نقد مفهوم -العولمة-وظروف ظهور المفهوم

نايف سلوم
nsaloom@gmail.com

2017 / 9 / 9

أدى فك ارتباط الدولار بالذهب عام 1971 بمبادرة من نيكسون ، إلى تعاظم إمكانية توليد مشتقات مالية تعاظماً كبيراً (سندات الخزينة وديونها ، الأسهم ، أوراق اسمية للنقود ) وتعاظم ما يسمى الاستثمار في "حافظة الأوراق المالية" كما ظهر في هذه الفترة ما يسمى بـ التكنولوجيا ذات الطابع الدولي. إن التكنولوجيا الجديدة ، التي دفعتها الحرب العالمية الثانية إلى الأمام دفعة قوية ، ذات نطاق عالمي أكثر بكثير من التكنولوجيا القديمة، ومن ثم فإن لها دلالات خاصة بالنسبة لسير العمليات الإمبريالية الجارية وفي المستقبل. وأوضح جانب لهذا النطاق هو تكنولوجيا الفضاء . فذلك العدد الكبير من محطات "الفضاء" حول الكرة الأرضية التي يديرها الفنيون الأميركيون هو أحد سمات الموقف الدولي . وكذلك يعتبر الدور الرائد للأقمار الصناعية الأميركية كوسيلة للاتصالات إحدى هذه السمات. فلم تعد "لايف" و "ريدرزدايجست" و "تايم" وأفلام هوليود ومطبوعات جهاز الاستعلامات الأميركي فقط في متناول الجميع، بل أن برامج التلفزيون الأميركية أيضاً صارت من الممكن رؤيتها فوراً: جميع الوسائل النافعة في تحقيق الوحدة "الثقافية" التي تعكس قيادة الولايات المتحدة للنظام الإمبريالي . وجاء مع هذا أيضاً ترتيب قانوني دولي جديد ، كما أشار وزير الخارجية راسك : "ولنشرع في بناء نظام واحد في العالم كله للاتصالات عن طريق الأقمار الصناعية أنشأنا مؤسسة دولية جديدة تسهم المندمجات الأميركية في ملكيتها بنصيب مع 45 حكومة"[1]
بالإضافة إلى ذلك ، لتكنولوجيا الطاقة الذرية والعقول الإلكترونية(شبكات الربط الإلكتروني؛ الإنترنت والهاتف النقال) سمات دولية خاصة . فالاستثمارات الضخمة في البحوث والتنمية التي تتطلبها هذه الصناعات تتيح ميزة خاصة للمندمجات التي تبلغ من كبر الحجم درجة توفر لها العمل على نطاق دولي .. ينبغي أن نلاحظ التزاوج السعيد بين التكنولوجيا الجديدة والمندمجات الدولية
يضاف إلى ما سبق الدور المذهل الذي بات يلعبه الاستثمار المباشر للولايات المتحدة في الاقتصاد العالمي . فطبقاً لما يؤكده المجلس الأميركي لغرفة التجارة الدولية يتجاوز مجموع قيمة إنتاج الشركات الأميركية في الخارج كثيراً عن 100 بليون دولار في العام. أي أنه على أساس مجموعة الإنتاج تعتبر المشروعات الأميركية في الخارج ثالث اقتصاد في العالم إذا صح أن نستخدم هذا المصطلح... وبطبيعة الحال تعتبر هذه المشروعات من كبار مستهلكي المواد الأولية والعناصر الأخرى المحلية التي تتكون منها المصنوعات." غير أنه من الجلي أن مركز الولايات المتحدة كمستثمر خارجي في أوربا متفوق على الجميع. بكلمة، فإن تدويل رأس المال بين البيوت العملاقة بلغ اليوم مستوى أكثر ارتفاعاً بكثير مما كان عليه ً عندما كتب لينين مؤلفه عن الإمبريالية[2]
وعلينا أن نضيف و نقرر كقانون للرأسمالية الاحتكارية : أن الفائض الاقتصادي يميل للارتفاع من حيث حجمه المطلق ومن حيث نسبته إلى الناتج الكلي معاً كلما تطور النظام الرأسمالي.
يحقق النظام الرأسمالي الاحتكاري زيادة في فائض الإنتاج عبر الآليات التالية:
1- التسعير الاحتكاري
2- ميل تكاليف الإنتاج للانخفاض نتيجة التقدم السريع والمتواصل في التكنولوجيا وفي إنتاجية العمل
3- إعانات الدولة الرأسمالية الاحتكارية (الدولة الإمبريالية) للبحوث الزراعية والصناعية وإعانات تسهيل اندماج الشركات القومية في الصناعات الرائدة (شيبات الذاكرة ) بهدف زيادة حصة الشركة "القومية " الأميركية في السوق الدولية.[3]
قد يبدو هذا من ناحية الشكل حجة في مصلحة الرأسمالية الاحتكارية ، إذ تبدو على هذا الشكل نظاماً رشيداً أو تقدمياً. ولو أمكن فصل اتجاهها لخفض التكلفة عن التسعير الاحتكاري على نحو ما ، وإيجاد وسيلة لاستخدام ثمار الإنتاجية المتزايدة لمصلحة المجتمع ككل ، لأصبحت هذه الحجة قوية فعلاً. ولكن هذا بالضبط ما لا يمكن تحقيقه. إن الحافز الكلي لخفض التكلفة هو زيادة الأرباح ، ويمكّن تركيب الأسواق الاحتكاري الشركات من الحصول على نصيب الأسد في ثمار الإنتاجية المتزايدة على شكل أرباح أعلى. وهذا يعني أن التكاليف المتناقصة في ظل الرأسمالية الاحتكارية تنطوي على توسيع حدود الربح باستمرار. بدوره ينطوي توسيع حدود الربح باستمرار على أرباح إجمالية تزيد ليس فقط بصفة مطلقة وإنما كحصة من الناتج القومي أيضاً. هكذا تتراكم باستمرار كتل نقدية هائلة لدى حفنة من الدول الإمبريالية سوف تجد مجالاً لتحركها في القروض قصيرة الأجل للدول التي تخضع لشروط صندوق النقد الدولي ، وفي المضاربات المالية الدولية عبر بنوك الرهن العقاري وصناديق الاستثمار.
وجاءت الفترة بعد حرب 1973 في الشرق الأوسط بين العرب وإسرائيل وما تلاها من ارتفاع كبير في أسعار النفط ، لتحرك موجة من الكساد العالمي . فإذا ما ربط هذا الكساد وبطء نمو الاقتصاد الرأسمالي مع التحسس الإمبريالي لتباطؤ النمو السوفييتي باتجاه انعدامه ، نستطيع تبصر ما قامت به حكومة الولايات المتحدة في عهد ريغان وحومة المملكة المتحدة في عهد تاتشر من إجراءات ليبرالية جديدة شملت الاتجاه نحو خصخصة مؤسسات الدولة وشملت أيضاً تحرير حركة رؤوس الأموال العاملة في الاستثمار المباشر؛ خاصة رأس المال قصير الأجل والمضاربات الدولية
واعتباراً من 1979 سنة الإعلان الرسمي عن تبني هذه السياسات الليبرالية الجديدة ، سوف تظهر القروض قصيرة الأجل و المضاربات المالية كوسيلة لتحريك الفائض الاقتصادي من دون زيادة في الإنتاج الحقيقي ، لكنها ستلعب في الوقت نفسه دوراً مدمراً لأسواق بكاملها (أزمة النمور الآسيوية وانهيار أسواقها 1997 ، ومن ثم أزمة الغذاء العالمي والارتفاع الجنوني في أسعار مواد الغذاء الرئيسية خاصة الأرز، والارتفاع الجنوني في أسعار النفط الخام ) ، وآخرها الأزمة المالية والاقتصادية التي عصفت ببنوك الاستثمار وبنوك الرهن العقاري في الولايات المتحدة وامتدت بسرعة لتشمل الاقتصاد الرأسمالي عامة متسببة بموجة ركود اقتصادي وكساد شاملة.
ففي صيف 1997 "تعرضت النمور الآسيوية لحركة واسعة من المضاربات وهروب رؤوس الأموال إلى الخارج بكميات هائلة مما عرّض موازين مدفوعاتها لعجز شديد. وقد تم تمويل هذه المضاربات من خلال التحويلات الخاصة والقروض الخارجية قصيرة الأجل التي شكلت في التحليل النهائي ، أموالاً ساخنة Hot Money تتطاير بسرعة من سوق نقدي لآخر في شكل أسراب جارحة تنقض على الأرباح الموجودة في ما سمي بالأسواق الناشئة بجشع شديد . ثم تلتهمها وتخرج سريعاً للخارج إلى سوق آخر ...
والحقيقة أن التزايد الهائل الذي حدث في حركة رأس المال الدولي المضارب في السنين الخمسة الأخيرة [1994-1999 ] إنما يعود إلى تأثير عولمة[انفلات] أسواق النقد من خلال تحرير المعاملات المالية وسرعة حركة وانتقال رؤوس الأموال في لمح البصر عبر وسائل الربط والاتصالات الإلكترونية بين مختلف أصقاع العالم وصعوبة مراقبة هذه الحركة من قبل البنوك المركزية . كما عضّد نمو هذه الحركة تطور الابتكارات المالية التي وفرت أشكالاً مختلفة ومتعددة من الاستثمار المضارب . كما عكست هذه الحركة النشاط الواسع الذي قامت به الشركات عابرة القوميات في هذا المجال وكذلك نشاط ما سمي بصناديق الاستثمار Investment Funds التي يصل عددها الآن على صعيد العالم إلى حوالي 770 صندوقاً استثمارياً ضخماً. تم حشد الموارد المالية لها من شركات التأمين وصناديق التأمين والمعاشات وكبريات الشركات الصناعية . وهذه الصناديق تتعامل الآن في أصول مالية تتجاوز بكثير حجم الاحتياطيات الدولية التي تملكها البنوك المركزية في مختلف دول العالم. وتشير البيانات المتاحة إلى أن المعاملات المالية في الأسهم والسندات عبر الحدود (للمقيمين وغير المقيمين) في البلدان الصناعية كانت في حدود 10 % من الناتج المحلي الإجمالي في هذه البلدان في عام 1980 ، لكنها الآن ، تزيد على 100 % من هذا الناتج .. وقد ارتبط تزايد المعاملات المالية العالمية في الأسهم والسندات (أو فيما يسمى بالاستثمار في الحافظة المالية Portfolio Ivestment) بذلك النمو غير العادي الذي حدث في تداول النقد الأجنبي يومياً على الصعيد العالمي . فالمتوسط اليومي لحجم المعاملات في أسواق الصرف الأجنبي قد ارتفعت من حوالي 200 مليار دولار في منتصف الثمانينات إلى حوالي 1,2 تريليون دولار يومياً في عام 1996 ، وهو ما يعادل 85 % من حجم الاحتياطيات الدولية لجميع بلاد العالم . وذلك يوضح مدى الصعوبة التي أصبحت تواجهها البنوك المركزية في التأثير في أسعار صرف عملاتها الوطنية أمام جحافل رأس المال المالي الدولي قصير الأجل."[4]
"هذا النشاط المضارب الهائل الذي أصبحت تتسم به الحركة الدولية لرؤوس الأموال وعلى نحو يتجاوز بكثير حركة الاستثمارات الأجنبية المباشرة ، أصبح يشير إلى حقيقة خطرة جداً . وهي أن الشطر الأكبر من الأرباح التي أصبحت تحققها كبريات الشركات الصناعية في العالم لم يعد يتحقق في مجال الإنتاج الحقيقي ، بل في الاستثمار في حافظة الأوراق المالية . وهذا دليل دامغ على الطابع الطفيلي الذي تتسم به الرأسمالية الاحتكارية المعاصرة (الإمبريالية الرأسمالية) . كما أن هذا النشاط المضارب يقف وراء كثير من الأزمات النقدية والمالية التي حدثت في بلاد كثيرة (ومن بينها دول النمور الآسيوية) بسبب ما يسببه من ارتفاع جنوني في الأسعار دون مبرر حقيقي . ثم هبوطها مرة واحدة. تماماً مثل بالون ينتفخ أكثر من اللازم ولا بد أن تأتي لحظة انفجاره . وفي ضوء هذا النشاط المحموم والجنوني الذي حدث في ارتفاع أسعار الأصول المالية والمادية بسبب المضاربات نشأت ما تسمى " الاقتصادات المنفوخة ) التي من أنشطة المضاربات وتتهددها الأزمات " [5]
وإذا أضفنا سعي النظام الإمبريالي لاستعادة ما فقدته الشبكة الإمبريالية بعد الحرب العالمية الثانية وتفكك الدولة السوفييتية كعقبة كانت قائمة أمام حرية التحرك الأميركي الإمبريالي تكون لوحة ما يدعى بالعولمة قد اكتملت .
"فبعد انتصار الثورة الروسية 1917 دخل عنصر جديد في هذا الصراع التنافسي : النزوع إلى إعادة السيطرة على هذا الجزء من العالم الذي انفلت من النظام الإمبريالي والحاجة إلى منع مناطق أخرى من الهرب من الشبكة الإمبريالية. ومع نهاية الحرب العالمية الثانية أدى اتساع الجزء الاشتراكي من العالم وتحطيم القسم الأكبر من النظام الاستعماري إلى زيادة حدة النزوع إلى إنقاذ أكبر قدر ممكن من الشبكة الإمبريالية واستعادة الأقاليم التي فقدتها. وفي هذا الإطار يتخذ الغزو صوراً مختلفة حسب الظروف: عسكرية وسياسية واقتصادية ."[6]
ومنذ 1945 كانت الظاهرة الجديدة هي تولي الولايات المتحدة زعامة النظام الإمبريالي بأكمله. إذ أنه نتيجة لنضجها الاقتصادي وقوتها العسكرية من ناحية وللتدمير الذي أحاق بمنافسيها من ناحية أخرى صار لدى الولايات المتحدة القدرة والفرصة لتنظيم الشبكة الإمبريالية المعاصرة وقيادتها.. وقد سارت عملية تنظيم النظام الإمبريالي بعد الحرب عن طريق الوكالات التي أنشئت قرب نهاية الحرب : الأمم المتحدة، البنك الدولي ، صندوق النقد الدولي. وقد استطاعت الولايات المتحدة ، لأسباب مختلفة ، أن تمارس في كل منها دور الزعامة. وتم تدعيم هذا النظام عن طريق أنشطة هيئة التعمير والإغاثة ومشروع مارشال وبرامج المعونة الاقتصادية والعسكرية العديدة التي تمولها واشنطن وتسيطر عليها. [7]
لقد حاول أيديولوجيو الإمبريالية إحلال "العولمة " كمفهوم أيديولوجي وهو يؤشر إلى تحولات جزئية في عمل الإمبريالية وسياسات ليبرالية جديدة قائمة على حرية حركة رؤوس الأموال عبر الدول وعلى خصخصة المشروعات وعلى محاولة إعادة الأجزاء التي تفلتت من الشبكة الإمبريالية ، ومعتمدة على التطور التكنولوجي ذي الطابع الدولي ، محل مفهوم الإمبريالية الاقتصادي/ السياسي الشامل وذي المغزى الاجتماعي (الطبقي). لكن المحاولة فشلت إلى حد كبير مع سلسلة الغزوات الأميركية ومع احتلال العراق وأفغانستان وأخيراً مع الأزمة المالية والاقتصادية الكبيرة التي انفجرت عبر إفلاس بالجملة لبنوك الاستثمار وبنوك الرهن العقاري في الولايات المتحدة
وبعد : فإن "الدرس الهام الذي يجب تعلمه من تاريخ الرأسمالية هو أن المشاكل الكبرى (الأزمات الاقتصادية) لا تؤدي إلى انهيارها انهياراً أوتوماتيكياً... فمصير الرأسمالية في النهاية سوف تحدده فقط الطبقات الناشطة داخل المجتمع والأحزاب القائمة على هذه الطبقات والتي لديها الإرادة والقدرة على استبدال النظام القائم" [8]
هوامش
[1] هاري ماجدوف: الإمبريالية من عصر الاستعمار حتى اليوم
[2] ماجوف : الإمبريالية مرجع سابق
[3] بول باران و بول سويزي : رأس المال الاحتكاري
[4] د. رمزي زكي : "المحنة الآسيوية "..
[5] د. رمزي زكي : المحنة الآسيوية..
[6] ماجدوف: الإمبريالية مرجع سابق..
[7] ماجدوف : الإمبريالية مرجع سابق..
[8] ماجدوف : الإمبريالية ، مرجع سابق



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن