العراق..وطن منهوب.مقاربة بين نظامين ضدين (2-2)

قاسم حسين صالح
qassimsalihy@yahoo.com

2017 / 9 / 9



توطئة.
تنطلق هذه الورقة من حقيقة ان من يستلم السلطة في العراق فانه يمتلك الثروة ويستفرد بها،وتهدف الى اجراء مقاربات بين النظام الدكتاتوري الذي سقط في 2003 والنظام الديمقراطي الذي خلفه، في ايهما كان اكثر نهبا للعراق واكثر افقارا لأهله. ويعني (النهب) وفقا لقاموس المحيط ،الغنيمة بلا مشقة،فيما نعني به هنا قيام الناس بأخذ او سلب ممتلكات عامة اوخاصة ،وقيام الحاكم بأخذ اموالا وممتلكات تخص الدولة والمواطنين.
***
تناولنا في الحلقة الأولى موجز ما حصل من عمليات نهب في اثناء وخلال سقوط النظام الدكتاتوري( 2003)،ونخصص هذه الحلقة لمقاربات بين حكّام النظامين (الدكتاتوري والديمقراطي) في نهب ثروة الوطن وقوت العراقيين.
المقاربة الأولى: الفساد.
تعود بداياته الى العام 1980 داخل المؤسسة العسكرية تحديدا، بين ضباط وميسوري الحال من المجندين كانوا يدفعون رشا و «هدايا» الى آمريهم للحفاظ على حياتهم او الحصول على إجازة يمارسون فيها اعمالا تدرّ عليهم رزقا أوفر من رواتبهم، الى جانب «شراء» قادة عسكريين بمنحهم اوسمة شجاعة ومكافآت مالية ضخمة وأراضي، خلقت منهم فئة ثرية جدا ولّدت لدى الضباط الآخرين الشعور بالحيف فأخذوا «حقهم» من الدولة بالرشوة والاختلاس، ما نجم عنه «تطبيع نفسي» مهّد للانزلاق الى الفساد.
‎وجاء الحصار الذي اضطر اساتذة جامعة ومدرسين لأن يعملوا (سواق اجرة،وجلاّس «بسطيات») لبيع السجائر، فدخل الفساد المؤسسات التربوية المسؤولة عن بناء الأخلاق ليلوث الضمائر الفتية ويهيئها لمرحلة القبول حين تصبح شابة، لينتقل «التطبيع» الذي مارس عملية «ترويض الضمير» ثمان سنوات، الى حالة " القبول" المبرر نفسيا لثلاث عشرة سنة حصار،عمد فيها كثيرون الى اعطاء ضميرهم الاخلاقي (اجازه) حين رأوا رعاة القوم ينعمون فيما أطفالهم شاحبون وزوجاتهم تتحسر على ثوب جديد.
تلك حيثيات عملت على اشاعة الفساد في زمن النظام الدكتاتوري.غير ان ما حصل في 2003 هو ان التغيير اطاح بالنظام ولم يطح بالفساد. بل انه وجّه طعنة في الظهر تقابل الطعنة التي سددها النظام السابق الى صدر المنظومة القيمية والاخلاقية للمجتمع العراقي..وكانت اوجعها بيد برلمان 2005 التي التف بها على مبدأ الحلال والحرام وطرحه ارضا (بشرعنة قانونية)..افضى ،بعد أن توسع في مؤسسات الدولة، الى توليد انطباع عام لدى الناس هو ان الحكومة غير جادة في محاربة الفساد،بنوعيه(الشرعنة)والنهب. فالمسؤلون الكبار نهبوا ملايين الدولارات ولم يحاسبوا،مما اثار الشك عند الناس بأن صمت الحكومة عنهم يعني انها شريكة معهم. وجاءهم الدليل من المسؤول الأول في الدولة السيد نوري المالكي الذي اعترف علنا بأن لديه ملفات فساد لو كشفها لأنقلب عاليها سافلها،فصار المواطن مقتنعا بأنه لا يمكن لحكومة فاسدة ان يكون رئيسها نزيها، مع انه يعلم أن التستر على الجرم جريمة. وازداد المواطن خيبة واحباطا ان حكومة السيد حيدر العبادي تخلت عن وعدها بمحاسبة الفاسدين،وان معممين ومدّعين بالزهد والنزاهة صاروا يتبادلون التهم علنا بالفساد ،ليوصلوه الى أن يردّ على ضميره : (اذا كان قدوتي يرتكب هذا الفعل..فأنا لست بأحسن منه،واذا كان حراما..فلأضرب ضربتي..ثم اذهب الى الحج واستغفر ربي..والله غفور رحيم!).
ومن غرائب أمور العراق ان رئيس الوزراء السيد نوري المالكي قال في عام 2009 انه تم تخصيص :(18مليار دولار للزراعة،25مليار دولار لبناء وحدات سكنية،25مليار دولار لبناء السكك الحديدية والمطارات،4مليارات دولار لبناء المدارس...)،وان السيد رئيس الوزراء حيدر العبادي تساءل في 2014:أين ضاعت هذه الثروة الضخمة ؟،وهل مقبول ان تضيع على البذخ..،؟. والمفارقة ،أن كليهما من حزب الدعوة! الذي اوصل الحال الى ان يضطر الحكومة نفسها الى الاعتراف بأن الفساد صار وباءا،فضلا عن القوى السياسية والناس والمرجعية الدينية ،التي وصفت الحكومة بان فيها حيتان ولصوص، والتقارير المحلية والعالمية التي اجمعت على ان العراق صار في الزمن الديمقراطي ثاني أفسد دولة عربية ورابعها في العالم،وما كان يعدّ من الدول الفاسدة ماليا في الزمن الديكتاتوري..وبها يسجل العراق الجديد ثلاث مفارقات عالمية غريبة،
الأولى:ان النظام الديمقراطي يمكن ان يكون اكثر فسادا من النظام الدكتاتوري.
الثانية:ان الغرب الذي وصم الاسلام بـ(الارهاب)،أضاف له قادة أحزاب الأسلام السياسي في العراق وصمة جديدة بأنه الأكثر فسادا بين الأديان!.
والثالثة:مع ان الشعب في النظام الديمقراطي يمكن ان يسقط فاسدا في حكومة،فانه لا يستطيع ان يطيح بكبار الفاسدين اذا كان طائفيا ،حتى لو كان اكثر من نصفه ناقما على حكامه.
وقضية علمية اخرى غفلها كثيرون هي ان الأحداث في عراق الزمن الديمقراطي جادت على علماء النفس والاجتماع بما يمكن عدّه نظرية ( او قانون اجتماعي) ،خلاصتها:
(اذا زاد عدد الأفراد الذين يمارسون تصرّفا يعدّ خزيا،
وغضّ الآخرون الطرف عن أدانته اجتماعيا أو وجدوا له تبريرا،
وتساهل القانون في محاسبة مرتكبيه..تحول الى ظاهرة
ولم يعدّ خزيا كما كان).

المقاربة الثانية:الأستيلاء على ممتلكات الدولة والناس.
في زمن النظام الدكتاتوري،كان حزب البعث هو الحاكم،وكان يعدّ مؤسسات الدولة ملكا له لكنه كان يعتمد القانون في عائدية الملكية.ومع ان صدام حسين بنى ما يزيد على ستين قصرا،فان الوثائق كشفت بأنه لم يسجلها بأسمه الشخصي. وباستثناء خاله (خير الله طلفاح) الذي استولى على احياء بمنطقة جميلة في بغداد،فانه لم يجرؤ احد في عهده على ان يتجاوز على ملكية تخص الدولة او عقارا يعود الى مواطن،لأن القانون كان هو السائد وان الناس كانوا يخافون جبروت الطاغية الذي يعد نفسه هو الدولة وهو القانون.وما حصل في زمن الحكم الديمقراطي،ان القانون انتهك وحصل نهب لممتلكات الدولة والمواطنين لم يشهده العراق حتى في تاريخه العثماني. فالمسؤولون الجدد احتلوا القصور الرئاسية وتقاسموها فيما بينهم، واحزاب الاسلام السياسي استولت على عقارات تخص الدولة،يتصدرها حزب الدعوة ، ليس في العاصمة بغداد فقط بل وفي المحافظات ايضا.ففي مدينة الديوانية مثلا استولى حزب الدعوة على مبنى يعود لوزارة الثقافة واتخذه مقرا له ،رافضا مطالبة الوزارة باخلائه الى اقامت عليه دعوى قضائية. ومن طريف ما يذكر ان عددا من كادر حزب الدعوة لا يؤدون الصلاة في هذا المكان لأنهم يرونه (مغتصبا)!.
ويعدّ السيد عمار الحكيم من اكثر قادة الاسلام السياسي استيلاءا على ممتلكات الدولة والأشخاص،بالاكراه او بالأغراء..اذ استولى على مناطق كبيرة في اجمل واغلى احياء بغداد الواقعة على نهر دجلة،من الجسر ذي الطابقين في الكرادة الشرقية الى ساحة الأندلس،فضلا عن احياء واسعة في مدينة النجف..ليشهد العراق اوسع عملية استيلاء على ممتلكات الدولة والمواطنين لاسيما المسيحيين ما حصلت في تاريخه،وان الذين اغتصبوها ،حكام ومسؤولون بينهم ملتحون ومعممون يعلنون عن انفسهم بانهم دعاة مسلمون ملتزمون بمباديء الدين الاسلامي وسنّة نبيه واخلاق أهل بيته!.
استنتاج ختامي.
ان العراق وطن منهوب،ثروة وارضا،من حكّامه الدكتاتوريين والديمقراطيين. وان النهب في زمن النظام الديمقراطي كان اوسع وأبشع مقارنة بالنظام الدكتاتوري،وان حكّامه اعتبروا العراق غنيمة فتقاسموه،ولا يمكن حاليا استعادة المنهوب من حكّام استفردوا بالسلطة ويشعرون بالخوف من شعب افقروه وأذلّوه. وان التظاهرت المطالبة بالاصلاح ومحاكمة الفاسدين من سبع سنوات،واسترداد ما يعادل ميزانيات ست دول عربية نهبوها..لن يستجيبوا لها ما لم يكن هنالك توجّه جديد يوحّد القوى الوطنية والمدنية والعلمانية والدينية المنفتحة لتخليص الوطن من أحضان ناهبيه .
6 ايلول 2017
***



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن