع الذي يفترض أن يكون عليه إلى مستوى لا يليق بالشعر أصلاً ، بل يضر به ، فالشعر كما يقول الشاعر الفرنسي "بول فاليري": " فن نظم البارع من لا شعر وليس أي فن آخر". ) (1 ) .
ماتعاني منه القصيدة العربية الحديثة يكمن ان لا مرجعية نقدية لها ( ( No critical reference to it ، فالأسس الثلاث ( المنتج والمتلقي والناقد ) يشكلون الخطاب الجمالي والابداعي ، فهناك تجافي وانفصال بينهم (Separation between them ) فكل واحد منها يعيش بغربة وجفاء عن الآخر فالمنتج الشعري لا يتلاءم مع ذائقة المتلقي ، فاقد للهوية الابداعية ، وأما النقد فهو غير قادر على ادراك المنتج الشعري ويغدو قاصرا في مناهجه للفهم والتلقي والقراءة الناجعة للنص ، وقد يقف النقد حائلا أمام الحداثة الشعرية ( Modern poetry ) وغير متفاعل معها ويعدّها خروجا على المقدس التراثي (The sacred heritage ) للشعر العربي ، لهذا تقوقعت القصيدة الحديثة متخبطة في أدواتها وآلياتها واشتراطات ابداعها وفي هذا الصدد جاء حديث الشاعر صلاح عبد الصبور: (
لقد تغيّر العالم كلّه منذ عصر النّهضة ، فتميّز الشّعر عن النّثر ووجد نقّاد جدد ووجدت فنون محدثة كالقصّة القصيرة والرّواية ، وطولب الشّاعر أن يكون كلّ ما يقوله شعرا ، وتغيّرت صورة الأدب تغيّرا جذريا ، وأعيد النّظر في التّراث العربي كلّه واتّسعت أبعاد الـتّجربة الإنسانية واكتشف الإنسان اكتشافا جديدا) (2).
النقد بوصفه مرجعا لكل أثر أدبي أو فني كما ينبغي أن يكون أو من الطبيعي أن تكون وظيفته هكذا لكن واقعا تخلى عنها وغدا النقد قراءة مجتزأة للنص ( A partial reading of the text ) ، قاصرا (Minor ) في فهمه وتلقيه وخاضعا لمزاجه وأدواته ورؤاه ، بعيدا عن المناهج العلمية الرصينة في تلقي النص (Receive the text ) والسعي للبحث عن جمالياته والاسهام في تطوير أدواته الشعرية المتمثلة في اللغة والصورة الشعرية والخيال والفكر والايقاع وباقي عناصره ، وتكمن العلّة في النقد نفسه فأصبح النقد مشاعا كما الشعر خال من محددات الابداع وفاقدا لحافز التجديد والتجريب بالفن الشعري من أجل خلق قصيدة تخاطب الوعي المجتمعي والحاضر الثقافي دون الانغماس في تمثلات الماضي التقليدي (يرى النّقد الحديث أنّ للتّحول والتّجديد تيّاران : الأول هو التّيّار الّذي يبدأ أصوليّا ثمّ يثور من داخل الأصولية وهذا النّوع من التّجديد هو الّذي يعترف بأنّ لكلّ زمن خصوصياته ، والثّاني هو الّذي يغيّر في الأصول تغييرا جذريا يعتبر تحوّلا حقيقيا عن المسار المعروف والتّقاليد المتداولة والمرتبطة بشكل الفنّ وطرائق التّعبير، وأدوات هذا التّعبير سواء كانت هذه الأدوات في لغته أم في أساليبه التّعبيرية المختلفة أم في هيكله البنائي أم في مضمونه الفكري ) (3) .
الابداع رسالة واعية لمجتمع ما في لحظة تاريخية حاضرة أو ماضية ، وهذه اللحظة الابداعية (Creative moment ) ان توفرت تعدّ رسالة واعية تسهم في تحفيز المجتمع لمواكبة الركب الحضاري واستلهام روح الخلق للمنجز الثقافي (Inspire the spirit of creation for cultural achievement ) ، وهنا يؤكد يوسف خال (هكذا نرى أن ما دفع الشاعر إلى الخلق يجب أن يجتاز عملية صراعية مع اللغة والأسلوب قبل أن يخرج إلى حيز الوجود شعرا سويا لا كلام فلسفة أو علم ، وعلى الشاعر في هذا الصراع أن يخرج سيدا منتصرا على حدود اللغة والأسلوب المتوارث معا ، وكلما احتدم الصراع نمت الفكرة البدائية الغامضة في الدقة والعمق ، وعظم الانتصار ، نكرر: أن الشاعر، وهو في عملية الخلق ، يكتشف ما دفعه إلى الخلق ، وهو مع كل خطوة يحل مشكلة ليجابه أخرى في ما يكتشفه من خليقته ، فلا ينتهي من القصيدة إلا بعد أن يدرك تمام الإدراك ما كان يحبل به عند البدء بها ، وبقدر ما يكون الشاعر أصيلا ، يكون علمه بأن ما كانت عليه فكرته عند البدء هي غير ما صارت إليه عند الانتهاء . أين ، إذن فردية الشاعر وفرادة عمله ، إذا كان رازحا بهذا القدر تحت عبئين آليين خارجيين : اللغة والأسلوب؟ ) (4)
يشي الشاعر اليوم أن يتمرد على قواعد الشعر وتوجهاته وأطره مما خلق فوضى في أساليبه وتعابيره وتشوه ملامحه الشعرية فلم يعد الشعر شعرا والنثر نثرا رغم تداخل الأجناس الادبية فيما بينها ، لذا لابد من فن شعري (Art of poetry ) حسي ووجداني ووجودي يبث في فكر وأحاسيس المتلقي والذائقة المرجوة من النص ، نعتقد ان للشعر ايقاع تأثيري (Cosmic rhythm ) على المتلقي ومختلف عن السرد والدراما ، وهذه المؤثرات قد تكون نفسية ووجدانية وفكرية تنقله من عالم حسي الى آخر شعوري خيالي أسطوري خارج دائرتي الزمان والمكان .
لهذا عندما يفقد النص الشعري بصيغته الشعرية التقليدية (Poetry traditional ) أو النثرية (Poetic poem ) مقوماته وأدواته ووظائفه لم يعد قادرا على أداء فعله الجمالي ويبقى تحت وطأة الاجتهاد و التخبط وعدم المعرفة .
الملاحظ ان دعاة التجديد (Renewal advocates ) من الشعراء مازالوا قابعين تحت هرم الموروث الشعري وهذا يمكن اكتشافه بسهولة ، فتجد المفردة اللغوية غير قابلة للانزياح (Displacement ) عن معناها الاصطلاحي ) Conventional Meaning ) فهي هامدة جامدة لا تقبل التأويل (Interpretation ) الا بوجهة واحدة أي تكون هنا اللغة أحادية التلقي والفهم (Mono-receipt and understanding ) ، وهذا يرد الى الغرض الشعري (Poetic purpose ) الموظف في موضوعة القصيدة فأما يكون ( رثاء ، مديحا ، حماسة ، غزلا ، هجاء ، ذِكرا ) فتجد الصورة الشعرية يعبر عنها تشبيها أو اِستعارة أو كناية .
وقد تبدو القصيدة أغنية بإيقاعات متغيرة غير ضابطة لنبرتها وقوافيها ولسلمها الموسيقي ( الوزن ) ، فغالبا ما يكتب الشاعر الحداثي - كما يزعم أن يسمي نفسه بهذه الكنية - قصيدته على شكل أشطر عديدة أو مقطعة ومتداخلة أحيانا في ايقاعها الوزني، وفي أحيان أخرى يكون لها قافية تتكرر في المقاطع حسب اِهوائه تارة وحاجة قصيدته تارة أخرى كي لا يفلت الايقاع منها ، وتجد في القصيدة موضوعة البحث ليس هناك حواكم للنبرة الشعرية (The poetic tone ) وللنبرة اللغوية (Linguistic tone ) في اِيقاعها فهي اِعتباطية وقد تميل بعض القصائد الى السجع .
الأهم من بناء القصيدة وشكلها تجد الشاعر يميل للفردية والنرجسية (Individual and narcissistic ) في قصيدته تراه يصب ما يشعر وما يفكر به هو وحده دون أن يأخذ المتلقي بنظر الاعتبار ومدى تفاعله مع خلجاته ونوازعه ومشاركته معه ، أي أن لا صوت يعلو على صوت الشاعر ولا شريك له في صياغة قصيدته ، لا يعطي لحظة توقف ينفذ منها القارئ أو يترك فراغا يملأ بأناه النص حد التخمة بمعنى أن الشاعر يمارس سلطاته وطغيانه على النص وعلى المتلقي ، ويحاول الغاء وجوده ويقصيه عن نصه ولم يترك له مساحة ليتحرك فيها القارئ داخل النص وخارجه دون أن يترك فجوة يطل منها فهم القارئ إلا من إسقاطات قد ينفذ منها صدفة .
تعد هيمنة الشاعر بوجدانه وفكره على أدوات القصيدة اقصاء لمفهوم الرؤية وتكريسا لسلطته وعزله للمتلقي ، أي أن منتج النص - الشاعر Poet - جلس في برجه متمتعا بمملكته ( متن النص المخلق ) تاركا المتلقي في الحاشية وعليه أن يقبل بنصه كيفما كان وكيفما يشأ .
ان القصيدة الحداثوية (Modernist poem) سواء كانت ( نثرية أو عمودية أو تفعيلة أو هايكو ) لابد أن تتمتع بمزايا وخصائص من أهمها قدرتها أن تطور نفسها وتنميها من خلال تمردها على البنية السائدة وبلغة تنسجم مع اللحظة الشعرية ( The poetic moment ) والزمان والمكان وتمثل فكرة كاتبها بعيدا عن الغموض والطلسمية تأخذ من الرمز ولا يغدو الرمز بديلا عن فكرتها ، وعلى الشاعر أن تتجلى فكرته عن غموضها ، وتكتب بلغة تناسب وتتسق مع موضوعتها ، فان كانت الفكرة متمردة ثائرة فلابد من توظيف الألفاظ التي فيها نبرة عالية ومفردات فيها حماسة وثورية وان كانت القصيدة تبحث في صفاء ونقاء النفس وتجلياتها فلا بد ان تكون الألفاظ هادئة شفيفة ... الخ .
ــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
• (1) مقال ( القصيدة الحديثة غامضة - جهاد فاضل جريدة الرياض الاثنين 6 جمادى الأولى 1437 هـ- 15 فبراير 2016م - العدد 17402
• (2) صلاح عبد الصبور - حياتي في الشّعر، دار العودة، بيروت، ص107-109- فريدة سويزف – الجزائر - التّجديد في القصيدة العربية – مجلة عود الند العدد 93 - 2017
• (3) زكي العشماوي، الأدب العربي الحديث واتّجاهاتهم الفنّية، مؤسسة جابر عبد العزيز مسعود (البابطين للإبداع الشعري) ص 262.
• (4) يوسف الخال – نظرية الشعر - مجلة شعر، القسم الأول/ المقالات/ تحرير وتقديم : محمد كامل الخطيب/ منشورات وزارة الثقافة – دمشق



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن