قصة : الديك البلدي

محمد بقوح
baqouhmohamed@gmail.com

2017 / 8 / 13

أيها الإنسان العظيم..
إذا كنتَ تعد زمن عمرك بالسنوات الطويلة فنحن معشر الدواجن الصغيرة والمحترمة نعده بالأيام والساعات والدقائق القصيرة. فاليوم عندنا كالعام عندكم. لهذا، كثيرا ما أكاد أجنّ حين أرى أغلب الحيوانات الداجنة مثلي في حظيرتنا الواسعة تقضي معظم وقتها الثمين في النوم والراحة، والمداعبة المجانية لبعضها البعض، بدل أن تعرّي عن سواعدها، وتجدّ وتعمل وتجتهد قبل أن يسقط الظلام وتحلّ نهايتها الطبيعية أو البشرية، تلك التي هي نهاية كل الكائنات الحية.
واصلتُ صعودي الصعب إلى أعلى قمّة مبنى جدار البيت الحجري القديم الذي يبدو من بعيد كالقصبة الزاهية المرتفعة، حيث أنجبني أبي في صيف عاصف وماطر غير عادي. لقد وجدتُ نفسي آنذاك أعيش بإحساس غريب لازمني طيلة حياتي بين الدجاج والأرانب والبط والأكباش والمعز وهلمّ جرا.. كانت أيام الخير.. وما أزال أعيش بينهم إلى حد الآن، لكن بإحساس مختلف هذه المرة. كنتُ دائما أفكر لوحدي دون أن أقدر على إسماع صوتي للآخرين من حولي، ربما لأن آذانهم منشغلة ومشدودة أكثر إلى أشياء اليوم الصغيرة. فكنت أتساءل مع نفسي: "لماذا خلقتني يا ربي كائنا أخرسا لا يقدر على الكلام.. ؟ لماذا خلقتني ديكا أبكما، وغريبا حائرا بأسئلته الحارقة بين أهله الذين لا يفهمونه حق الفهم، عجيبا في أفكاره الغريبة، ومختلفا في سلوكه الطائش، ومخضرما قلقا بين الدجاج المطمئن لحاله والمستسلم لقدره القاسي.. ؟ يا ليتك خلقتني يا ربي حجرا أصمّا، تبنى به جدران بيوت الفقراء والبسطاء، أو يلقى به في وجه الأعداء الظالمين، أو خلقتني شجر نخل مثمر باسق ظليل لأنفع الطير لتأمين حياة فراخها في أعشاشها، وأنفع غيري بثماري الطازجة كما انتفعت أنا بدوري من عطاء هذه الأرض الطيبة وسماءها المطلقة في هذه الحياة العجيبة والجميلة !!" لكن، تمشي رياح واقع الحال بما لا تشتهي سفننا الداجنة. يجب أن أعترف أن أحوال الحظيرة تغيرت كثيرا في هذه الأيام. تغيرت نحو الأسوأ طبعا. بحيث تغيرت حياتنا بشكل فظيع مقارنة مع حالها السابق. يؤسفني أن أقول هذا الكلام. لأنني الآن، لم أعد أعيش في الحظيرة سوى مع دجاجة واحدة، يسمّيها صاحبي "كبّور": "عيشا"، ومع أنثى أرنب حامل، في أسبوعها الأخير لتضع مولودها، يسميها: "فاضما". رحم الله زوجها الأرنب الشهم "محمود" الذي كنا نحترمه، وننعته في حياته بحظيرتنا بالأرنب "الكاسر"، لأنه استطاع ذات مساء بهيج أن يهزم النسر القوي الغاشم في معركة ستبقى خالدة وكبيرة أدخلت أرنبنا الشجاع إلى تاريخنا البطولي الحيواني في المنطقة ككل. لكن، ما العمل ؟ فالبشر هنا معاندون، من طبعهم أنهم ينسون بسرعة، ولا يرحمون، ولا يعترفون حتى بما يحققه الحيوان والطير من أفعال جليلة وأعمال رفيعة وقيمة في حياتنا على أرضنا، إن صدرت عن الدواجن مثلنا، وهذا مؤسف للغاية. لأن صاحبي السيد "كبّور"، الشيخ الهرم والمقوّس الظهر الذي لا تفارقه عصاه إلا في الصلاة، لم يمر أسبوع واحد فقط على احتفالنا بالنصر المبين الذي حققه أرنبُنا الكبير "الكاسر" على الطائر النسر المفترس والبغيض الذي هاجم حظيرتنا ليلا في القرية وأهلها نيام، حتى أوقع الرجلُ بطلَنا الأرنب "الكاسر" في فخه المعهود، وضحّى به من أجل وليمة عشاء فاخرة، أقامها في نفس الليلة لشرف شيخ القبيلة وبحضور بعض رجال السلطة في الجماعة، ليتغاضى له الشيخ الماكر عن فكرة التبليغ به لدى إدارة السلطة المحلية بسبب نخلة مثمرة كبيرة، يدّعي رجل آخر أنها نخلة توجد في ملكه الترابي الخاص وليس في ملك صاحبي السيد "كبّور". لهذا، يجب أن يعود الحق إلى صاحبه المستحق، وأن تكون شجرة النخلة المثمرة من نصيب الرجل المشتكي وليس من نصيب "كبّور" الذي استغل ثمارها لأكثر من عقود، كما استغلها قبله آباؤه وأجداده.
باع السيد "كبّور"، صاحب الدار والحظيرة، كل باقي الحيوان والطير الداجن الذي كان جاري ومؤنسي في وحدتي، وبالقرب مني، حيث كنّا جميعنا نعيش جنبا إلى جنب طيلة سنة كاملة وبعض الأشهر.
فاشتد عليه العوز بسبب جفاف السنوات الأخيرة، فقرر التخلّص من دواجنه واحدا تلوَ الآخر بالتدريج. أما أنا، الديك المشاكس والمحب للحياة، والمهووس بالطيران وركوب التحدي حتى النخاع، رغم قصر جناحيّ، فلم أكن أبدا سهل المنال. وهو يعلم ذلك جيدا. كانت أجنحتي القوية، وخفة جسدي الأصيل، تسعفني دوما على رفع التحدي وتحقيق فعل الطيران في سماء الحظيرة. كنت في كل محاولة أقوم بها أكتشف في نفسي قدرة جديدة على التحليق لمدة أطول، من مكان إلى مكان آخر. ورغم ذلك، كنت دائم الحذر من صاحبي كل الحذر. لهذا، لا أثق به، وكنتُ أضرب عن طعام الشيخ "كبّور" احتجاجا مني ضدّ سلوكه العدواني، وخبثه وغدره المكشوف وفعلته البغيضة ضدّ إخواني الدواجن في الحظيرة، فكنت أهرب بعيدا عنه إلى قمّة شجرة الأركان الباسقة الأغصان في حوض وسط الدار الفسيح كلما شعرتُ بتهديده ودخوله المفاجئ إلى حظيرتنا، وهو يردد أغنيته الرتيبة، رغبة منه في الانقضاض المتكرر على أحد دواجنها الأليفة وحيواناتها الضعيفة، لجعلها تقع في شرنقة شباكه القاسية، من أجل ذبحه أو بيعه في السوق الأسبوعي للقرية. وعندما ينهي الشيخ جرمه وفعلته الآثمة، ويقضي غرضه بالانقضاض على أحد الدواجن الغافلة، يترك السيد "كبّور" المكان وهو مطمئن البال وفي كامل سعادته القصوى.
لكن، في كل فجر اليوم الموالي، كنتُ أعود إلى عادتي القديمة التي لم أتخل عنها أبدا منذ اشتعل شيبُ سنّ الرشد في رأسي، ونبت ظفر سن الكهولة في قدمي. وأعني الصعود الجديد والمستمر إلى قمة جدار سطح الدار لأصيح بأقوى صوتي من أعلى مبنى بيتنا الحجري، حتى يستيقظ صاحبُنا الشيخ "كبّور" وجيرانه من نومهم العميق، وكذلك، كل من كانت له رغبة في أداء واجب صلاة الفجر، أو الخروج مبكرا إلى براري مراعي الجبل، وراء قطيعه، أو أن يخرج إلى عمله اليومي في الحقول المجاورة للقرية.
إنني أقوم بكل ذلك ليعلم أهل القرية، وخاصة ليعلم صاحبي السيد "كبّور" القاسي القلب، والضعيف التفكير، أنني أقوى منه باختلافي عن باقي حيوانات حظيرته المستسلمة لقدرها الحتمي، هذه الكائنات الحيوانية الودودة التي تكتفي فقط باستهلاك ما يقدمه لها الرجل البخيل من أغذية جاهزة، كما لو كان راعيها الأوحد، دون أن تكون لها القدرة على أن تؤدي له بالمقابل خدمة من نوع ما، كما أفعل أنا، ليحق لها أن تحتج في الوقت المناسب. وقد كان هذا السبب كافيا ليفعل بها ما يشاء ويضحي بحياتها عند الحاجة. كما أنّ صديقي الحمار "بلعيد" الذي يقوم بأعمال مهمة لصالح صاحب الدار، يتفق معي في هذا الرأي، رغم أنه ينجز للرجل أعمالا أهم من أعمالي، خاصة حمل الأثقال وأشغال الفلاحة، والتنقل من القرية إلى المدينة. لهذا كان الرجل يعزه ويعتني به أكثر من جميع حيوانات الحظيرة، فكان وجوده وحضوره في البيت البشري أهم بكثير من وجود وحضور الدواجن مثلي. لهذا بقي موجودا يرزق، وحافظ على سلامة حياته من شرور البشر بين حظائره.
لكن، مهما كان حضور انتشار الأجراس ومنبهات الهواتف النقالة والساعات الكبيرة الحجم المعلقة على الجدران في وقتنا الحالي، كما تنتشر النار في الهشيم، وبشكل ملفت في أغلب البيوت القروية والمدنية على حد سواء، إلا أن صوتي القوي وصياحي المميز الجوهري عند بزوغ كل فجر جديد، كان وما يزال صياح الدّيك البلْدي والمتمرد الصامد الذي لم يضعف، ولن يمحوه الزمن، وسيظل يحظى باحترام الجميع، وفي قمّة عنفوانه وقوته وعطائه، بل أفضل من كل المنبهات والأجراس المصطنعة الشائعة في عهدنا، لأنه صياح ديك عزيز وحيوان داجن صادق، ما يزال تلقى الآذان صاغية صداه، وتستجيب له أفئدة سكان القرية استجابة المحب الوفي.
لكنني، في صباح يوم جميل، عندما كنت وأهلي حول مائدة الإفطار، طرح فرخ الدجاجة "عيشا" الذي هو ابني "مرزوق" سؤالا كبيرا أحرجني به في الحقيقة، رغم أنه توجه به لأمّه وبحضور أنثى الأرنب نفسها وأبنائها الثلاثة الحديثي الولادة، قائلا:
- لماذا تستمرين يا أمّي في إنجاب المزيد من البيض، رغم أننا لا نستفيد منه نحن، كما أنني ما زلت وحيدا بينكما. بل تكاد الوحدة تعصر قلبي. فلماذا لا يكون لي أخ أو أخت من بيضنا.. ولماذا أنجبت خالتي "فاضما" أبناءها دون الحاجة حتى إلى البيض.. ؟
سكت الجميع، وتساءل الديك الأب ونظراته تتنقل بين وجوه الحاضرين، فتركزت أخيرا على أم الفرخ الصغير "عيشا" التي نظرت بدورها إلى الأرنبة الأم "فاضما"، قبل أن يتابع فرخ الديك "مرزوق" حديثه المشاغب قائلا:
- كلما ولدتِ يا أمي بيضة في الصباح الباكر، تأتي إلينا بعد حين من أصحاب هذا البيت البخيل رائحتُها صاعدة، مقلية في المقلاة، فأصاب بما يشبه الغثيان الذي يليه مرض الزكام. إني أتألم لهذا الفعل البشري الأناني التافه يا أماه !!
فكر الديك الأب..، في الوقت الذي انهمرت دمعتان من عيون زوجته الدجاجة الأم "عيشا"، وهي تصطنع النظر إلى رفيقتها الأرنبة "فاضما"، في جوارها محاولة إخفاء شعورها بالألم. ورغم ذلك استجمعت الأم قواها، وردّت على ابنها "مرزوق" قائلة:
- ما هذا الكلام الذي أسمعه منك عزيزي ؟ نحن معشر إناث الدجاج نلد البيض فقط، وهنا تنتهي مهمتنا. أما عن تفريخ البيض ليصبح قابلا لإنجاب الأفراخ والأبناء، فذلك قرار بيد رب البيت حبيبي، وليس بيدنا نحن.
لم يقتنع "مرزوق" بكلام أمه التي نظرت إليه نظرة مفعمة بالحنان والحب الكبير كما تفعل دائما كلما وجدت نفسها أمام أسئلة ابنها المحرجة التي لا قدرة لها على الإجابة عنها. أما "مرزوق" فيسارع فورا دون أن ينبس بكلمة بالانسحاب إلى خارج الدار، مثقلا بأسئلته الحارقة والمشاكسة.
- "إن لم يشبه الوليد أبيه.. ترى من سيشبه إذن ؟"
قالها الديك البلْدي لزوجته الدجاجة "عيشا" ملمحا إلى نزعة التمرد والشغب والمشاكسة المبكرة التي بدأت تظهر في سلوك ابنهما "مرزوق". وهي نزعة باتت ضرورية أن تكون جزءا من تربية وتفكير أبناء اليوم في زمن مختلف عن زمنهما، حيث صار فيه البشر يطغى على الحيوان طغيانا آخذ في التزايد والارتفاع الكبيرين .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن