إشكاليات العِرق والتمييز العنصري في الولايات المتحدة نحو فهم مادي وطبقي (الجزء الرابع)

مسعد عربيد
masadarbid1@gmail.com

2017 / 8 / 28



أميركا: العِرق أم العَرْقَنَة؟


"من المستحيل أنْ تكون أميركياً، وألا تُعَرقن مشاعرك"

كورنيل وست Cornell West
مفكر وأكاديمي أميركي أسود

ظل العِرق في السياق الأمريكي وغيره من المجتمعات الرأسمالية الغربية وعبر التاريخ البشري بشكل عام، مفهوماً خلافياً أثار الكثير من الجدل خلال مراحل تشكل الجماعات والفئات الاجتماعية وتصنيفاتها العِرقية. وقد تطور مفهوم العِرق وتبدل عبر المراحل المختلفة لنشأة الدولة والمجتمع الأميركيين ورافقته تفسيرات "علمية" ودينية مزعومة روّجت لتبرير الحفاظ على المصالح الطبقية والسياسية وخلق الذرائع لجرائم إبادة الأعراق والإثنيات غير البيضاء ومحو هويتها أو تشويهها.
لقد تعددت النظريات والمدارس الفكرية والسياسية والسوسيولوجية في النظر إلى مسألة العِرق. فمنها ما نظر إلى العِرق كمجرد تصنيف بيولوجي بمعزل عن السياق الاجتماعي والسياسي والتاريخي، ومنها من خالف هذه النظرة وذهب إلى فهم العِرق كمبنى اجتماعي في سياق العلاقات الاجتماعية. أما من حيث تأثيرات العِرق على الفرد والمجتمع، فقد رأى البعض أنَّ العِرق مسألة مبالغ في أهميتها ودورها، وكثيراً ما تُستغل لتحقيق غايات سياسية، في حين ذهب بعض آخر إلى التقليل من أهمية العِرق في العلاقات الاجتماعية والإنسانية وتخيل أنَّ الوقت قد حان لوضع مسألة العِرق برمتها جانباً والمضي قُدُماً في بناء مجتمع لا يرى لون البشرة، "مجتمع عمى الألوان".
وبدون إغفال هذه التيارات الفكرية والفلسفية والأكاديمية في مسألة العِرق، إلاّ أنّنا معنيون بالدرجة الأولى بالتأثيرات العملية والتطبيقية للعِرق والتي تتغلغل في كافة نواحي الحياة والمجتمع الأميركيين وتلعب دوراً حاسماً في تكوين الهوية الفردية والجَمْعية وصياغة فعلها وحراكها السياسي والاجتماعي.

العِرق أم "التكوين العِرقي"؟

يمكننا القول على وجه العموم أنَّ فهم العُنصربة في أميركا اتخذ نهجين رئيسين:
1) النهج العُنصري ـ الليبرالي (المفهوم البيولوجي للعِرق): وقد بنى دعاته أيديولوجيتهم في المفاهيم والعلاقات العِرقية على نفي عوامل الاقتصاد السياسي الرأسمالي وآليات عمله وديناميته الطبقية وتجاهل تأثيراته. وقد هيمنت هذه الرؤية على الخطاب العام وشكّلت البنية العُنْصرية للطبقة الحاكمة التي أحسنت توظيفها في خدمة أجندتها السياسية وتعزيز مصالحها الطبقية.
2) النهج الاجتماعي: الذي يدعو إلى التعريف الاجتماعي للعِرق وفهمه كبنية اجتماعية بما فيها من أبعاد ثقافية وإثنية.

العِرق كمفهوم بيولوجي

يروّج أصحاب النظرية البيولوجية في العِرق للفوارق البيولوجية التي تفصل بين الناس والأعراق على أنها السبب في قصور الفرد ونواقصه ومكامن وضعفه، كي يصلوا في نهاية التحليل إلى تأكيد دونية عِرق وتفوق آخر، وإلى تبرير التمييز العُنصري وتهميش الفئات المضطَهدة على أساس صفات الفرد والجماعة الفيزيائية. وقد تعددت النظريات والتنظيرات العِرقية التي تدّعي المصداقية "العلمية" و"الأكاديمية" وبرعت في تصنيف الأعراق والاختلافات فيما بينها بناءً على السمات الفيزيائية لهذا العِرق أو ذاك. ولا حاجة هنا للتذكير بأنَّ مثل هذه النظرة كثيراً ما استغلت عبر تاريخ الصراعات الاجتماعية لخدمة غايات طبقية وسياسية وأيديولوجية شوفينية. وقد يظن البعض أنَّ مثل هذه الأطروحات قد فقدت مصداقيتها وراهنيتها وأصبحت تاريخاً منسياً، إلاّ أنَّ نظرة سريعة إلى التطورات الاجتماعية والسياسية في أميركا وأوروبا الغربية في العقود الأخيرة تفيدنا بعكس ذلك حيث نشهد تنامي التيارات الشوفينية والمعادية للعمال والأقليات المهاجرة غير البيضاء.

العِرق كمفهوم اجتماعي

على النقيض من المفهوم البيولوجي للعِرق، هناك مَنْ ينادي بالتعريف الاجتماعي للعِرق ويرى أنَّ فهمه يجب أنْ يكون شاملاً وأن ينبع من اعتباره بنية اجتماعية. وفي هذا الإطار، فإنَّ هذا الفهم يشمل العناصر الإثنية والثقافية إضافة إلى الاجتماعية كي يكتمل الفهم الشامل لعلاقة العِرق بالطبقة ودوره في الصراع الطبقي في المجتمعات الحديثة.
يرفض هذا المفهوم فهم العِرق على أساس السمات الفيزيائية ويؤكد على فهمه كبنية اجتماعية ديناميكية ذات حواجز بنيوية وأيديولوجيات وأفعال فردية وجمعية متأصلة فيه. ومن هنا يشير مصطلح "التكوين العِرقي" إلى العملية الاجتماعية التي تقوم من خلالها قوى اجتماعية واقتصادية بتحديد مضمون وأهمية المجموعات العِرقية من ناحية، ومن ناحية ثانية تشكيل وصياغة هذه القوى ذاتها وفق الدلالات والمعاني العِرقية. وعليه، يكون العِرق، من هذا المنظور، هوية تتكون اجتماعياً حين تقوم القوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بتحديد مضمون وأهمية ودور التصنيفات العِرقية (الفئات العِرقية). بعبارة أخرى، فبدل النظرة إلى العِرق على أنّه ظاهرة متماسكة وساكنة تستند أساساً على بيولوجيا الفرد وخصائصه الفيزيائية وتحدد هويته على هذه الأسس، فإنَّ مفهوم التكوين العِرقي يوفر إطاراً لتفكيك العِرق في المجتمع الأميركي ويقدمه على أنه أمر سائل دائم الحركة والتغيير؛ لأنَّ التنظيم العِرقي في المجتمع يقوم على الاستمرارية والتبادلية بين المستويين المايكرو والماكرو للعلاقات الاجتماعية التي تدعم وترسخ هذا التنظيم الاجتماعي.
يقوم مفهوم التكوين العِرقي بتقسيم العوامل الفاعلة في مسألة العِرق إلى مستويين:
1) "المايكرو" (micro)، ويشمل مجموعة من العوامل على مستوى الفرد والطريقة التي يفهم بها الفرد ذاته ويتعامل من خلالها مع الآخر، وهي الطريقة التي تحدد ممارساتنا وأنشطتنا في الأسرة ومكان العمل والمجتمع، وهي حصيلة العوامل التي تعبر عن الفرد وتكوّن هويته التي يتم تشكيلها من خلال الدلالات العِرقية والوعي العِرقي.
2) أما مستوى "الماكرو" (macro) في التكوين العِرقي فهو الفضاء الأوسع الذي يرتبط بالكل الجمعي collectivity أي بتشكيل البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والأيديولوجية، ولذلك فهو يشمل البنى الاجتماعية (مثل المعتقدات الثقافية والتنميطية للعِرق والطبقة والجندر) والأيديولوجيات العامة والمنتشرة في المجتمع الأميركي (مثل التنظيمات الجمعية والشركات ووسائل الإعلام والمؤسسات الخاصة والمدنية والحكومية).

العَرْقنة

المقصود بمصطلح "العَرْقَنة" racialization بشكل عام هو أنْ تفرض طابعاً عِرقياً على سياق أو خطاب ما، وأنْ تستوعب أو تتلقى أو تستدخل تجربة معينة من منظور وبفهم عِرقي. ولعل أهم ما يتضمنه هذا المصطلح هو فكرة العِرق كمبنى اجتماعي والذي هو في الحقيقة جوهر عملية العَرقَنة وهو الذي يؤول إلى أفكار ومفاهيم وممارسات عُنْصرية وتمييز عُنصري عندما يتشرب بالأفكار والمواقف السلبية حيال الآخر والمعادية له وإلصاق صفة الدونية به. وبهذا المعنى فإنَّ العَرْقَنة هي عملية أيديولوجية وتاريخية. إلاّ أنّه تجدر الإشارة إلى أنَّ الأيديولوجيا العِرقية ترتكز في الأساس على خطاب ومفاهيم وانبثقت من الصراعات وتناقض المصالح بين المشاريع والقوى السياسية المتنافسة ومن الخلافات في الأفكار والنظرة إلى المجتمع والعالم. وقد وسّعت العَرقنة المعنى والدلالات العِرقية لعلاقات أو ممارسات لم تكن في السابق محددة عِرقياً وهي علاقات وممارسات قد تكون اجتماعية أو تتعلق بالفرد أو ذات صلة بفئات اجتماعية معينة.
غير أنَّ أهم دلالات "العَرْقنة" في التاريخ والحاضر الأميركيين وفي إطار هذا البحث، تكمن في فحوى ومضمون عبارة "البَياض كملكية" (whiteness as property) أي أنه أنْ "تكون أبيضَ ليس صفة بيولوجية أو جينية أو تصنيفاً اجتماعياً ثابتاً، بل هو التعبير الاجتماعي عن السلطة والامتيازات، وتبعات السياسات التمييزية في الماضي، والممارسات التي تجسد انعدام المساواة القائم اليوم". ولهذا فإنَّ أهم ما يتضمنه مصطلح العَرقَنة ويحافظ عليه هو فكرة العِرق كمبنى اجتماعي والذي هو في الحقيقة جوهر عملية العَرقَنة وهو الذي يؤول إلى أفكار ومفاهيم وممارسات عُنْصرية وتمييز عُنصري عندما يتشرب بالأفكار والمواقف السلبية حيال الآخر والمعادية له وإلصاق صفة الدونية به. بالإضافة إلى هذا، فإنَّ المدلول العملي لمفهوم العَرقنة يكمن في المحصلة في أنَّ تفكيك العُنْصرية البنيوية كنظام لا يتحقق دون التصدي لمسألة تغيير البنية الاجتماعية الأميركية ودون الدقرطة الكاملة لمؤسساتها السياسية والاقتصادية.

نشأة العَرقَنة

مع نهاية القرن السابع عشر، أُلصق بالأفارقة اسم "السود" بسبب لون بشرتهم وذلك تماشياً مع وتعبيراً عن أيديولوجيا استغلالية قامت على أساس عِرقي يصنف البشر حسب "دونيتهم" أو "فوقيتهم" وفق لون بشرتهم. ومع نشوء العبودية وتطورها كنظام اقتصادي، يقوم على استغلال العمل الأسود، تأسس فهم للمجتمع الأميركي ركيزته الأساسية هي العِرق والتصنيف العِرقي مما ساهم في تكوين هوية عِرقية محددة لا للعبيد السود الأفارقة فحسب، بل وللأوروبيين البيض أنفسهم. ومع حلول عقد الثمانينات من القرن السابع عشر، وفي هذا السياق العِرقي ذاته، أخذ الأوروبي يحدد هويته كـ"أبيض" (أي أنّه عَرقَن هويته)، وأصبح الأوروبيون يسمون أنفسهم بـ"البيض" بعد أنْ كانوا يعرفون بـ"المسيحيين" قبل حقبة العبودية، وبـ"الإنكليزي" و"الحر" أو "الرجل الحر" كما كان يُدعى الرجل الأبيض في أواسط القرن السابع عشر.

العَرقنة والصراع الطبقي

يوّلد المجتمع العُنصري، بطبيعة تناقضاته وواقع الظلم والاضطهاد الذي يسود علاقاته الاجتماعية، قوى المعارضة والمناهضة للعُنْصرية التي تطالب بتغيير الواقع وتحقيق المساواة والعدالة. وتتشكل هذه القوى والحركات بالعادة من الفئات التي يعتبرها الأبيض "دونية". ومع تنامي حركة المعارضة ونضالاتها يجد الأبيض نفسه مضطراً للتعامل معها و"التفاوض" حول واقع الظلم والاستغلال وظروف التمييز العُنصري والاجتماعي و"تلطيف" قواعده والقبول بشروط جديدة للتعامل وأسس جديدة للعلاقات.
في هذه اللوحة المعقدة وما يتشابك فيها من تناقضات وصراعات، نسجت الطبقة المهيمنة أيديولوجيتها الطبقية وغلّفتها بأقنعة الاستحقاق والأحقية للأوروبيين البيض.
ولضمان مصالحها الطبقية والاجتماعية سعت هذه الطبقة عبر آلياتها الاجتماعية والاقتصادية، إلى تخفيف حدة التوتر الاجتماعي وتلطيف وتيرة التناقضات الاجتماعية وتوخياً في "تأجيل" انفجار الأوضاع الاجتماعية بغية إجهاض مشروع التغيير الثوري وتأخير الحسم النهائي للتناقضات التناحرية من خلال الحفاظ على السِلم الاجتماعي بين الطبقات والفئات الاجتماعية أو على الأقل ما تبقى منه. وكثيراً ما يجد الأبيض نفسه مضطراً خلال هذه التناقضات التناحرية إلى رسم حدود جديدة (إنسانية واجتماعية واقتصادية وطبقية) للعلاقات بين الطبقات الاجتماعية والجماعات العِرقية والإثنية والتي قد تتمثل أحياناً في إلغاء حواجز معينة أو إقامة حواجز جديدة ومختلفة. كما تجد الطبقة المهيمنة نفسها مضطرة في أحيان أخرى للقبول بشروط مختلفة للتعامل مع هذه المتغيرات وإبداء بعض المرونة بما فيها إتاحة المزيد من الفرص وتوسيع حيز التقدم الاجتماعي للقوى والفئات المحرومة ـ غير البيضاء. إلاّ أنها لا تغفل في هذا كله أنْ تلقي بالفتات على الشعب الأميركي لإخماد التناقضات وكبح عوامل التمرد والثورة وضمان استتباب "السلم الاجتماعي".
وجدير بالذكر أنَّ هذه الآليات ومثيلاتها لم تقتصر على المجتمع الأميركي بل عمدت هذه الطبقة إلى استخدامها على مستوى النظام العالمي وعلاقة هيمنة المركز الرأسمالي ببلدان المحيط لأنَّ جشع هذه الطبقة لم يتوقف يوماً عند حدودها الجغرافية أو سوقها المحلية، بل سعت إلى غزو أسواق العالم وعولمت هيمنتها على شعوبه واحتكارها لمواردها وسلمتها للشركات الرأسمالية الكبرى كي تتحكم بها سعياً وراء الربح الأقصى ووراء الحفاظ على مصالحها وامتيازاتها الاقتصادية ـ الطبقية وترسيخها.

"منطق" التفكير المُعَرقن

يذهب هذا "المنطق" إلى نتيجة مفادها أنَّ البيولوجيا ليست وحدها هي التي تؤكد على وجود "الآخر المُعَرقن"، بل إنَّ قوى التاريخ تثبت ذلك أيضاً. وهذا الآخر هو في الغالب أسود أو أسمر البَشْرة أو "ملون" a person of color كما درج الأميركيون على تسميته. ففي عيون الأبيض، ظلّ الآخر عائماً في التاريخ لا يلامس أرض الواقع ولا يجد "حيزه" كجزءٍ من الواقع الإنساني والاجتماعي لأنَّ الأبيض لا يرى ذلك ولا يريده في آن. وعليه، بقي هذا الآخر، في منظور الأبيض معلقاً في فضاء مطلق في المكان والزمان. ولعل المدلول العملي لهذا، بعيداً عن المعاني النظرية الرمزية، أنَّ العُنصري لا يرى أنَّ سبب الاعتراض على "الآخر المُعَرقن" يكمن في مسلكيته أو تصرفاته وأفعاله بل حتى في مجرد "وجوده". ومن منظور هذا المنطق وما ينجم عنه من آثار وتداعيات، فإنَّ التقليل من الصراعات الاجتماعية والتخفيف من حدتها، يتسنى فقط من خلال إخضاع هذا الآخر بالقوة، أو ربما إبادته الفيزيائية. بعبارة أخرى، وحسب هذا المنطق فإنَّ الفوارق بين الأعراق والفئات الاجتماعية والاثنية وانعدام المساواة والعدالة فيما بينها ليست نتيجة "الواقع الموضوعي" بل نتيجة العُنْصرية البنيوية التي تعيد إنتاج "الأعراق".

الاقتصاد السياسي "للعَرْقنة"

ليس من المبالغة القول بأنَّ الاقتصاد السياسي في أميركا ـ والتطور الرأسمالي السريع، أو التراكم الرأسمالي فيها منذ نشأتها كمستوطنة أوروبية بيضاء وعبر مراحل تطورها التاريخي والاجتماعي ـ قام في ركيزته الأساسية على الضبط الاجتماعي "للآخر المعَرْقن" عبر الآليات العُنْصرية والطبقية التي وفرت حوامل أربعة لا حاجة بنا هنا إلى تكرار شرحها:
1) ) إبادة الهنود الأصلانيين والاستيلاء المجاني على الأرض وهو الأساس في تطور أيّ مشروع.
2) تجارة الرق بداية ثم استعباد العمال الأفارقة في العمل العبودي غير مدفوع الأجر أو بأجر قليل. وقد استخدمت هذه الوسيلة الفعّالة لاحقاً في استغلال العمال المهاجرين الذين تنحدر أغلبيتهم من الإثنيات الملونة غير البيضاء من بلدان العالم الثالث.
3) كون المستوطنين البيض الأوروبيين قد حملوا معهم نمط ومستوى تطور الاقتصاد الرأسمالي الأوروبي.
4) الثقافة البيضاء والعُنصرية والاستعداد لاستعباد الآخر كموروث أوروبي أبيض.
فقد كان اغتصاب الأرض ونهب مواردها الطبيعية من الهنود الأصلانيين هو اللبنة الأولى في بناء الرأسمالية الأوروبية البيضاء في أميركا الشمالية، وكانت المصدر الأول للأرباح الطائلة التي جناها المستوطنون البيض من استخدام الهنود الأميركيين لاحقاً في صيد الثيران وتجارة الفرو.
ثم واصلت الرأسمالية الأميركية الناشئة نموها وتراكمها الاقتصادي في المراحل اللاحقة من تجارة الرق القادم من أفريقيا والتي ازدهرت كنشاط اقتصادي رئيس للرأسماليين الأميركيين الجدد لعقود طويلة قبل أنْ يصبح العبيد عمالاً في المزارع الكبيرة وشكلت مصدراً كبيراً للأرباح.
لقد ساهم السود الأفارقة في التراكم الرأسمالي وتوفير الأرباح لعقود طويلة عن طريق تجارة البشر قبل استغلالهم في المزارع. وقد شكل هذا التراكم الأساس المالي للعديد من البنوك وشركات التأمين الأميركية الكبرى والشهيرة التي ما زالت قائمة إلى يومنا هذا.
كذلك استفادت بعض الجامعات العريقة في أميركا، نذكر منها جامعة ييل Yale University، في تأسيسها وتغطية نفقاتها من الأرباح الناجمة عن استحضار العبيد من أفريقيا وتجارة الرق لاحقاً، حيث يؤكد كثير من الباحثين أنَّ تجارة العبيد والأرباح التي وفرتها كانت مصدر التبرعات التي قدمها الأميركيون البيض من أجل إقامة مكتبة جامعة ييل وتأسيس صندوق البعثات الطلابية ودفع مخصّصات الأساتذة الجامعيين. كما ساهم العمال من العبيد الأفارقة بعملهم وعَرَقهم في بناء عدد كبير من بنايات الدولة الأميركية والمرافق العامة مثل تشييد البيت الأبيض والكونغرس ومجلس الشيوخ في العاصمة واشنطن وغيرها من البنايات الحكومية والعامة.

كيف ولماذا أصبحت "العَرقنة" ضرورة؟

يرى الفيلسوف الفرنسي إيتيان باليبار Etienne Balibar أطروحة يمكننا إيجازها في استنتاجين أساسين:
الأول، أنَّ الهويات القومية والعِرقية والبنى الفوقية في المجتمع متداخلة إلى حدّ كبير بحيث إنّها تخلق الحاجة إلى "عَرقنة" الجماعات السكانية والفئات الاجتماعية ذات الصفات والسمات الدونية (أي تلك التي يعتبرها الأبيض دونية، أدنى منه).
أما الاستنتاج الثاني فهو أنَّ كافة التشكيلات الاجتماعية العُنصرية أي التي تقوم على أساس العِرق (المجتمعات العُنصرية) كالولايات المتحدة، تقوم على مفهوم الحواجز التي تفصل بين الأعراق أو الفئات الاجتماعية المختلفة. وكثيراً ما تكون هذه الحواجز "حدوداً جغرافية" تفصل بين الفئات الاجتماعية وتتغير باستمرار لتفصل وتكرس الفصل بين الأفراد والفئات داخل المجتمع ذاته.
من هنا تولد ضرورة "اختراع" غير الأبيض أو "الآخر غير الأوروبي" حتى وإن لم يكن موجوداً فعلياً. ويعيننا هذا المفهوم على رؤية العُنصرية وكأنها شكل من أشكال الإقصاء والنفي الاجتماعي: إلغاء الآخر حيث يتسنى للأبيض أنْ يوجد "كأبيض" أي أنَّ الأبيض يكون "أبيضَ" في حالة واحدة فقط وهي عندما يتم إقصاء فئة اجتماعية معينة أو جماعة سكانية وإحالتها إلى منزلة دونية في المجتمع، أي منزلة "دون الأبيض". بعبارة أخرى، من دون "الآخر المُعَرقن"، فإنّه لا يمكن للأبيض أنْ يوجد، أي أنَّ الأبيض يتوقف عن الوجود.
إلاّ أنَّ باليبار يعود ويأخذنا إلى الفضاء الأوسع ليؤكد أنّنا نخطئ إذا ما ظننا أنَّ العُنصرية هي في الأساس ظاهرة قومية أو أنها تكمن فقط في أشكال معينة في القومية، أو تظل محصورة في الحدود السياسية والجغرافية لقومية معينة، بل يؤكد لنا أنَّ أحد خصائص العُنصرية التي تمنحها القدرة على البقاء وتطيل عمرها هي قدرة العُنصرية على تجاوز الدولة القومية الواحدة، فالعُنصرية شمولية بطبيعتها و"فوق قومية". وحيث إنّه من المحال، حسب ما يرى باليبار، أنْ نجد في شعب معين "النقاء العِرقي القومي"، أو أنْ تحدد بيقين أصول هذا الشعب أو ذاك، فإنه يصبح من الضروري اللجوء إلى "اختراع" النقاء العِرقي وفبركته. لذلك نجد أنَّ العُنصرية، بما هي "فوق قومية"، تعمد إلى خلق كيانات وجماعات تمنحها شكلاً أو قيمة مثالية مثل مفاهيم "الغرب" أو "الإنسان المتحضر" وغيرها. ويجب ألاّ يفوتنا هنا أنَّ هذه القيم الافتراضية أو المفترضة التي يتم إلصاقها بالأبيض، "الإنسان المتحضر" على سبيل المثال، تضفي عليه منزلة معينة وتمنحه حقوقاً وحريات لا ينالها غيره: الإنسان الأبيض مثلاً، يستطيع أنْ يسافر وأنْ ينتقل عبر الحدود القائمة بين الدول والشعوب الغربية دون عوائق مع أنَّ عوامل اللغة والدين والثقافة والإثنية تفصل بين هذه الشعوب. في المقابل، وإذا تأملنا في الوضع الاجتماعي، فإنَّنا نرى أنَّ الحواجز والحدود الحقيقية تصبح داخلية ومتأصلة وملتصقة بالأفراد لا تنفصل عنهم وهكذا، فإنَّ السود المقيمين في مجتمع قائم على العُنصرية البيضاء، الولايات المتحدة مثالاً، يحملون معهم حدودهم وحواجزهم أينما حلوا وكيفما تحركوا بسبب سمتهم كسود.
خلاصة القول أنَّ العُنصرية هي في العمق فلسفة التاريخ أو بالأحرى فلسفة تدوين التاريخ وتتجلى، من منظور أصحابها ومؤيديها، كنظرة شاملة للعالم ونهج لتفسير الظواهر، ظواهر المجتمع والتاريخ والطبيعة. وعليه، فإنّ الفلسفة التي تجد التبرير والذريعة للتراتبية العِرقية (أو فوقية عِرق على آخر) توفر نهجاً تاريخياً، يضرب جذوره عميقاً في التاريخ، لا يتوقف عند هذا التبرير، بل يصبح طريقة في التفكير وترسيخ الفوارق في المظهر الخارجي بين البشر (لون البَشْرة، سيماء الوجه..) على أنها الفوارق الحقيقية بينهم وهي التي تفصل بين الناس وتقيم الحواجز العِرقية في المجتمع وفي العالم. فمن منظور هذه الذهنية أنَّ بعض الأفراد قد وُلدوا وهم يحملون مصيرهم المحتوم ليقضوا طيلة عمرهم في عالم الدونية، (هكذا ببساطة)، فيما يدعي آخرون أنهم متفوقون "بالطبيعة" وبالولادة وبشهادة قوى التاريخ وحراكه أيضاً.
في هذا كله، يرى باليبار الوظيفة المزدوجة للعُنصرية:
1) الأولى، أنَّ وحدة الأمة (أو الشعب) وحدودها لا تكتملان إلا بإقامة الحدود التي تفصلها عن الأمم والشعوب الأخرى.
2) أما الوظيفة الثانية فتتحقق داخل المجتمع ذاته حيث يكون الفصل بين الأفراد والفئات الاجتماعية.
فمن الناحية النظرية، تقول أطروحة باليبار بأنَّ العِرق أو الثقافة أو كليهما معاً في المجتمعات العُنصرية هو حقّ للشعب يكتسبه بالولادة ويشكل سنده التاريخي ويتمثل في تمركز الصفات والخصائص التي ينفرد بها مواطنو هذا الشعب دون غيرهم. وبعبارة أخرى، أنَّ عِرق أبناء هذا الشعب هو ما يمثل هويته (الهوية الوطنية للشعب) في أنقى أشكالها، وبناءً عليه يصبح العِرق هو ما يتوجب على الشعب/ الأمة التمسك به والدفاع عنه. وربما يعيننا هذا في تفسير العُنصرية والفَوْقية الأوروبية والتي تجلت مبكراً حين أقام المستوطنون الأوروبيون البيض الحواجز بينهم وبين الهنود الأصلانيين في أميركا الشمالية. وهي ذات الحواجز التي فَصَلت لاحقاً بين الأغنياء ـ البيض الأوروبيين والفقراء من السود ـ العبيد الأفارقة. هنا أيضاً نرى كيف قامت الرابطة الوثيقة بين انتماء الفرد إلى الشعب عن طريق الحق في المواطنة والجنسية من ناحية، وموقعه في التراتبية العِرقية في المجتمع، من ناحية أخرى.
ختاماً، لعل في هذا ما يساهم في فهم بعض المفارقات المذهلة في التاريخ الأميركي ويفسّر لنا كيف ولماذا، على سبيل المثال:
1) ظلّ الهنود الأصلانيون، أصحاب الأرض الأميركية لآلاف السنين، الفئة الاجتماعية الوحيدة المحرومة من حق الجنسية الأميركية حتى عام 1924.
2) لم تحصل أغلبية المهاجرين القادمين من آسيا (الصين واليابان خاصة) على حق التجنس في أميركا حتى عام 1952.
3) لم يمارس السود الأميركيون فعلياً حقهم في الانتخابات الرئاسية الأميركية حتى عام 1968 مع أنّهم حصلوا على حق الجنسية والمواطنة عام 1865.



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن