عرض *إن عاش* عندما يُصبح أُناسنا بقشيشاً للشعوب

إيرينى سمير حكيم
jepols_potros10@yahoo.com

2017 / 9 / 19

عند مشاهدتك لعرض "إن عاش" والذى يجسده اثنان من الفنانين ستجد نفسك بعد لحظات احد ابطال تلك الحالة التى يقدمونها والتى تبعث شعورا دفينا بصخب فوضى عارمة انتهى حدوثها للتو .. وقد أزجت بهما فى بوتقة عبثية من المشاعر والاحلام، لتكتشف بعد حين انها لم تنتهى ابدا بل تبعث بأمواجها لتجتاح كيانهما وكيانك من حين إلى حين .. وربما .. لم تكن قد بدأت بالفعل!

لتستشعر عند دخولك إلى عالمهم وكأنك دخلت إلى حجرة ترى فيها اثار ملاعق وشوك وسكاكين ملقاه على الأرض بجوار مائدة تم الانتهاء من الطعام عليها .. ولكنك لا ترى الطعام ولا ترى الآكلين .. بل ترى تلك الأدوات ملقاه من المستخدمين .. ليدخل ويقترب من دنوها آخرين جائعين .. ليجدونها فارغة حتى من الفتات .. خاوية مُستهَلَكة على أرض من الفراغ والعزلة والإهانة.

لقد تم للتو الإنتهاء من الطعام ... فهناك أُناس أكلوا وأمتعوا حواسهم وانسانيتهم .. وهناك من لم يجد سوى تلك الأدوات نازفة على أرض من الغربة ساقطة من مكانتها مثلهم ... فمن أكلوا لم يكترثوا حتى بتركها على مائدة إشباعهم! ففرص إطعامهم ليست لآخرين.

لم يتبقى سوى العِوَز .. لم يبقى سوى نباح الاحتياجات اللاهثة
ولم يَقم سوى حُطام أمنيات واستجابات ملأت محيط الموائد الفارغة

ولكن للأسف
من دخلوا نطاق تلك الحجرة السادية قد أمسكوا بأدوات الطعام من على الأرض ليضعوها فى افواههم طامعين فى اطماعهم!

هذا المشهد المذكور ما هو إلا مجرد انطباع موازى للمشهد الأصلى الذى قدمه العرض ودَّونه فى نفوسنا بحِرفية عالية فى الأداء مُلخصا لوجع حىّ فى نفوسنا ومجتمعنا مدونا صورة من حاضر تاريخنا المستقبلىّ.

مستعرضا محالاوت مستميتة لإثنان فى حالة انسانية ما بين الحياة والموت يحاولان الهرب إلى اوروبا فى هجرة غير شرعية وفى استعداد منهم لمواجهة الحياة أو الموت.

فهل رأيت ما فى مثل أُناسنا من حيث تَوَفُر تلك العمالة الجادة فى بناء حضارات أخرى بحثا عن حرية حياتهم فى أزقة حيوات اخرين؟

بل رأيت كم هو مؤلم أن تشاهد من أُناسك باحثون عن الحياة وهم يقضون بحثهم المُضنى عنها فى خنادق فرص مفخخة بالموت .. وهم لا يأبهونه بل يسعون بجدية الغريق فى التشبث بهذا الفتات من الفرص فى المعيشة؟! معتزون متغنون بمظاهر الموت؟!!

نعم تراه ونراه .. بإستمرار

ولقد اتضح ذلك فى العرض وانعكس فى عدة إشارات منها مثلا كلامهم المُشَتَت بلغات أوروبية عِدَّة .. متشدقين بلباقة تنوع ذكرها والتفاخر بمعرفة أماكن وتذكارات حضاراتها!

وكم كانت تعيسة تلك الكلمات وهى تُنطَق منهما .. وكأنها ألسنة تُطلِق صيحات حرب بعدة لغات لمحتلين .. يبعثون باستعراضهم البغيض للقوة وتهديداتهم الوقحة بالاحتلال فى أذنى.

ولقد كانت تلك هى المرة الأولى التى أمقت فيها سماع تلك اللغات الأنيقة!

فلقد كان وقعها على مسامع نفسي سخيفا مخيفا متحفذا لاستفزازى!

للأسف لقد ذابت هويتنا فى بوتقة غريبة من الغربية .. أو زالت رغبتنا فى هويتنا ... فمن الممكن أن تبدو للبعض وكأنها باباً للخوف .. باباً للمجهول .. باباً للوطنية غير المُتَرجمة .. فلربما أصبحت مفاهيم الوطنية أعجمية فى دواخلنا .. نعم فمن المحتمل أننا اصبحنا لا نملك أحيانا فَك شفرات تلك الوطنية الموروثة والتى تجرى فى دمنا .. بينما من الأكيد أننا أصبحنا ضحايا صراع نفسي اجتماعي .. نعشق الوطن ونموت فيه .. وبين الحالتين طاقة من هستريا الحزن والألم تحمل طعنا للمنطق يتزايد يوما بعد يوم!.

ولقد عبَّر العرض عن هذا الصراع النفسي بحالة فائضة من الذعر .. تطغى على كل منهما عند حدوث ضجة من أصوات تتماهى بين صيحات حرب وشجار رجال وهتافات ثورية وأغانى شعبية .. هذا المزيج المخزى من حياتنا اليومية التى إنتُهِكَت فى ساحاتها آدميتنا بلا شعور بالذنب وبلا توبة!.

ولقد كان رد فعل كل منهما أمام هذا الفيض من الضجيج المخبول .. تعبير رائع عن الجُبن والخوف .. بهروب كل منهما إلى زاوية يزرع الممثل فيها نفسه كالبذرة بين الجمهور لعله يحتضنه كما تحتضنه الأرض فتعطيه آمانا واطمئنانا حتى تَعبُر أصوات تلك الهيستريا فى سلام ... فبينما يختبئون يمسك أحدهم بإحدى الاوراق جاعلا منها مركبا ليُفرغ فيها حلمه كالطفل المُعَاقَب بالحبس فى غرفة مظلمة راسماً على حائطها نافذة لعله يتذوق الهروب! والأخر يقف تائها بين نبضات قلبه المسرعة وغارقا فى صرخات عرقه الخائفة.

ولم يكن تجسيد الهروب فقط مُمَثَّل فى كتل أجسادهم المختبئة المنكمشة، إنما أيضا فى تعبيرات عيونهم المتسترة خلف أمل تفريغ زيغانها وتشتت رعبها .. كم كان هذا التعبير لكليهما مؤثرا بشدة عن مدى الضعف والخوف والأمل المجذوب.

وبعد هذه المرحلة من الدخول فى أعماق نفوسهم الهزيلة يقوموا ليستكملوا طموحهم فى السفر واستعراض آمالهم سابحين فى حالة من الخيال الذى يُقبِّل أيادى الثقافات الثرية المُشتهاه بعيدة المنال.

بينما جنون الحقيقة لا يتوقف عند هذا الحد .. فالجنون لا يعترف بالمنطقية ولا التسلسل أو الترتيب .. فهما مقهوران ويقهران بعضهما البعض .. هما حُطام بشر ولكنهما مازالا يملكان من الطاقة التى تكفى لإستمرار أحلامهما بهدم حلم الأخر والسخرية منه .. وكلاهما يبحث عن سيادة القاع اللذان على وشك الغرق فى مياهه الفاسدة إلى الابد.

فهما ضحيتان وهما جانيان .. هما مفعول بهما وهما فاعلان!
وهذه هى طبيعة الحال فالتناقض هو السيد الحقيقى للموقف!!

ويستمر العرض بحرص على كشف أعماق الأزمة لا من زاوية المجتمع وحسب ولكن من زوايا نفوسنا بشكل أدق وبإيقاع اسرع من المتوقع! .. ويشير إلى أننا أصبحنا نَعرِض ونُعرِّض أنفسنا للموت من أجل فتات بل أصبحنا حتى لا نتوصل للفتات ..

فتات من انسانية من أكلوا من احترام النفس وشَبعوا .. والذين قد اشتهى مشاركة شِبَعهم أناس لم يكترث بهم أحد من هنا أو من هناك .. ولم يعنى أحد بكم كونهم محتاجون وطموحون وكم هم محقون ومذنبون .. ويبقى الوضع على ما هو عليه من الإهمال فى تصحيح خطأ المتكبر وخطأ المعذور.

مُسلِطا العرض الضوء على خطأ جعل هؤلاء فى اشتهاء للمجازفة بحياتهم لأجل الحياة خارج أرضهم .. حيث خطأ بداخلهم كما هو خطا فى محيطهم .. وأوضح كم هما فى حصار نفسي بين حجرى رحى الحق والذنب!

وهنا أود أن اطرح سؤالاً
عزيزى المشاهد للعرض او القارئ لهذا المقال والسامع بتلك الحوادث عن الهجرة غير الشرعية

هل تعتقد حقا أن الأمر يتعلق وحسب بهجرة غير شرعية على مركب وأن هناك أناس يزيدون عنك فقرا .. مختلفون عنك مختلون أكثر منك .. جازفوا بحياتهم لأجل حياة أفضل وجثثهم عَلَقت فى البحر .. أو منهم من استطاع الوصول وعاش بقايا انسان هناك بعد ممارسة بقاياه الحياة هنا؟ وأنك بعيدا كل البعد عن هذه القصص والاخبار المأساوية؟

لا تتسرع فى الإجابة

فنحن جميعا عالقون فى هجرة غير شرعية للغرب نهرب بها خفية بعيدا عن الأنظار الناهشة لإداناتنا بتفاعلات غير صريحة متحذلقة .. معتقدون أننا بإمكاننا إخفاء حقيقة هجرتنا فى أماكننا بطرق متعددة .. عن طريق لغاتنا المتجددة وطرق افكارنا المتحولة وخطوط ملابسنا المُقلَّدة .. والتى نعيشها فى مواقع تواصل افتراضية أو فى ادعاءات مظهرية فى واقع التواصل

لحظة واحدة!
فأنا لا أتحدث عن الإلمام بمظاهر الإيجابية الانسانية بحيادية
ولكن فقط عن التقلد الأجوف الرقيع لثقافات آخرين بلا انسانية!!!

وهذا ما يكشفه العمل بين طياته حيث التعبير النصى والحركى الدقيق عن حالة شغف جنونية للتقلد والتفاخر بمظاهر غربية .. بهوسٍ ضخم متوج بأعذار وإدانات فى نفس الوقت .. وبين ثنايا تلك التعبيرات تجد نفسك ومن هو على مقربة حوار ومشاركة من واقعك .. واقع بين تلك الجملة هنا أو فى هذا المصطلح هناك.

ولا اجد فرقا بيننا وبين حالة من يعبر عنهما هذا الممثلان .. حيث نتعاطى أمنيات هجرة شرعية وغير شرعية ونأمل فى الهروب مرفوعين الرأس فى طائرة أو على وجه بحر غارقين .. فالأمر سيان فنحن فى الأمل الغربي غارقين مستغرقين متغربين عن عالمنا الوطنى الشخصي ..

حيث نبحث عن الهرب لا عن التجوال ... والفارق عظيم.
والاختلاف بين آخرين وبينهما فقط هو .. أن هناك موت متأنق وموت ذميم

ولكن ألا مخرج من الموت إلا بالموت؟
كلا
فالواقع ليس بتلك القتامة بالرغم من وقاحته والعرض ليس بذلك الإستسلام بالرغم من صراحته!

فوجود عرض تفاعلى واقعى مثل هذا بتلك المناقشة الإبداعية الفنية والنفسية الذهنية .. دليل على أن هناك مَخرَجا متوفرا بكل تأكيد ..
وهو المواجهة .. مواجهة أسباب الموت فى محيطنا وفى داخل نفوسنا وأفكارنا المشوهة واراداتنا المعاقة

فالحقائق الفعلية تُقر أن فَضح الفن للحقيقة بالإبداع سُترة لعرى الواقع

لقد كشف عرض "إن عاش" واقعنا المخزى فى ما وصلنا إليه بتعلقنا المتفاخر المخجل بالغرب والغَير والغيرة العاجزة، كشف كم نحن مستحقون وغير مستحقون لواقعنا، كشف تناقض واقعنا وتناقضنا، ولقد أرسَل بإجابات وأسئلة محفزة على التوازى للتحرك والفعل.

وأَرسَى ظلال صورة ما أصبح فينا من عِلَّة بمن أصبح منا بقشيشا تتداوله شعوب إكراما لها على خدماتها حتى بقى هو الطُعم والسمك الصغير فى بحر الإستفادات والمصالح الإنسانية التى تقودها قوى أكبر من طاقاتنا البشرية المُستَهلَكة على مدار قرون وقرون ... فنحن آخر ثروة حقَّة على أرض هذا الوطن ..

إن لم نُنفق كل ما تبقى لنا من مثابرة وقوة للحفاظ على انسانيتنا فى هذه الأرض .. فسنبقى مثل السمك النافق فى بحر العالم!!.

لقد قدم الفنانان عرضا عن قضية قُدِمَت كثيرا وتتكرر كثيرا وكثيرا .. إنما بطريقة خاصة وجديدة تمتلك روحا خاصة .. عبَّروا بها بطلاقة وبلاغة .. بلغة لسان وجسد وتعبيرات صامتة بإمكانيات بسيطة ماديا وضخمة ابداعيا .. وهو عرض يُوضَع فى ميزان إدانة الكثير من العروض الأخرى التى تعتمد على البهرجة الإنتاجية والأدائية ولا تُثمر سوى فراغ.

العرض مدته حوالى عشرون دقيقة وهو ما يتيمز به هذا العرض الخاص فى الجودة والفكرة .. فلقد كان بمثابة كُرة البولينج التى ألقت بنفسها فى عدة زجاجات رمزية مُستَهدِفة عدة معانى مُسقِطة إياها فى جراب الإشارة والتأثير فى مساحة دقيقة من الوقت.

عرض "إن عاش" تمثيل : محمد فوزي - عماد اسماعيل .. كوريوجراف : محمد فوزي .. مخرج منفذ : محمد طلعت .. ولقد تم الاستعانة في النص ببعض احلام الأديب العالمي نجيب محفوظ من كتاب " أحلام فترة النقاهة الاخيرة .. الاعداد الموسيقي : عزت مصطفى .. فوتوغرافيا : شادي احمد .. العرض كتابة واخراج : عماد اسماعيل.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن