الحضارة الإسلامية في منهج التعارض الحضاري

ميثم الجنابي
m-aljanabi@mail.ru

2017 / 8 / 29

إن منهج التعارض الحضاري، اي وضع الحضارات وشعوبها بالضد من الآخر، هي الصيغة الفجة للمركزية الثقافية التي تبلورت في مجرى صعود القارة الأوربية وهيمنتها في العصر الحديث. وبالتالي، فإنها تعكس في الأغلب الأبعاد الغريزية في الجسد الأوربي وليس عقله النقدي وتقاليده الروحية. وهذا بدوره نتاج السهولة التي سيطرت واحتلت فيها المراكز الكولونيالية لعالم "الشرق" ودوله الضعيفة آنذاك. فقد أعطت هذه الحالة التاريخية وقدمت للوعي الأوربي المتراكم والفاعل بمعايير الفكرة السياسية الاقتصادية إمكانية مزج وتوليف نفسية الاستعلاء الحضاري وتبرير كل ما تقوم به على انه عين الصلاح والخير! اذ حتى ماركس نفسه، الناقد الأكبر للفكرة السياسية الاقتصادية الحديثة (الرأسمالية) ونزوعه الإنساني العميق، نراه يجد في الاحتلال البريطاني للهند فضيلة تاريخية كبرى.
وقد حددت هذه الحالة بدورها منهج التعارض الحضاري، في محاولاته فهم خصوصية الحضارة الإسلامية. الأمر الذي حدد منذ البدء خلل الرؤية والأحكام، وتسطيح المفاهيم. وذلك لانها تعمل بقواعد التضاد المباشرة والمحكومة بنظرة عندية. بمعنى أنها تقيس المقابل بما عندها من خلال مواجهة جامدة لا علاقة لها بحقيقة الحضارات الأخرى. وفِي أفضل الأحوال أنها تسعى لتأويل الظواهر والأشياء بما يستجيب لمعتقداتها الخاصة.
وقد تبلورت اغلب هذه المعتقدات حول قضايا الحضارة الإسلامية بغلبة فكرة الاختلاف والتضاد بينها وبين الحضارة الغربية. وهي مقارنة ليست دقيقة سواء من حيث مضمونها أو طابعها التاريخي، إلا أن ذلك بقى على الدوام خارج الاهتمام أو الانتباه الفكري النقدي التاريخي. فمقارنة الحضارة الإسلامية "بالغربية" ليست دقيقة. والمفروض مقارنتها بالحضارة الأوربية النصرانية القروسطية. وهي مقارنة ممكنة من حيث المحتوى والتاريخ، لأنهما كلاهما ينتميان إلى المرحلة الدينية السياسية. أما مقارنتها "بالحضارة الغربية" فانه يعكس هيمنة فكرة الشرق- الغرب بوصفها ثنائية متضادة. وإذا كان لفكرة الغرب هنا مشتركاتها في القارة الأوربية، فان فكرة الشرق والشرقية غاية في التنوع والاختلاف والسعة. فالعالم الاسلامي ليس كالبوذي أو الهندوسي أو غيره. والعالم العربي من بين العالم الاسلامي اقرب من الناحية الجغرافية والثقافية إلى "الغرب الأوربي" منه إلى الصين والهند.
إن اغلب نماذج وأشكال ومستويات الجدل العقيم حول الحضارة الإسلامية (في الدراسات الأوربية "الغربية") متأتية من تأثير الصياغة الخفية للعلاقة العدائية الخفية والعلنية بين الشرق والغرب.الأمر الذي طبع أيضا منهج المقارنة في المواقف من الحضارة الإسلامية. والسمة الأساسية لهذه المواقف تقوم في أنها لا تعترف، أو لا تقرّ، أو لا تفهم الفرق بين النظرة القائمة في تدقيق وتحقيق فكرة الانتماء الذاتي والأصالة الثقافية وبين رفعها إلى مصاف الهوية المتعارضة مع الآخرين.
فعلى سبيل المثال ينطلق كارل هينريخ بيكر في محاولاته فهم مضمون الحضارة الإسلامية من المقدمة العامة عن مقارنة الشرق (الاسلامي) بالغرب (النصراني). فالغرب بعد الجرمان جمعته الكنسية، بينما جمع الشرق لغة جديدة. وفي الغرب بقاء نفس التقاليد، بينما في الشرق ظهر دين جديد. وفي الغرب جرت صياغة فكرة الثقافة وتقويم الشخصية العقلية عبر طريق القيم الموضوعية، بينما في الشرق جرت صياغة فكرة الخلاص التي تؤدي إلى عبور الهاوية عبر بناء العلاقة بين الله المتعالي والإنسان الفرد. وفي الغرب جرى تأسيس إمبراطورية عالمية قيصرية، بينما في الشرق كان الاتجاه صوب الأكاسرة لا القياصرة. وفي الغرب جرى الصراع مع تراث الأوائل بفعل النزعة الإنسانية (الرومانية)، بينما لا وجود لنزعة إنسانية في الشرق. وفي الغرب حصلت فكرة الخلاص على تطبيقها في النزعة الإنسانية الرومانية. فهي لم تكن علما فحسب، بل واتجاها روحيا شاعرا بذاته، بينما لا وجود لوعي الذات في الشرق، بل كل ما فيه يخضع لمبادئ عليا (مطلقة). والغرب شخصاني سواء في الأدب أو الفن أو الرياضة..الخ. اذ عالج في الفن وجود الشخصية، وتصوير الذات المجسمة بما في ذلك في الرواية والمسرح، وفيه توجد سلسلة في الإبداع (سلسلة فلاسفة، وسلسلة شعراء مثل اسخيلوس- شكسبير- كالدرون – غوته) وسلسلة أدباء وموسيقيين. بينما لا توجد في الشرق شخصانية ولا يعرف ذلك لا في الأدب ولا في الفن ولا في أي شيء آخر. واقتصرت حاجته الفنية على هندسة البناء والفنون غير الشخصية. لهذا لا يجسم الإنسان، كما لا يوجد عنده لهذا السبب رواية ولا مسرحية. وكذلك لا توجد عنده سلسلة فلاسفة (أنداد للغربيين)، ولا توجد سلسلة شعراء، ولا سلسلة أدباء وموسيقيين. وتوصل بيكر إلى استنتاج عام بهذا الصدد يقوم في أن سر المشكلة بالنسبة للشرقيين هو أنهم ليسوا قادرين على العيش بالطريقة اليونانية. فقد قال غوته "كل منا يونانيا بطريقته الخاصة، ولا بد للكل أن يكون يونانيا!".
أما في الواقع، فان ما وضعه بيكر في مقارنته المذكورة أعلاه لا تعدو كونها تأويل أيديولوجي ثقافي مفتعل، أو في أفضل الأحوال انه نتاج هيمنة الرؤية المركزية الأوربية للقرن التاسع عشر وصعود ما يمكن دعوته "بالمرحلة اليونانية" في نمو "الوعي الأوربي" الكلاسيكي. في حين تضمحل هذه المرحلة وتتلاشى مع صعود ونمو الفكرة القومية والحداثة الأوربية. بحيث لم يعد يرغب احد بذلك، تماما كما كان يتعامل الرومان فيما مضى مع تراث الإغريق. لاسيما وان التجربة اليونانية التاريخية تكشف عن سخف هذه الرؤية والاستنتاج. قد تخلى اليونانيون أنفسهم في مجرى سيادة النصرانية عن تقاليدهم الذاتية. وتحول اليونان والثقافية الإغريقية لاحقا إلى ميدان ومصدر ومنتج لمختلف نماذج اللاهوت والأفكار غير العقلانية. كما أن فكرة بيكر بحد ذاتها تتعارض مع واقع حقيقة التجارب التاريخية للأمم والثقافات. ومن الممكن الرد عليها هنا بحكاية خواجة نصر الدين (جحا)، الذي جلس مرة تحت شجرة الجوز بينما كان ينظر إلى ثمرة البطيخ المترامية أمام نظره. عندها قال مخاطبا نفسه"يا لها من مفارقة! شجرة كبيرة وثمرة صغيرة، بينما هنا ثمرة كبيرة وعود صغير يحملها". وعندما سقطت جوزة صغيرة على رأسه التفت إلى الأعلى وقال: إن الله يعرف قدر الأشياء! أي أن العدالة، بما في ذلك في ميدان المعرفة بوصفها إدراكا لحقائق الأشياء كما هي وضمن سياقها التاريخي والخاص أيضا، لها ما يمدها بقوة الجمال والفائدة. ولا معنى لان يكون نموذج الجوز والبطيخ أو أيما شيئا آخر هو الكل في الكل. (الكل يوناني كالكل بطيخ!). حتى السؤال لماذا ينبغي للصيني أو الياباني أو الهندي أن يكون يونانيا، يبدو سخيفا. ولماذا ينبغي لقوم أن يكون مثالا مطلقا وأبديا للآخرين؟ بينما بقي بيكر ألمانيا صرفا! وغوته أيضا!
أما مقارناته الأخرى بصدد النزعة الإنسانية والعقل والإبداع الفلسفي والأدبي والشعري وغيرها، فلا معنى لمناقشتها، لانها مبنية على مغالطات منطقية وتاريخية وثقافية. واستكمل هذا النموذج في الدراسات الحديثة كل من كوك وباتريتسيا، بدفعهما هذا النوع من المقارنة إلى مداه الأقصى، أي الأكثر افتعالا وبعدا عن الواقع والتاريخ والحقيقة .
فهما ينطلقان من أن الغرب مضاد للشرق، والشرق مضاد للغرب. ففي الغرب برهن غاليلو على انتصار العقل وقوانين الطبيعة، بينما أدت التأملات العقلية الإسلامية بالعقل إلى الاتجاه صوب الحكمة الباطنية. فقد اخذ الغرب الفكرة اليهودية عن أن الله مسئول عن كل ما هو موجود، لكنها أدت إلى اكتشاف قوانين الطبيعة، بينما أدى اخذ الفكرة اليهودية عن أن الله مسئول عن كل ما هو موجود إلى الجبرية الخالصة. وأن التقاء الإرث اليهودي والهيليني في العالم الأوربي (النصراني) أدى إلى العلوم الأوربية، بينما أدى في العالم الإسلامي إلى إنتاج السببية الاتفاقية (العادة). ففي حين أدت فكرة التوكل على الله إلى نتاج اجتماعية أخرى في البروتستانتية – إلى الرأسمالية، بينما لم تؤد فكرة التوكل في الإسلام إلى الرأسمالية. وإن اعتماد الأوربيين وفكرهم على العلم قد حررهم من الحاجة إلى الله، بينما أدى اعتماد المسلمين وشكرهم لله إلى رفض المنطق. واحتفظت أوربا في آن واحد بإلهها اليهودي وبقايا البربرية، لهذا كان بإمكانها الرجوع (تاريخيا) إلى مصادرها الأولى، بما في ذلك تنوعها القومي، مع تقاسمها في الوقت نفسه فكرة (امة الحق)، بينما لم يكن بإمكان الإسلام أن يصنع فكرة قومية بفعل تعارضها مع عقائده الكبرى، لكنه في الوقت نفسه يتكلم عن امة إسلامية لكي يصهر الجميع في العربية. وأبدعت أوربا القومية الدنيوية (العلمانية)، بينما أبدع الإسلام فكرة الأمة الدينية (العربية) والشعوبية لغيرها. وتمتلك أوربا ثلاثة مصادر وهي النهضة والإصلاح والقومية، بينما يمتلك الإسلام ثلاثة مصادر وهي السلفية والرجوع إلى الدين الواحد والرجوع إلى السلف الصالح.
إننا نقف هنا أمام صورة مفتعلة ومحنطة بمعتقدات وليس مفاهيم. وكل ما فيها من مقارنات هي مغالطات صرف. اذ ليس في أي منها ولو أدى اقتراب من الحقيقة والواقع. وهو منهج يمكنه تسطير ما يشاء استنادا إلى مواقف هي من حيث مضمونها مجرد مغالطات وتشويه يحتويان على جهل صارخ فيما يتعلق بالثقافة العربية الإسلامية وتطورها ومحتواها وقضايا وحلولها. كما أن أوجه المقارنة تجري بين مراحل تاريخية مختلفة بين العالم الأوربي الذي يجري دمج التراث اليوناني والقروسطي والحديث، وبين "العالمي الاسلامي" الهلامي و"مواقفه" التي تعكس انتقاء المؤلفان لبعض استنتاجات وآراء الفرق الإسلامية مع سوء فهم لما فيها. بعبارة أخرى، إن كل ما فيها مجموعة أحكام متهافتة وبعيدة عن منطق التاريخ الفعلي وما فيه.
وفيما يتعلق بالموقف من التاريخ الثقافي بشكل عام والإسلامي بشكل خاص، فقد حصل، بأثر هذه المنهجية المتشددة والمسطحة عند بيكر على تأطير نظري خاص تجاه مفهوم الحضارة العربية (الإسلامية). إذ توصل إلى إن الحضارة العربية مجرد أسطورة متأتية من النظر إلى الدين والحضارة باعتبارهما كلا واحدا أو شيئا واحدا. وقد ألقت هذه الأسطورة بغشاوتها على عيون المؤرخين، وحالت بينهم وبين رؤية هذه الحقيقة الناصعة وهي أن الحضارة القديمة قد ظل حاملوها هو حملتها الأصليين، واستمر مسرحها هو مسرحها.
فالإسلام بنظر بيكر هو "الأجنبي الغريب" الذي أراد أن يغزو العالم القديم في مرحلة انهياره، لكنه خضع لاحقا لما كان عليه هذا العالم القديم من تفوق وسمو، ولم يستطع أن يجعله عربيا إسلاميا إلا في الظاهر فحسب. وأمثلة ذلك كثيرة، ولعل أهمها هو القانون وفكرة الحقوق. فقد رّتب القانون الروماني ونّظم قبل قيام النبي محمد بدعوته بزمن قليل (دايجست). ونرى أثره الواضح في الشريعة الإسلامية في كل مسالة، حتى ليكاد أن يكون لكل مبدأ من مبادئها ما يناظره في القانون الروماني. الأمر الذي أدى إلى أن يسري القانون الروماني إلى الشريعة الإسلامية كما سرى الغنوص إلى الدين الإسلامي. واستنتج بيكر في نهاية المطاف بان القرآن باعتباره المصدر الروحي للحضارة الإسلامية، كان يؤثر تأثيرا مضادا للروح الهيليني، في عصر تغلغلت فيه الهيلينية، وفي لحظة تخطى فيها الإسلام حدود مهده الأول (الجزيرة) مما أدى إلى بداية الصراع والتضاد.
إن حصيلة الرؤية التي يقدمها بيكر مبنية على أساس تعارض الشرق والغرب. كما أنها تتناقض مع المقدمة التي قال فيها بان الإسلام لم يؤثر، وان ما قام به هو مجرد أسطورة، وان كل ما صنعه هو مجرد غلاف، وبقي الجوهر كما هو، وأن كل ما فيه يتناقض مع الروح الهيليني. ولنفترض جدلا، انه في خلاف أو صراع مع الروح الهيليني. فالهيلينية مجرد تجربة تاريخية. وهي ليست مثالا أو ضرورة أبدية. لها ما لها وعليها ما عليها.
إن الخلل المنهجي هنا يقوم في أن هذه الرؤية لا تريد أن ترى في التاريخ والثقافة "الصحيحة" شيئا غير الإغريقية والهيلينية(!) مع أن الإغريقية ليست أوربية، كما أن مقدماتها الثقافية هي "شرق أوسطية". فألف باء الإغريق فينيقية، وحسابها وطبها مصري، وفلكها كلداني، وقانونها بابلي. والحصيلة العامة بهذا الصدد تقوم في أن خلل هذه الرؤية يقوم في انطلاقها من أحكام أيديولوجية مسبقة بعيدة عن الدراسة العلمية الدقيقة. أنها تهدف إلى تقييم وتحديد موقف وليس إلى دراسة وبحث وفهم وإدراك حقيقة الأشياء كما هي. فجميع الشعوب تبدأ من حالة "الصفر" في نموها التاريخي. والخلاف بينها يقوم في كيفية دحرجة هذا "الرقم الفارغ"، أي بأي اتجاه، صوب اليمين أو اليسار. ومع أنها ليست عملية حسابية سهلة، لكنها تقترب من حيث حقيقتها بحقيقة الكمية الحسابية التي لا تقبل الخطأ بمعايير المنطق الرياضي. مع أنها يمكن أن تخضع للغش والخداع في مجرى الحالة العادية للبيع والشراء سواء بمعايير السوق "الشرقي" أو "الغربي".
أما ما يخص مقارنته بصدد القانون اليوناني والشريعة الإسلامية، فان بيكر لا يفهم الفرق الجوهري بين التجربة الرومانية والإسلامية في ميدان الحقوق. فالقانون الروماني يعبر عن تقاليد ومستويات المرحلة الثقافية الدينية في التطور، بينما الاسلامي هو تعبير عن احد النماذج الرفيعة للمرحلة الدينية السياسية. فالحقوق الرومانية معزولة عن فكرة الحق، بينما تشكل فكرة الحق صلب الحقوق الإسلامية. كما أن أحكامه بهذا الصدد تنم عن جهل مطبق بكيفية ظهور وتبلور وتطور الشريعة الإسلامية ومصادرها وغاياتها. وذلك لان القانون والفكرة القانونية لها مسارها الخاص في تاريخ الدول والأمم. وبالتالي فليس للشريعة الإسلامية أية علاقة بالقانون الروماني. كل ما في الأمر أن التشابه الظاهري بين أولوية وجوهرية القانون في الإبداع التاريخي للدولة الرومانية والإسلامية يعكس الملامح الخاصة لكل منهما. اذ للقانون الروماني دوره ووظائفه الخاصة في الدولة الرومانية، وينطبق هذا على الخلافة الإسلامية.
***



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن