اليوم (14 آذار) يقف اللبنانيون للدفاع عن دور لبنان الحضاري، العربي والإنساني

عارف علوان
arifalwan@yahoo.com

2006 / 2 / 14

كل المثقفين العرب يتمنون لبيروت أن تستعيد عافيتها ودورها الثقافي القديم. لكن، إذا بقينا جميعنا نكتفي بما تتمناه العاطفة، لن يبقى لبيروت من دور ثقافي يفيد أحداً، لأن لبنان نفسه يواجه هجمة قاسية تزداد تشعّباً وتعقيداً، تستهدف ديمقراطيته وسيادته في المقام الأول، وهما عاملا التحضّر اللذين شيدت بيروت على صرحهما عطاءها الثقافي المتميّز.
لقد شعّت القاهرة في الأربعينات ثم انطفأتْ، وتبعتها بغداد ودمشق، كما أضاءت شموع أخرى في المغرب العربي ثم خفت نورها إثر ضربات عنيفة، إسلامية وقومية، تقاتلا على السلطة، لكنهما اتفقتا على محاربة أي نور ينبعث في الداخل أو يأتي من الخارج يرفع من القيمة الإنسانية للفرد العربي، ويتكاتفان الآن في نمط جديد من التحالف لشنّ هجمة مستميتة هدفها إخماد ديمقراطية اللبنانيين وتمزيق سيادة بلدهم، فهل ننتظر اكتمال الانطفاء الجديد لنعكف على معاينته والنواح عليه، أم يلزمنا هذا الوضوح الشديد للأمور اختيار الوقوف إلى جانب تحصينات الغالبية العظمى من اللبنانيين المدافعة عن الحرية والتحضّر؟
ضمن سياقها الثقافي، قدمت بيروت عنصراً حضارياً أثرى محيطها العربي، وبعد الحرب الأهلية التي لعب فيها الخارج، القريب والبعيد، دور المؤجج والمغذي لأسباب التنافر، شُلّ هذا الدور تماماً، وباحتلال إسرائيل شريطاً حدودياً جنوب لبنان ظهر سلاح حزب الله، رافضاً أي مشاركة وطنية للاحتفاظ بهوية ضيّقة وطابع ديني للمقاومة، يوظفان اليوم لخدمة أيديولوجية غيبية تستلهم مواقف واجتهاد المرجعيات الدينية في إيران، مما يعني أن تكديس السلاح والأئمة في جنوب لبنان لم يكن لتحريره، وقد تحرر ميدانياً بانسحاب القوات الإسرائيلية عام 1990، إنما لترسيخ نفوذ سياسي ومذهبي، غيّب عن جزء من المجتمع اللبناني كلمات مثل الديمقراطية، التحضّر، العالم المتمدن، وأقام مجتمعاً ذكورياً وجهه الطاغي البرقع والعباءة الإيرانية السوداء، الغريبان كلياً حتى عن الطائفة الشيعية اللبنانية من قبل، ويعمل الآن على حصر مفهوم حرية التعبير عن الرأي بتأييد ما تعتبره قيادته، وحدها، مناسباً لمصير لبنان ومستقبل شعبه، وهما، البلد والشعب، معتادان على التنوع ومحبّان للحرية والتجديد.
فيما يخصّ بيروت، المدينة، لم يسبق لأيديولوجية، سياسية أو دينية، أن تطفّلت على ثقافتها من دون أن تشوّش عليها وتعيق تطوّرها، بينما خدم المبدعون اللبنانيون في فضاء الحرية كل القضايا النبيلة، وهذا ما لا تريد العقائد التسليم به، لأن روحها قائمة على التزمّت والخوف من الفضاء المفتوح. وعندما خرج اللبنانيون قبل عام من اليوم، أي في 14 آذار، بعد اغتيال الرئيس الحريري، مطالبين بإنهاء الوصاية السورية وتبعاتها من رقابة وإرهاب وفرض لون واحد من التفكير، لم يقابل المسؤولون في دمشق هذا المطلب المشروع بتسامح ولم يتفهموا مقتضياته، بل سيطر عليهم الشعور بالإهانة، والغضب، وأصيبوا بحمى الرغبة في الانتقام لمعاقبة شعب يجرؤ على التفكير علانية في الحرية وحقّه في اختيار الحياة التي تناسبه!
ومن الإسفاف بمكان مناقشة أسباب وذرائع نظام دمشق لردّة فعله القاسية، والغير عقلانية، لأن الشعب السوري ذاته يعاني من أساليب وأدوات حكومته في معالجة مسألة الحرية والحق في المصارحة بالرأي، مما قاد إلى العزلة وتفشي الفساد والعقم الثقافي الذي أصاب خيال الأجيال السورية الأخيرة، وهي النتائج التي تثمر في أدغال كل النظم الشمولية بلا استثناء، لكننا نعلن عن قلقنا البالغ مما أدت إليه نفس الأساليب والأدوات التي انصبّت على لبنان بلا رحمة، وما فتأت تهدد سيادته واستقرار شعبه، فقط لأنه يريد ممارسة الحياة بعيداً عن مصابيح الظلام، سواء قدّمت له باسم العروبة، وهي بريئة منها، أو باسم التحرير، وهو إنجاز يرافقه التمدّن والتنوير!
لقد ظلت بيروت تقدم للعرب وللعالم الفنّ والأدب والفكر في حلّل متجدّدة جذبت إليها المبدعين من كل أنحاء العالم، لكنها أصبحت خلال العقود الثلاثة الماضية منطوية على أحزانها، ومنطوية الآن على عتمة الانتقام الذي يهددها ويهدد أبناءها الموالين لحرية بلدهم، لذلك لم يعد العرب يجدون ما يغريهم فيها، وأشاح الأوربيون عنها بحثاً على مراكز الإبداع في العواصم الأخرى، وهذه كارثة لا تفهم الأيديولوجيات السياسية والغيبية خطرها، لأنها غير معنية بالقيمة الثقافية للمدن والبلدان.
دائماً نحلم أن تُعامل الكلمة والإنسان كمخلوقين حرّين، غير ملحقين بالأطماع الضيقة للحكام والأحزاب، بَيدَ أن الأيديولوجيات السياسية والدينية التي أضفت خَرَف اليقينيات المتحجّرة على قضايا العرب الرئيسية: الديمقراطية والإنماء، لا تعرف غير التبشير بالسحق، سحق البشر، وسحق المدن المضيئة بما تعطي من ثراء فكري وأدبي وفني للإنسان.
بناءاً على هذا التوجه الخطير الذي ما فتئ يلّوح براياته الظلامية في وجه اللبنانيين وعلى حدود بلدهم، دون أن يرتوي بما سحق حتى الآن من زعماء وسياسيين ومفكرين وصحفيين آخرهم النائب والكاتب جبران تويني، وإيماناً بدور لبنان الحضاري، العربي والإنساني، من واجب المثقفين العرب التضامن، في كل ميادين القول والكتابة، مع اللبنانيين الأحرار في وقفتهم الجديدة بساحة الشهداء هذا العام لإحياء الذكرى الأولى لاغتيال الرئيس الحريري ورفاقه، ودفاعاً عن سيادة لبنان واستقرار شعبه.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن