المكتبات في العراق من أقدم العصور حتى الوقت الحاضر

مهدي شاكر العبيدي
mahdishakeralobadi@yahoo.com

2017 / 9 / 8

قال جورج ديهامل الطبيب والكاتب الفرنسي المشهور منوهاً بأهمية الكتاب ومشيداً بأثره وجدواه في تهذيب النفوس وترقية العقول وترويض الطباع على تحمل الشدائد ومغالبة الصعاب.
" انه لاعزاء عن اكبر المحن ومع ذلك فلنتصور كيف تكون الحياة بغير قراءة ، ولنقدر مدى السيطرة المخيفة التي ستكون عندئذ للآلام والمتاعب والنكبات، فالفن حياة حتى في اغاني اليأس، وهو حتى عندما يصور لنا القضاء المحتوم والألم والموت، ضوء وداعٍ للحياة، ليحملنا الفن على الاهتمام بالحياة، فإنه بذلك يوشك أن يحملنا على محبتها وليعنا على مجرد احتمالها، فإنه عندئذٍ يستحق ايضاً عرفاننا بالجميل. "
( دفاع عن الأدب – جورج ديهامل – ترجمة الدكتور محمد مندور ).
وأخال ان الجاحظ اتى في جانب من مداخلته عن الكتاب دالتهُ على النفس الإنسانية في تجنيبها معاناة الملل والوحشة، وجعلها في حال من الصفو والاطمئنان والابتعاد عن الغِير والصروف، على شيء من هذه الأغراض والمعاني، وجاوزهما ابراهيم عبد القادر المازني في تناول مدى كلف قارئ الكتب بها وعنايته بترتيبها ورصفها في رفوف خزانته، ويبلغ به الهيام درجة بحيث يتمنى لو يصف هو جوارها وبجنبها !
لذا صار أمراً مفروغاً منه تبيان صلة الكتاب بالحضارة الانسانية، فأول ما اهتدى اليه الانسان منذ فجر التاريخ هو الكتابة التي نظم بواسطتها معاملاته التجارية ودّون بها شؤونه وعلاقاته ومتطلبات حياته وأحوالها المعاشية وقواعدها ونظمها بما فيها عقود الزواج والعقوبات التي تطول من يسيء إلى المصلحة العامة وغيرها من الأمور والمناحي الكثر التي لا يرقى إليها العد والاحصاء. فلا غرو ان استهدف فاتحو الديار والأمصار أول ما استهدفوا هو تحريق الكتب وهم يبغون به اجتثاث حضارتها من اصولها. وبالتالي لا يبقون على وجه البسيطة سوى مسوخ أدمية لا طاقة لها على اتيان أمر بدع ولا يدللون على نبوغ وتكشف عن الجديد.
ولإشهار هذه النتيجة أو الإيماء لعاقبتها والتحذير من أن تفاجئنا في يوم مقبل، انبرى الأستاذ فؤاد يوسف قزانجي، بمطلق الإخلاص والتناهي في أخذ الأمر بالنظر الجدي لأستعراض تاريخ المكتبة العراقية منذ أقدم عصورها لغاية وقتنا الحالي، ممحصاً جهود المؤسسين الأوائل ومساعيهم في حفظ محتوياتها يوم كانت رُقماً طينية تعتمد على الخط المسماري في تسجيل فحاويها ودلائلها وأسانيدها حتى تطورت، تبعاً للمتغيرات البارزة في الحياة الانسانية ، إلى الاستعانة بالحروف الهجائية ثم التفنن في رسمها وخطها على الورق، فأدى ذلك بدوره إلى أن يبتدع الانسان في تجليدها وتذهيبها فنوناً وطرائق شتى، وكلها مما يرضي العقل والذوق والنفس، ويشيع الأنس والبهجة في الضمائر والقلوب، ويغري بتداولها والإقبال عليها.
فلا غرو أن أهدى ثمرة جهده هذا المتميز إلى الملك المثقف آشوربانيبال الذي شيد في أبهاء دارته بنينوى أول مكتبة منظمة في العالم بالقرن السابع قبل الميلاد، فكان الباب الأول من هذا السفر القيم مكرساً لوصف مكتبات العراق القديم أو وادي الرافدين بحسب تسمية غير عالم من علماء الآثار، وهو مبحث ضافٍ لم يسبقه أحد إليه من الكاتبين والمدونين، أو يبذه في ما صار إليه من استخلاص بعض الملاحظات والأحكام، ومنها أن من يعهد إليه بنسخ الرقم الطينية أو تناط به أمانتها بعد أن تودع في مكتبة، يبلغ من شدة حرصه عليها، ان يلهج بعبارات تنطوي على شتائم ولعنات يصبها على كل من يتعمد عدم اعادة كتاب يستعيره منها، أو يتوانى في ذلك. مما ينبي ويدل على سبق حضاري إلى تأثيل قواعد وآداب وسلوكيات مازلنا نعاني من مجافاتها ومباينتها والنشوز عليها اليوم، وبعد أن أخذ الكتاب سمته النهائي، وجاوزت الكتابة همها القديم الذي هو مجرد تسجيل بسيط لأحداث السنين مثلاً وتعدته إلى المعرفة الانسانية الواسعة المحيطة بما يضطرب في هذا الوجود من أسرار وحقائق قد تزيدنا علماً بأوضاعه ونواميسه.
والأستاذ قزانجي حائز على شهادة مرموقة في علم المكتبات والمعلومات، منحت له بناء على سهره ونصبه وانقطاعه للدرس وسوغ كل ما يتعلق بالكتاب ويحيط بتاريخه واحتفال الجماعات والعناصر به لإدراكها مدى تهذيبه وترقيته للشعور وتشذيبه للوجدان مما يعلق به أحياناً من أدران أو يلصق به من طباع جافية ، فلا مراء ان جاء تفصيله مشتملاً على معارف تاريخية ثرة تتصل بالمكتبات العربية في بمتنوع العصور، بدءاً من لوازم الوراقة وملابسات مختلفة تخص الطباعة في بداية ظهورها، فواجبات العاملين في المكتبات العامة من أمناء وخزنة وقائمين بالتجليد والتزيين والزخرفة، وانتهاز ما حفي به هذا البلد الطيب، منجب ذوي العقول والمدارك الحصيفة، من مكتبات موقوفة على النفع العام وإعمام المعرفة العلمية بين الجمهور الغالب ، يلتزم القوامون عليها اسمى القواعد والعادات الخلقية الرصينة في التعامل مع روادها ، ولا ريب ان قرن المؤلف حصيلته من الإلمام والاحاطة بشؤون المكتبة وشفعها بالمشاهدة والزيارات الميدانية والتنقل في انحاء شتى من ربوع الوطن ، وحيثما توجد المكتبات ، لتجيء انطباعاته عنها موثقة معززة بالأرقام والاحصائيات الدقيقة مستوحياً عادة ما أوفت عليه حياتنا الاجتماعية والثقافية في طور متأخر من سعة وتشعب ورحابة، أشبهت في بعض وجوهها وألوانها ما استجد قبلاً في العصور الإسلامية الزاهرة من تلاقح التيارات والمذاهب الفلسفية في مدارس بغداد والكوفة والبصرة، بما ألف العرب من صنوف الرأي والاجتهاد، فصار من وراء هذا الخلق النظر إلى هذه الفلسفة الإسلامية الخالصة التي رامها المغرضون من مستشرقين وغيرهم بشتى نبال التجريح والتجني والتشكيك بأصولها ومصادرها، مما ألمح إليه المؤلف أو وقف عنده بعض وقفة مدللاً على احاطة وشمول وحسن استيعاب لبعض حقائق تاريخنا ووقائعه وهو يتقرى أو يجوس وراء منجزاتنا المكتبية.
غير أنه نسي عدواً لدوداً وماكراً للكتاب اليوم، يتهدده بانصراف الناس عنه، وزهادتهم فيه، وطالما حذر منه بعض كتاب الغرب مهيبين بالانسانية المثقفة أن تأخذ لهذا الشأن عدته وتحتسب له ألف حساب، يتمثل في هذه المرافه المستحدثة والوسائل والأدوات الحضارية المخترعة والمبتدعة، التي غدت منافسة له وقمينة بأن تحتل مكانه وتستأثر برضاء بني النوع عنه، وكثيرة هي البنايات والمطولات الروائية التي صدف القراء عنها، واقتصروا في اكتناه نفسيات ابطالها على مشاهدتهم لها في التليفزيون مبتسرة مقتضبة ومثلها ما يذيعه الراديو أو تجسده السينما من ضروب القصص الفني وغير الفني.
أجل فات الأستاذ فؤاد قزانجي أن يومِئ إلى واقع الكتاب مستقبلاً فيما لو استفحل أمر هذا العدو الألد والمجهز بفنون الاغراء والفتنة، وان يحتمل بعض هموم الفكر في شأن الإنتاج الثقافي والمضطلعين به وما خصائصهم وشياتهم وميزاتهم، لاسيما أنا بدأنا نراع بعدم وجود بدائل لمن يبارح دنيانا هذه من جيل العمالقة في كل مجالات المعرفة وميادينها.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن