أول لبنة في بناء الحضارة الغربية - منهج الإستقراء التجريبي -

عبد الملك بن طاهر بن محمد ضيفي
ibnaddahiadhifi@gmail.com

2017 / 8 / 16

كنا بصدد تدارس ما سببه هذا التقارب أو التماس الحضاري غير المسبوق الذي يكاد يبلغ حد التمازج الثقافي والانصهار لتهدم كل الأسوار في زمن تعملق التقانة حيث يتم عزل الهوية التقليدية وسلبها كل مقومات التفرد والمتانة في هذه البيئة المظللة بالهجانة تشكل المثاقفة والتثاقف حينا والصراع والتدافع في بعض الأحيان نقاط التقاء المشترك الحضاري الإنساني فعندما يكون الثقل الحضاري في جهة ما يكتسح باقي الجهات التي تستقبله وتحاكيه وتعيد إنتاج كل مبانيه تتأثر به وتستلهمه ثم تطويه هكذا هي العلاقة بين الشرق الذي يباهي بتاريخه المجيد وبين الغرب الذي رفع قواعد هذا الصرح الحضاري المشيد وعند هذه النقطة توقفت لأقول مستفهما لن يستقيم هذا البحث إلا برده إلى أصله فأجاب وسام جوادي ليكن الحديث عن أول هذا الأمر وأسه وإني سائلك عن مناهج البحث العلمي فلا تبخل قلت أبشر حبيبي عن أيها تسأل قال حدثني ولا تستثني وليكن الكلام أولا عن تاريخ المنهج التجريبي قلت كأنك لا تقنع بالطرح الغربي قال بل لا أقبله قلت أحاكمه أم أحلله قال لا هذا ولا ذاك قلت مه قال من ارتقى بالبحث من التجريد إلى التجريب من غير إطراء ولا إزراء قلت الحياد عزيز قال عجل قلت ذا المدخل: لا يؤرخ للحضارة ولا يحكم على أي حقبة من حقبها إلا من خلال العلوم التي تبحث في تلك الحقبة ومناهج بحثها التي تعتمد في الحكم على طبيعة المرحلة الفكرية ومدى إسهامها في إثراء المعرفة بعد تحديد أبعادها وتقييم آثارها في النهضة العلمية إستنادا إلى طبيعة هذه المناهج البحثية التي تسهم في إبراز الهوية العلمية لتلك الحقبة الزمنية ومن ذلك المنهج العلمي التجريبي الذي دحض أخيرا منهج القياس الأرسطي وتلك أول لبنة في بناء الحضارة الغربية لكن ثمة صلة ربط خفية وإن شئت فقل مخفية في بناء هذه الهوية العلمية قال وسام وصلة الربط بين الحقبتين الأرسطية والتجريبية مستمدة من الحضارة الإسلامية التي مهدت للتحرر من قيود النزعة اليونانية قلت ولولا هذه الصلة ما اكتملت الدورة العلمية التي بدأت في الشرق مع الحضارة البابلية والحضارة المصرية التي مازالت تحافظ على العذرية في كثير من أسرارها العلمية المبنية أساسا على المنهج التجريبي لتعلم أن الحضارة الغربية اقتبست ولم تسبق قال وسام كما أنها عالة على الحضارة الإسلامية في مجال البحث العلمي المؤسس على المنهج التجريبي الاستقرائي لأنه حلقة الربط الأساسية بين الوقائع المشهودة في الأعيان والظواهر المحدودة في الأذهان قلت وفي غيره من المناهج العلمية التي أثرت البحث العلمي واستعاضت عن التجريد الصوري المطلق بمضامين علمية منهجية لم يتح لجهابذة المناهج الغربية سبر غورها ولا فهم كنهها إلا من طريق أهلها قال وسام لذلك جعلنا منهج البحث العلمي مقياسا للرقي لا المنجز العلمي إذ لا تلازم بين التأسيس والترجمة فقد يوضع في حقبة ما منهج علمي لا يترجم إلا بعدها بحقب منجزا علميا فسمة المرحلة الفكرية تنسب إلى المنهج تحقيقا وإلى المنجز توثيقا لأن مطبق القاعدة عالة على مقعدها لا العكس
قلت ليأخذ العلم مكانه في صياغة المنظومة القيمية وتتبوء مناهحه مكانتها في بناء الأطر الفكرية لهذه الحضارة الإنسانية
قال وسام جوادي أليس من الإنصاف ألا يحكم على الأمة إلا بعد دراسة معمقة للأعراف القائمة والعقائد الراسخة والمفاهيم المتبعة والنظم الحاكمة والعادات المحكمة وأنماط الحياة السائدة في تلك البقعة المحددة قلت نعم تلكم هي المحددات الاجتماعية للمعرفات الثقافية وأصولها الأنثربولوجية قال وسام إذا حدثهم عن هذه العقلية التي تنسب إلى البلادة والتحجر وعدم التحضر ومباينة التطور وعن الخلفية اللاواعية التي قادتها إلى صياغة تلك المناهج البحثية وعن المرجعية الفكرية التي صهرت كل الأطر والمرجعيات لمختلف الثقافات في وحدة صماء ألغت كل عوامل الفناء وكانت سببا في الرقي والسناء قلت إنها ملحمة فكرية تأريخية منهجية عاطفية قال وسام أمت العاطفة والتزم الحياد ودعك مما قلت آنفا إنها نفثة مصدور قلت أي تريد مني رد ما يعرض اليوم من الطروحات والاجتهادات وما يستشرف من التحديات إلى حوامله الفكرية وإلى أصوله العلمية ليثبت طهر تلك الأرحام وأنها لم تعقم إلا لما حملت من الحرام قال وسام نعم أريد تحديد الحقبة التي ثاب فيها الفكر من البحث في المطلق المجهول إلي المعقول ومنه انطلق وبه استعان على هتك أستار المجهول قلت لقد أخضع القوم التراث اليوناني إلى التحقيق والتمحيص وعنوا بالمناهج البحثية الخاصة بطبيعة التفكير فيه ما جعلهم يحتفون بالمنطق الأرسطي دراسة وتصحيحا واستدراكا وتهجينا ثم استعاضوا عن النزعة الاستدلالية العقلية الصرفة بالنزعة الاستقرائية التجريبية لتبدأ الانعطافة الثانية في الحياة العلمية للحضارة الإنسانية بوئد منهج الاستقراء الأرسطي وبعث منهج الاستقراء التجريبي الذي رفع مستوى التطبيق في العلم منطلقا من الملاحظة فالتجربة منتهيا بالتثبت وذي أهم مراحل الدليل الاستقرائي مقدمته الملاحظة العلمية بشروطها العملية في شتى المجالات البحثية ما يفسر النتائج الرائعة لتلك البحوث العلمية المتقدمة وتجدر الإشارة هنا إلى أنه ثمة بين مقدمة البحث ونتيجته مرحلة لا ثمرة للبحث بدونها ألا وهي التجربة العلمية وهي المرحلة الأولى من مراحل منهج الاستقراء بعد مقدمته لذلك قعدت قواعد التجربة المختبرية وضبطت شروطها وحددت مواصفاتها لتمييزها عن التجربة الحسية وبهذا يظهر الفرق في البحث العلمي بين القانون التجريبي والقضية التجريبية قال وسام ومما يلاحظ أن البيئة الفكرية بواجهاتها العلمية المختلفة أدت إلى النشأة المبكرة للمنهج الاستقرائي الذي أسهم في بحث العلوم وتدوينها مستجيبا لمتطلبات هذا الفكر ما يؤكد أصالة المنهج في الحضارة الإسلامية وعلاقته بدوائر الفكر فيها
قلت لتعلم أن النزعة الاستقرائية أصيلة غير وافدة مستمدة من مصدر مركب فتح طريق الاستدلال ووسع آفاق المعرفة ورسم تصورا صحيحا لصياغة المنهج ليكتمل الإطار العام للبحث العلمي القائم على أرقى منهج في التفكير تشهد له الطريقة العلمية المعتمدة في الفقه والحديث واللغة والكلام وسائر العلوم التطبيقية ثم توسعت دائرة البحث العلمي لا سيما بعدما نشطت حركة الترجمة في شتى مجالات المعرفة لتبرز قيمة المنهج في ضبط الجزئيات وتقييم النظريات قال وسام ما جعلهم يحرصون على تطوير المنهج معددين شروطه مؤكدين على الملاحظة فالتجربة التي تصوغ قانونا يعالج قضية تستشرف فرضا يعمم حكما لتكون مجتمعة دليلا استقرائيا يستجيب لمتطلبات البحث العلمي ما جعل أساطين العلم يثنون على سلفهم من علماء المناهج في الحضارة الإسلامية مقرين بسبقهم وإبداعهم الذي تجلى خاصة في المناهج المعتمدة في البحث العلمي وكيف جعلوها قابلة للتحقيق جامعين بين النظر والتطبيق قلت ومما يؤكد ذلك أن لسانهم كذا إيمانهم لا يتم إلا بالتطبيق وذلك قبل صياغة المناهج أصلا لتعلم أن المنهج من لوازم علومهم وبعض ثمار عقولهم
قال وسام جوادي يمثل الاستقراء التجريبي أحد أهم مراحل الاستدلال العقلي القائم على دلالة الملاحظة والتتبع لأغلب أجزاء المستقرأ لتحديد الخواص إعمالا للحس والحواس لصياغة قانون عام يعمم حكمه على الكليات بما ثبت في الجزئيات على جميع الحالات المماثلة أينما وحيثما وقعت إلا نادرا قلت ولا يكون الناظر مستقرأ إلا إذا كان متفحصا دقيقا ولا يكون النظر استقراء إلا إذا كان عميقا ليتم التفريق بين الملاحظة الساذجة والملاحظة العلمية التي تدرس الظاهرة وتدون نتائج دراستها لتجعل الحديث عن الظواهر تبعا لملاحظتها ومشاهدتها تجريبيا قال وسام وبانتقال الملاحظة من الحسية إلى التجريبية أضحت من أول الوسائل العملية المفضية إلى تحقيق النتائج العلمية فإذا اقترن الاستقراء بالتجربة أثمرت الحجج العقلية تطبيقات علمية عملية تجعل ذاك القانون عند المتكلمين والأصوليين ومن وافقهم قابلا للممارسة العلمية المعملية على أيدي التجريبيين من علماء المسلمين الذين ينسب إليهم هذا العلم الذي يبني فروضه على الملاحظة ويؤكدها بالتجربة ولا يكاد يخطء في تعميماته التي تطابق الواقع المحسوس قلت وبفضل هؤلاء التطبيقيين الذين أخبروا عن الوقائع التجريبية والفروض العلمية بلغة رياضية دقيقة قعدت قواعد منهج الاستقراء التجريبي.
قال وسام جوادي من خبر منهج الاستقراء التجريبي علم أنه مباين لكل المناهج السابقة بل هو من خير تجليات الروح الإسلامية التي حررت المنهج من كل وصاية وحصنته بذاتية فكرية مستغنية بنهج أصولي جمع بين العقل والنقل منذ زمن الصحابة رضي الله عنهم فقد كان الوحي هو المصدر الأهم في تكوين المنهج العلمي القائم على الاستقراء وقد أشار إلى ذلك إبن خلدون في مقدمته فقال

[ نظرنا في طرق استدلال الصحابة والسلف بالكتاب والسنة فإذا هم يقيسون الأشباه منها بالأشباه ويناظرون الأمثال بالأمثال بإجماع منهم وتسليم بعضهم لبعض في ذلك فإن كثيرا من الواقعات بعده صلوات الله وسلامه عليه لم تندرج في النصوص الثابتة فقاسوها بما ثبت وألحقوها بما نص عليه بشروط في ذلك الإلحاق تصحح تلك المساواة بين الشبيهين أو المثيلين حتى يغلب على الظن أن حكم الله تعالى فيهما واحد وصار ذلك دليلا شرعيا بإجماعهم عليه وهو القياس وهو رابع الأدلة ]

فإذا كان منهج القياس الأصولي قد اعتمد الدليل الاستقرائي لتعليل الأحكام منذ فجر الإسلام علم تهافت اتهام مناهج الإسلام بأنها مستمدة من المنطق مؤسسة على الكلام قلت وهنا نتساءل كيف ساغ لهؤلاء إلحاق منهج يعتمد الملاحظة والتجربة في صياغة قانون ينتظم الظواهر الجزئية التي درست وحدد سلوكها ويجعلها من أسس دليله الاستقرائي بمنهج يحط من قيمة الاستقراء إذ المعرفة الحسية عنده لا يمكن أن توصل إلى العلم بالعلل الأولى والماهيات الثابتة ما جعله يستخف بالمناهج العلمية التجريبية ولهذا قدم الطريقة الاستدلالية والتأويل العقلي المجرد على الطريقة الاستقرائية في العلوم التجريبية فكان انهيار العلوم الطبيعية من مقدمات أفول الحضارة اليونانية قال وسام أما الحضارة الإسلامية فقد أوجدت منهجا علميا سبر غور الطبيعة وكشف قوانينها وصاغت نظريات علمية لتطوير مناهجها واكتشفت طرقا منهجية ومعملية تثري البحث وتهيئ الباحث الذي يبني معرفته على العلم والتجربة وكل ذلك مستمد من القران أساسا لأنه يجيب من تساءل عن الكون والمادة ويرشد تصوره عن طبيعة الحياة ويلبي تطلعه إلى تحصيل العلم والمعرفة العلمية الصحيحة وينمي قدرته على البحث العلمي المفضي إلى المعرفة العلمية قلت ومما جعل العربي يميل إلى تبني الاتجاه العلمي هو ما يراه في الكتاب من تصورات عامة عن الكون واستعراض للظواهر الجزئية التي دعاه إلى بحثها منطلقا من الملاحظة بتفكر فالنظر بتدبر ليظفر بتطبيق مثمر أي أن المنهج البحثي المعتمد اليوم والقائم على النظر والملاحظة والتجربة قرآني صرف قال وسام لقد جعلت الحضارة الإسلامية من النقل مصدرا لتطوير العلم والعقل لتنتج أروع ضروب المعرفة الإنسانية مرتقية بالعقل إلى أعلى المراتب مستعينا بالحواس في الجمع بين الفرض والملاحظة ليقترن منهج البحث التجريبي بهذه الحضارة الناشئة التي نفخت الروح في العلوم التجريبية القائمة على منهج الاستقراء والملاحظة ودفنت المثالية العقلية فاتحة الباب للمادية التجريبية لتقرب الشقة بين الإنسان والمعرفة العلمية الحقة لتكون الصنعة دليلا على الصانع والكون دال على المكون قلت وبهذا نثبت اتفاق مصدري العلم النص والحس فالمسلم يؤمن بالنص الذي يأمره باستعمال الحس ولن نحاكم المخالف إلا إلى العقل لذلك لن نستدل عليه بالنقل لكنا نسأله عن هذا المنهج الذي هو إلزام لمن أراد تحصيل المعارف العلمية برسم معالم واضحة لطريقة محكمة تنظم عمله وتحقق أمله وقد نشأ إسلاميا ثم أصبح عالميا
وأخيرا نسأل تجار الدين نسأل الكهان والسلاطين كما نسأل أصحاب الدكاكين من النخب والمثقفين نسأل بألسنة هؤلاء الحائرين لماذا سلمناه موحدا واستلمناه ملحدا؟



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن