نأكل ونلبس مما ننتج ..نداء الصمود والتحدي

سعيد مضيه
madh934@gmail.com

2017 / 9 / 8

تأكل ونلبس مما ننتج .. نداء الصمود والتحدي

لتتمجد ذكرى غاندي، هذا المكافح بأسمال الحرمان ضد عنجهية اكبر امبراطورية عرفها زمنه .أستحضرُ الذكرى مثالا اقدمه لجمهور كبير من شعبنا الفلسطيني يدفعه نهم الاستهلاك مع شعور النقص لتفضيل منتج الاحتلال الزراعي الإسرائيلي على المنتج الوطني فيكسده ويودي به. كان غاندي يرتدي من قماش بلاده ويصطحب عنزته ومغزله مثالا يقتديه شعبه، وتعداده بالملايين، في التصدي للاحتلال البريطاني. رأى غاندي في تواضع الاستهلاك الشعبي وإشاعة العادات الاستهلاكية التقشفية –على حد افراشك مد رجليك- في ظروف العوز والحرمان شرطا لاستقلالية القرار السياسي، ونجاح التحدي للمشاريع الأجنبية. وبالمقاومة السلمية امكن الهند إجبار اعتى امبراطوريات العصر في حينه على النزول عن ظهر الشعب.
استحضار التاريخ المجيد لكفاح الهند ضد الهيمنة الأجنبية درس للمنومين بالنزعة الاستهلاكية الاستعراضية يسهلون اكتساح منتجات المستوطنات بالضفة للسوق المحلية في فلسطين: العنب الشهي بمنظره واظن ان كل من تذوقه افتقد فيه نكهة العنب الخليلي، والفواكه الطازجة والحليب ومشتقاته والعصائر تملأ ارفف المحلات التجارية. والمفتونون بالمظهر دون الجوهر يقدمون على شراء المنتج الإسرائيلي، رغم وجود مثيله المحلي، يفضلون حليب شركة تنوفا المعروض في واجهات المحلات التجارية الضخمة. سالت أحدهم فأجاب ان الزبائن تفضله ويغريها سعره.
لدى المقارنة مع حركات نسائية في اوروبا والولايات المتحدة تدور على المولات والمحال التجارية تنذر أصحابها بعواقب المقاطعة إن هي عرضت سلع المستوطنات اليهودية لأنها انتهاك للقانون الدولي نبدو بائسين في نظر انفسنا ومقصرين في أدنى حدود الواجب الوطني ونجهل مفعول القانون الدولي والقانون الدستوري والجنائي والإنساني –الاقتصادي. فضلت قيادة السلطة مصالح شريحة الكمبرادور على تعزيز دعائم الصمود الوطني بوجه سياسات الاستيطان الاقتلاعي - التجويع والإفقار واغتصاب الارض.
لمن لا يعرف الاستهلاكية فهي نمط اقتصادي ابتكرته إدارة كندي الأميركية في ستينات القرن الماضي نمطا للاستعمار الجديد، وفخا يوقع البلدان حديثة التحرر في شباك الاقتصاد الكمبرادوري. الاستهلاكية تفتح السوق المحلية على مصراعيها لصادرات الدول المتقدمة، وتحول دون تنمية الاقتصاد الوطني لتلك البلدان. شاعت ثقافة الاستهلاكية تزعم ان تطور المجتمعات والأفراد رهن باستهلاكها ، ونمت في ظل الاقتصاد الاستهلاكي ثقافة استهلاكية أطلقت شهوة الاستهلاك وأضفت عليه قيمة معيارية للنفوذ والهيبة الاجتماعية. قيم الفساد والإفساد واختلت القيم ، حيث غدا الكسب بغض النظر عن الوسيلة معيار شطارة، واستعيض عن الجوهر مظهرية استعراضية غزت التدين والمعاملات وكل مظاهر العيش والعلاقات الاجتماعية . في ظل الاستهلاكية شاعت "الفهلوة" في النشاط الاجتماعي، جماع بائس من فنون التلفيق والاختطاف، والهبش والاستعجال والاستهبال، للحصول على نتائج من أقصر الطرق، وأكذب الطرق، وأكثرها شيوعا في مجتمعات الفقر والتخلف . لم يكن عجيبا أن تشيع الفهلوة باستعراضاتها المظهرية المثيرة والخادعة في ظروف المد السلفي بتدينه المصطنع. استُعيض بالغش والخداع عن العمل الدؤوب وإتقان العمل والإنجاز الراسخ، المتسق مع الحديث المشهور " إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا ان يتقنه". تطابق نشاط السلفيين الاقتصادي مع النمط الاستهلاكي، وتضافرت كل هذه التداعيات مع هزيمة حزيران 1967. من المؤسي انها ممارسات تغلغلت في المقاومة الوطنية ، خاصة المقاومة المسلحة منذ بداياتها. ولا نود الاستطراد في تزوير العواطف والمعاملات ، نرجئها إلى مقال لاحق ، كي نركز على مخاطر الاستهلاكية
يبررون الإقبال على السلع الإسرائيلية انها الأجود والأرخص. الثقافة الاستهلاكيةلا تراعي الرخص بل ارتفاع الثمن، تناقض مبدأ التوفير و الادخار. ليس التوفير هو ما يشغل المستهلك ؛ الإنفاق الترفي الاستعراضي هو الشغل الشاغل لشريحة واسعة من محدثي النعمة، ممن بلغت بهم الذاتية عدم مراعاة حق الناس في النوم منتصف الليل، فيطلقون الألعاب النارية في مناسبات ظهور نتائج الثانوية، وأثناء العودة من الحج وفي الأعراس، والعمرة مثنى وثلاث ورباع، وكذلك الولائم بشتى المناسبات المستحدثة .. كل هذا وغيره لا ينبئ عن رغبة التوفير واختزال نفقات المعيشة. حافز الإنفاق في ظروف القهر الممارس من قبل الاحتلال هو آلية دفاعية تبرز بصورة لاإرادية - زائدة مظهرية في السلوك العام بوجه المهانة، تتحصن بالاستهلاكية ردعا لإحباطات القهر، تنميها النخب المتنفذة وتطلقها على رسلها مثالا يقتدى. إنها مسعى للتنصل من الجمهور المهان والمستلب إشعارا للمحتل أن المعني ليس من طينة أولئك الذين تلحقهم إهانات المستوطنين والمحتلين كل يوم وكل ساعة ولا تلقى الرد المانع. بدأت بألقاب "في آي بي" ثم نفذت لتشمل مجالات البيزنس والعمل المأجور وممارسات الفهلوة وما أكثرها، تعبيرا عن تلف في القيم يتفشى ويتغلغل في المجتمع حين تغيب المقاومة الناجعة ويتجلى التقصير والقصور من جانب المسئولين، سلطة وفصائل تضطلع بدور التوجيه والقيادة.. قصور الرعاية والتثقيف والردع، لتتشكل قاعدة واسعة متشعبة من الأفكار السقيمة والقيم الفاسدة تغري بتلاوين من "الشطارة" والفهلوة .
الاحتلال يسعى لتدمير الإنتاج المحلي او يخفض ريعه. في هذا السياق تغري منتجات الزراعة والصناعة الإسرائيليتين المستهلك في الأراضي المحتلة بأسعارها المتدنية أقل من الكلفة، تعوضها عن خسارتها صناديق خاصة مكرسة لتقويض الوجود الفلسطيني على ارض الوطن. في الغرب تشيع ممارسة الدعم من اجل المنافسة في السوق الخارجية؛ اما في فلسطين فالدعم جزء من كلفة بسيطة لتخريب الاقتصاد الإنتاجي من جانب جهات تلح على الترانسفير .
و طرحت حكومت المستوطنين مشروع " السلام الاقتصادي" يسهل العمل العربي في المشاريع الإسرائيلية. المشروع يخدم المستثمر الإسرائيلي، وفي نفس الوقت يحرم الاقتصاد الفلسطيني من تكوين المهارات الإنتاجية . وفي ظروف أخرى ، خاصة بعد تشكيل السلطة الوطنية، منعت سلطات الاحتلال دخول العمال الفلسطينيين للعمل في إسرائيل ، وأخضع المضطرون للعمل لابتزار اجهزة المخابرات. كان الهدف إشعار الفلسطينيين انهم خسروا من تشكيل السلطة، ثم تكفلت السلطة بمهمة الكيد لذاتها بدل إسرائيل.
بعد تشكيل السلطة الفلسطينية ضيقت سلطات الاحتلال إمكانات دخول القدس ومنعت طالب العمل من دخول إسرائيل. ارادت سلطات الاحتلال ان يقترن قيام سلطة وطنية بتردي الأوضاع المعيشية في المناطق المحتلة. وبالفعل ظهرت السلطة لهذا السبب ولأسباب أخر بمظهر بائس. نشطت فعاليات إنتاجية أثناء الانتفاضة الأولى توجب تطويرها وجرى استحضار العادات الاستهلاكية العتيقة من المنتج المحلي. لكنها تبددت أمام الشبق الاستهلاكي، فبتنا نرقب السلع الاستهلاكية قبل نصف قرن لا تشكل نسبة الواحد بالمائة في البقالات والمحلات الكبرى. كان على السلطة والفصائل الوطنية الفلسطينية ان تثقف الشباب بثقافة العمل المنتج في الزراعة والحرفة، وكان عليها ان تفعل الشعار المقاوم " ناكل ونلبس مما ننتج"! المقاومة الوطنية لنهج الاستيطان الاقتلاعي لا يجوز ان تقتصر على المظاهرات واللقاءات والاستنكارات ودعوة المجتمع الدولي "للقيام بواجبه"؛ فمن الضروري ابتكار اشكال جديدة للمقاومة، أهمها في الواقع الفلسطيني مكافحة النزعات الاستهلاكية و فتح مجالات العمل في الزراعة والحرفة وفي المشاريع الصغيرة. كانت متوفرة إمكانية تحدي الاحتلال في مجالات التعليم المقاوم والاقتصاد المقاوم . قصور الفكر المقاوم وجمود ثقافي وكسل ذهني تردت حياله المقاومة وضعف مفعولها، بينما تطورت أساليب الاحتلال وأدواته.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن