اشكالية العلاقة بين الحزب الشيوعي والمؤسسة الدينية في العراق (القسم الاول)

سلمان رشيد محمد الهلالي
salmanalhilaly@yahoo.com

2017 / 8 / 11

اشكالية العلاقة بين الحزب الشيوعي والمؤسسة الدينية في العراق
ان من اهم المفاهيم التي طرحت بقوه بعد ثورة تموز 1958هى اشكالية العلاقه المعقده بين الماركسيه والدين في العراق , بعد اسدال الستار عنها خلال العقود الثلاث الاخيرة قبل الثورة , فمن المعلوم ان الرؤيه الماركسيه للدين التي سبق ان حددها ماركس وانجلز ولينين ترتكز على مفهوم احادي هو (الالحاد) (Atheism) . والالحاد هو مفهوم فكري عام يعطي معاني ودلالات متعددة منها انكار وجود الله , او الالهة المتعددة بصورة عامة , والقناعة بعدم وجود اي قوة غيبية في الكون , فضلا عن رفض المعتقدات الدينية والغيبية . وهو نمط فكري قديم مرت به جميع المجتمعات والحضارات الانسانية . وقد تبلور في اوربا في القرون الثلاثة الاخيرة متخذا ثلاثة مراحل : الالحاد السياسي في القرن الثامن عشر , وهو موجه بالاساس ضد سلطة الكنيسة والاقطاع . الالحاد العلمي في القرن التاسع عشر وهو قائم على التناقض بين العلم والدين , فيما كان الالحاد في القرن العشرين قد استند على الافكار الشيوعية والماركسية. وقد صورت النظرية الماركسية ان الدين والفنون والاداب والسياسة والقانون والفلسفة ، تشكل البنية الفوقية في اي نظام اجتماعي ، وهي انعكاس للبنية التحتية التي تشكلها طبيعة النظام الاقتصادي والطبقات الحاكمة فيه ، التي تفرض نمطها السياسي والاجتماعي والثقافي على ذلك النظام . وقد اعلن ماركس صراحة ان (الدين لا يحيى في السماء بل على الارض ، وانه وعي انسان الذي لم يجد بعد ذاته او الذي فقدها .. الدين ليس سوى (يوتوبيا) مجردة مصنوعة من مادة الوهم) . وقد ربط ماركس الظاهرة الدينية بالصراع الطبقي من خلال رؤيته للحركات والثورات الاجتماعية التي حدثت في اوربا في اعقاب انهيار الطبقة الاقطاعية وصعود البرجوازية الى السلطة , التي سيطرت على رؤوس الاموال ووسائل الانتاج , واتخذت من الدين سلاحا تستعين به في تخدير عقول الناس او الطبقة الخاضعة . (فالدين هو تعبير عن التعاسة الحقيقية ، هو عبارة عن انين كائن يائس ، وعاطفة عالم بلا قلب ... انه افيون الشعوب ... فنقد الدين هو الخطوة الاولى لنقد هذا الوادي الغارق في الدموع) (فالدين هو روح المجتمع البرجوازي والتعبير عما يفصل الانسان عن الانسان) . ويبدو ان ماركس ربطه ايضا بقضية الاغتراب التي تنتاب الانسان الحديث المستلب (الدين شمس وهمية تدور حول الانسان مادام الانسان لايدور حول نفسه). وكل تلك الاراء التي ادرجها ماركس حول الدين هى اما مستقاة من كتابات الفيلسوف الالماني فيورباخ الذي اعتبر (ولادة الدين في الارض وليست في السماء) او تطويرا لاراء الفيلسوف خالد الذكر هيغل صاحب الكتابات المعمقة والموضوعية والانسانية في الدين .
واما لينين فقد اكد من جانبه ان (الحرب على الدين هو الف باء الماركسية وكل نظرية مادية) (وعلى الماركسي ان يكون ماديا اي عدوا للدين , ولكن ان يكون ماديا جدليا , اي ماديا لاينظر الى محاربة الدين بطريقة تجريدية , ولا على اساس الوعظ الرتيب والبعيد والنظري البحت , بل بطريقة واقعية على اساس الصراع الطبقي الجاري بالممارسة العملية والذي يثقف الجماهير افضل ..... من اجل اقتلاع الجذور الاجتماعية للدين ) . وبالطبع ان اغلبية الماركسيين والشيوعيين العراقيين لم ياخذوا اطروحة لينين ونصيحته حول التعامل الجدلي مع الدين , لانهم كانوا ماديين فقط وليس ماديين جدليين كما طالبهم بذلك , الا انه من جانب اخر ، اعتبر قضية الالحاد والايمان قضيه شخصية بالنسبة لعامة الناس ، لكنه بالنسبة للعناصر الشيوعية يصبح الالحاد ضروريا . حتى انه قال مفتخرا اغلاقه الكنائس والجوامع في روسيا في اعقاب ثورة اكتوبر عام 1917 (لقد لقنت الله – وفي رواية الكنيسة - درسا لن ينساه) .
خلال مرحلة التوتر والاضطراب والصراع بين المؤسسة الدينية الشيعية في العراق وبين سلطات الانتداب البريطاني والحكومة العراقية المتشكلة حديثا , حدث تواصل وتقارب بين قادة البلاشفة الشيوعيين - وابرزهم لينين - وبين مراجع الدين الشيعة المعارضين للانتداب البريطاني والاجراءات الحكومية غير الاستقلالية , على اعتبار ان كلاهما كانا يواجهان عدوا واحدا ومشتركا وهو الدول الغربية التي وقفت بالضد من الثورة الروسية الشيوعية عام 1917 . وقد ذكرت اراء وادلة على تنسيق ودعم من الروس البلاشفة للحركة الاستقلالية في العراق ضد الوجود الانكليزي منها :
1 . خلال سنوات النفي في ايران بعد عام 1923 وبسبب تحريمهم المشاركة في انتخابات المجلس التاسيسي حدثت مراسلات بين المراجع المنفيين والزعماء الروس ، وصف خلالها لينين الشيخ الخالصي بـ (زعيم الوطنيين الشيخ محمد الخالصي) . وذكر الاخير ان تلك المراسلات اسفرت على جملة مكتسبات للمسلمين اهمها : حرية المسلمين في الاقاليم التابعة الى الاتحاد السوفيتي في ممارسة شعائرهم وطقوسهم الدينية , وقد وافق لينين على اعطاء تلك المكتسبات ، الا ان وفاته عام 1924 حالت دون تنفيذها من قبل خليفته ستالين ، ثم اصبح ال الخالصي بعدها من اشد المعادين للحركة الشيوعية للعراق .
2 . ذكرت احدى التقارير البريطانية (ان المنشورات والادبيات البلشفية تناقش في العتبات المقدسة في العراق ، حيث الكثير من التعاطف معهما) ، وذلك يرجع بسبب موقفهم المناهض من البريطانيين في الشرق عموما ، بل وقيل ان المجتهد الاكبر الاول محمد تقي الشيرازي قد اصدر فتوى ينص فيها على (اعتبار البلاشفة من اصدقاء الاسلام) ، واما السكرتيرة الشرقية لدار الاعتماد البريطاني (المس بيل) فقد اكدت (ان الميرزا محمد رضا نجل الشيرازي هو احد المشتغلين للبلاشفة في كربلاء , وان احداث ثورة العشرين في كربلاء قد تمت بتشجيع واسناد من البلاشفة). فيما ذكرت احدى التقارير البريطانية ايضا (ان اربعة من وكلاء البلاشفة قد مروا حاملين توصيات الى المرجع شيخ الشريعة الاصفهاني، وان بلاد الرافدين تلقت الثقل الاكبر للمؤامرة التي قام بها الوطنيون العرب والوطنيون الاتراك والبلاشفة.. وانهم اسسوا فروعا لجمعياتهم في كل اتجاه، وقاموا بارسال مبعوثيهم الى كل مقاطعة في العراق .... وان طريق ايران هو الاكثر تأثيرا في وصول الافكار البلشفية الى هذا البلد) .. علما ان جميع هذه التقارير لم تقدم ادلة مؤكدة تثبت صحة هذه المعلومات الواردة فيها , ويبدو انها تاتي في سياق الحملة البريطانية لمواجهة الحركة الاستقلالية والتحررية وتشويه سمعتها التي اخذت بالتبلور والتنظيم انذاك , والتي مهدت لقيام ثورة العشرين واندلاعها في حزيران 1920 .
3 . ذكر حنا بطاطو ان هنالك جمعية تدعى (جمعية تخليص الشرق الاسلامي) تاسست في موسكو عام 1919 تهدف الى دعم نضال الشعوب المسلمة وتحريضها ضد السيطرة الاوربية ، واتخذت الجمعية مقرا لها في الاناضول ، وقيل ان هذه الجمعية قد تاسست في الاصل في تركيا عام 1919 وتمتعت برعاية مصطفى كمال والبلاشفة، ومهما يكن من امر فهنالك رابط يجمع بين موسكو ومصطفى كمال والاسلاميين وهو مواجهة الانكليز، وقد اكدت تقارير بريطانية وجود ادله مؤكده على امتداد الجمعية الى العراق في اواخر 1919، وتزامن ذلك مع عودة الضباط والموظفين المسرحين من تركيا الى بلادهم , وانتشرت الجمعية بسرعة نسبيا مستفيدة الى حد كبير من اسم مصطفى كمال الذي كان يتمتع بتعاطف كبير في العراق حتى الغاءه الخلافة عام 1924. وعلى الرغم من ان الجمعية كسبت لها اعضاء في بغداد، الا ان قوتها الرئيسية تمركزت عام 1920 في النجف وكربلاء والموصل وتكريت والسماوه ، وكان التوافق بين الاسلام والبلشفية احد الموضوعات التي دافعت عنها الجمعية والتي بقيت ناشطة حتى عام 1922 .
4 . ذكر وكيل الحاكم المدني العام في العراق ارنولد ولسن A. Wellson ان البلاشفة وجدوا لهم مكانا في كربلاء عام 1917 ، وطالـبوا بتحرير القوميات المضطهدة والقـضاء على الاقطاع وطبقات المجتمـع ذات الامتيازات ، فيما ذكر حاكم السليمانية الميجور سوت Sote ان اسم البلشفية عام 1918 وتعاليمها اصبحت معروفة للناس ، وان للبلاشفة جواسيس لهم يد في الاضطرابات التي حصلت في العراق قبل ثورة العشرين .
5 . واما تاثير الثورة البلشفية على الثورة العراقية الكبرى عام 1920 والتي قادها مراجع الدين في النجف , فقد اختلف المؤرخون والباحثون في ذلك . فمنهم من اكد هذا التاثير امثال (هنري فوستر وكمال مظهر احمد وعلي الوردي وكوتلوف وكاظم المظفر) , ومنهم من انكره امثال (عبد الرزاق الحسني وعبد الله فياض).
بعد تعرف العراقيين على الافكار الاشتراكية والماركسية بصورتها الاولى المبسطة ، لم تطرح قضية الالحاد او حتى الموقف من الدين بصورة عامة عند المتأثرين بتلك الافكار ، لانهم اخذوا الواقع العراقي المعاش انذاك بنظر الاعتبار ، الذي يشكل الدين فيه مرتكزا دلاليا رئيسيا في نظامهم المعرفي والاخلاقي ، فضلا عن ذلك ان الافكار والمدارس الاشتراكية الاولى التي تعرفوا عليها كانت ضمن الاطار الليبرالي الموسع وليس ضمن النمط اللينيني الراديكالي المتاخر ، وبالتالي فان رؤيتها للاديان والمفاهيم الاجتماعية التقليدية الاخرى كانت معتدلة بصورة عامة . فاذا اخذنا حلقة حسين الرحال الاشتراكية او (جماعة الصحيفة) كما يطلق عليهم , فانهم لم يبادروا او يعلنوا الحادهم الصريح امام الملأ ، وانما كان هجومهم على المفاهيم التي يعتقدون انها متخلفه وغير عصريه في الدين ( او تلك التي اضيفت لاحقا من الاقوام الاخرى) مثل قضية (الحجاب) , وهي رؤية لا تمس جوهر الدين او متبنياته الاصلية ، وانما المسارات المتعلقة به ، او تلك التي تعلقت به خلال صيرورة التاريخ ، او من تاثيرات ونتائج عصور الانحطاط المختلفة - حسب تعبير محمد اركون - . الا ان جمعية الاحرار اللادينية التي تبلورت في البصرة عام 1929 من قبل يوسف سلمان يوسف (فهد) واخيه داود وغالي زويد وعبد الحميد الخطيب وعبد القادر السياب وغيرهم تعد اول التنظيمات الماركسية او شبه الماركسية (رغم شعاراتها الليبرالية) التي اعلنت صراحة هجومها على الاديان والفقهاء ، واعتبرتها عامل اساسي لفرقة المجتمع العراقي ، ودعت الى العلمانية الصريحة من خلال فصل الدين عن السياسة والتعليم والاحزاب والحياة العائلية ونشر التسامح الديني وغيرها , وهذا ليس بالمستغرب علي هذه الجمعية التي عرف عن مؤسسيها تاثرهم بجريدة (الشمس) التنويرية التي كان يصدرها المسيحي البروتستانتي (اسبر الغريب) في لبنان عام 1915 والتي رفعت شعار (افة الشرق ... اديانه) في صفحتها الرئيسية . والملاحظ في ظاهرة انتقاد الاديان والهجوم عليا والتجديف على الذات الالهية قد تبلورت في العراق على ايدي الاشتراكيين والماركسين والشيوعيين على خلاف المصريين والشاميين الذين كان الرواد الليبراليين هم السابقون والمتصدون الاوائل لظاهرة نقد الاديان والهجوم عليها , او حتى التجديف على الذات الالهية , ويبدو ان الليبراليين العراقيين كانوا اكثر واقعية وبرغماتية في احساسهم بخطورة التطرق الى الظاهرة الدينية والهجوم عليها , فضلا عن ذلك ان اللليبرالية العلمانية - بحد ذاتها - ليست عندها تلك الاشكالية البنيوية والجذرية مع الدين , وتعده التزام فردي وضمير داخلي بين الانسان وربه . فيما تبنت العلمانية الماركسية اطروحة اكثر راديكالية وثورية من الظاهرة الدينية , واعتبرتها اداة فاعلة في ايدي الرجعية والاقطاع من اجل تكريس الغيبوبة وتعزيز السلطة البرجوازية الحاكمة .
الا ان تطور الخلايا الماركسية واتحادها في صورة الحزب الشيوعي العراقي في منتصف عقد الثلاثينات ، ادى الى قيام منظريه وقادته الى التمويه والمرونة في طرح قضية الدين والالحاد ، واستخدام التكتيك المرحلي في الدعوة الى الشيوعية من اجل كسب الاتباع والمناصرين في المجتمع العراقي ، بعد ان علموا ان قضية الدين والالحاد قد تشكل عامل ضعف في دعوتهم لكسب الناس وانتشار الافكار الشيوعية في البلاد ، ومادة فاعلة في ايدي الخصوم والمنافسين في الهجوم عليهم ، فطرحت مقولة ان قضية الالحاد والايمان مسألة شخصية بين الانسان وربه , وان الحزب لا دخل له فيها , حتى ان عزيز محمد (سكرتير الحزب الشيوعي العراقي 1963-1992) قد ذكر بهذا الصدد (ان فهد كان يفتتح بعض البيانات الحزبية بعبارة (يا ابناء الخالصي والشيرازي والمقتدين بهما)) . واستمر الحال على ماهو عليه طوال العقود المنحصرة بين عامي 1929-1959 , حيث لم تطرح قضية الدين والالحاد في ادبيات الحزب الشيوعي العراقي خلال هذه العقود الثلاث عدا منشورات (كفاح السجين الثوري) التي كان يتم تداولها بين الشيوعيين في سجن بعقوبة عام 1954 حيث هاجم احد الرفاق مشاركة بعض الشيوعيين في مراسيم زيارة الاربعين للامام الحسين التي تقام سنويا في كربلاء في شهر صفر , واعتبرها (مفاهيم اقطاعية) بقوله (كثيرا مايعبر المفكرون الاحرار والثوريون الشرفاء عن مفاهيم اقطاعية من دون ان يعرفوا ذلك , وهذا مايحصل , لان خيوط الفكر والثقافة الاقطاعيين (كذا) تمتد عميقا في الزمن الماضي , وتخترق كل مجالات الحياة , ومازال بامكانك في هذه الايام ان تقابل ثوريا ماخوذا بسحر تقاليد بالية , يعلق مثلا اهمية كبرى على حضور الاربعينيات الحسينية ) ، فيما حصل رد على هذا الهجوم من قبل احد الرفاق مدافعا عن تلك المشاركة , مقترحا الاستفادة من هذه المسيرات لصالح الحركة الشيوعية بالقول (المشكلة هى ما اذا كان علينا ان نحارب هذه المسيرات ونستهدف وضع حدا لها ام علينا ان نسعى الى تحويلها من سلاح في ايدي الاعداء الى سلاح للحركة الثورية ؟ اشعر انه لكي نستطيع التغلب على هذه المشكلة لابد من ان ناخذ في اعتبارنا ان هذه المسيرات موجودة بغض النظر عن رغبتنا , وتدل على انها لن تزول او تتراجع في المستقبل القريب , وعلى العكس من ذلك فانها تزداد نموا سنة بعد سنة !! ومن المؤكد انها سوف تستمر حتى بعد اقامة الديمقراطية الشعبية في العراق (يقصد الدولة الشيوعية) والواقع انها استمرت في في الوجود في روسيا لمدة خمسة عشر عاما بعد تاسيس السلطة السوفيتية ) واستند في ذلك على عبارة لينين الشهيرة (افعل حيث توجد الجماهير ). وقد رد على هذه الاطروحة ايضا العديد من السجناء الذين رفضوا الاراء الواردة فيها . علما ان مجلة (كفاح السجين الثوري) اصدرها القيادي في الحزب الشيوعي حميد عثمان عام 1953 ، وهي مجلة نصف شهرية اشترك في تحريرها : عزيز سباهي وعزيز الحاج وعلي حميد .
خلال اوج الصراع المحتدم والحرب الباردة بين المعسكرين الغربي الليبرالي والشرقي الاشتراكي , ارادت الدول الغربية العمل كل مابوسعها لمواجهة الخطر الشيوعي وتمدده في الدول النامية والعالم الثالث , وعلمت علم اليقين بان مواجهة هذا الخطر يجب ان لاتكون من خلال السلاح الامني والفكري فحسب , بل يمكن مواجهته ايضا من خلال الاستفادة من السلاح الديني , واستغلال المشاعر الاسلامية وتحسسها من قضية الالحاد والموقف السلبي من الدين الرائجة ضد الحركة الشوعية , وكان العراق من اهم الدول التي ارادت الدول الغربية حمايته وحصانته من التمدد الشيوعي بعد الحرب العالمية الثانية , خاصة بعد الانتشار اللافت والكثيف له في الاوساط الاجتماعية من الطلبة والشباب والعمال وغيرهم , فعملت على الاتصال برجال الدين المسلمين الشيعة منهم والسنة من اجل اصدار فتاوي تحرم الحركة الشيوعية والانتماء لها , الا انها لم تحصل على ماتريد او تبغي من وراء ذلك . وصدرت في عام 1948 فتوى منفردة او راي للمرجع محمد حسين كاشف الغطاء حول الشيوعية جاء فيها (المبدأ الشيوعي مبدأ هدام لكل المقدسات والقوانين محطم لكل شريعة ودين ، والركون اليه من اعظم المحرمات واكبر الكبائر) . الا انها لم تاتي في سياق تلك المبادارات الدولية والسياسية , لان الشيخ نفسه قد امتدح الشيوعية بالقياس الى السلوكيات الغربية اثناء زيارة السفيرين الامريكي والبريطاني له في النجف عام 1953 اذ قال لهما في معرض تبيان رايه او موقفه من الخطر الشيوعي في العالمين العربي والاسلامي (ان الشيوعية انتشرت نتيجة الاحباط والظلم وانعدام المساواة داخل المجتمع بين الفقراء والاغنياء ... وان مواجهتها تتم من خلال حل المشكلات الذي يعاني منها العراقيون من قبيل توفير فرص العمل والاعمار والبناء , ورفع مستوى دخل الفرد والاهتمام بالمناطق المحرومة في الوسط والجنوب) , ويبدو ان الشيخ كاشف الغطاء قد احس بالغرض السياسي وراء تلك الزيارات والمبادرات , فاعلن من جانبه رفضه حضور مؤتمر مواجهة الشيوعية الذي دعمته احدى المنظمات الامريكية في مدينة (بحمدون) في لبنان وضم رجال الدين من الديانتين المسيحية والاسلامية ، وكتب رسالة بهذا الشان بعنوان (المثل العليا في الاسلام ... لا في بحمدون)) .
بعد ثورة تموز 1958 طرحت اشكالية العلاقة بين التيار الماركسي من جانب وقضية التدين والالحاد من جانب اخر ، لاسيما بعد انتشار المد اليساري الاحمر وانبعاث النزعة الشيوعية بقوة في المجتمع والدولة العراقية ، اذ اعتقد اتباع هذه النزعة خطأ , ان لهم الحق او القدرة بفرض المفاهيم الانفتاحية والعصرية التي يؤمنون بها ، وبجرعة كبيرة على جميع افراد المجتمع ، من خلال الدعوة المتطرفة الى المساواة بين الجنسين ، وتحرير المرأة ، والهجوم على رجال الدين وبعض المراجع في النجف وكربلاء ، وانتشار المطبوعات الانتقادية والالحادية الصريحة وبيعها في الاسواق من قبيل (اين الله) (الله في قفص الاتهام) (لماذا انا ملحد) (اصل العائلة)(دور العمل في تحويل القرد الى انسان) ، واستخدام نفوذهم عند الزعيم عبد الكريم قاسم لاقرار قانون احوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 الذي تجاوز صراحة العديد من الثوابت الفقهية الاسلامية التقليدية ، من قبيل المساواة في الارث ومنع الزواج باكثر من زوجة واحدة الا باذن القاضي ، وتحديد سن الزواج بـ (18) عاما , وغيرها من قضايا الطلاق والرضاعة والحضانة المخالفة للرؤيا الرسمية للشريعة الاسلامية . وبما ان الخلاف بين التوجه الاسلامي والتيار الماركسي كان في الاصل خلافا ايديولوجيا , فقد كان رد فعل اصحاب التوجه الاسلامي في مواجهة الشيوعية وافعالها وتمددها في البلاد قد تبلور من خلال ثلاث طرق :
الاول : تاسيس التنظيمات الاسلامية – السياسية لمواجهة الحركة الشيوعية والمؤسسات والواجهات التابعة له ، مثل : حزب الدعوة الاسلامية والحزب الاسلامي العراقي وجماعة العلماء التي اصدرت مجلة الاضواء عام 1959 .
الثاني : التنظير الفكري الاسلامي ودحض الطروحات الماركسية والاشتراكية في الاقتصاد والسياسة والمجتمع من خلال الصحف والمجلات والمؤلفات . وتجلى ذلك التنظير بصورة واضحة في كتابي محمد باقر الصدر (فلسفتنا) الذي صدر عام 1959 و (اقتصادنا) الذي صدر عام 1961 والعديد من المطبوعات الاسلامية التي انتشرت في ذلك العهد .
الثالث : تحريم الانتماء للشيوعية وتكفيرها من قبل مراجع ورجال الدين الشيعه والسنه والكورد . وقد تجلى ذلك واضحا في فتاوى المراجع الشيعه ( محسن الحكيم وابو القاسم الخوئي وعبد الكريم الجزائري وعبد الهادي الشيرازي وعلي كاشف الغطاء ) والسنه (نجم الدين الواعظ وحمدي الاعظمي وعبد القادر الخطيب وفؤاد الالوسي ) والكورد (الملا صالح عبد الكريم وجميل المفتي وعمر عبد العزيز وعثمان عبد العزيز). وقد صدرت تلك الفتاوي باجمعها مباشرة بعد فتوى المرجع الاعلى السيد محسن الحكيم (لايجوز الانتماء الى الحزب الشيوعي فان ذلك كفر والحاد او ترويج للكفر والالحاد) . وقد وصفت هذه الفتوى بالمعتدلة ، لانها وصفت الانتماء للحزب الشيوعي بانه كفر والحاد , ولم يقل بان الحزب الشيوعي العراقي او الشيوعيين العراقيين بعامة هم كفرة او ملحدين او حتى مرتدين . واما السبب المباشر للفتوى التي جاءت كجواب لاستفتاء شرعي من احد العراقيين فهو اصدار قانون الاحوال الشخصية في كانون الاول عام 1959 ، فيما جاءت الفتوى في شباط عام 1960 واحساس المرجعية الدينية خطا ان الحركة الشيوعية كانت وراء اصدار هذا القانون . وقد استنكرت الحوزة العلمية في النجف صدور قانون الاحوال الشخصية , واصدر المرجع محسن الحكيم بيانا بهذا الصدد ، وقامت السلطة من جانبها بنفي عدد من رجال الدين المنددين بالقانون الى بعض القرى في المنطقة الغربية من العراق , ونشر السيد محمد بحر العلوم كتابا انتقد المتبنيات الفقهية والدستورية للقانون . الا ان السيد طالب الرفاعي القيادي المؤسس بحزب الدعوة الاسلامية ينفي ان يكون المرجع الحكيم قد اطلق الفتوى بسبب انتشار الشيوعية وخطرها المحدق برجال الدين – كما قيل - او من اجل اي هدف محدد اخر, وانما هى جاءت ضمن استفتاء شرعي لااحد الاشخاص من اهل النعمانية يدعى (السيد محمد السيد قنديل) جاء فيه : مولاي اني من مقلديكم ولكنني منتمي الى الحزب الشيوعي , افتونا امركم , وانني انتظر الجواب للسير عليه والسلام عليكم ؟ فاجاب المرجع الحكيم كتابة بخط يده (لايجوز الانتماء الى الحزب الشيوعي فان ذلك كفر والحاد او ترويج للكفر والالحاد اعاذكم الله وجميع المسلمين عن ذلك وزادكم ايمانا وتسليما) , واخذ المستفتي الورقة وذهب بها الى مدينته في النعمانية , ولم ينشرها مكتب الحكيم او يعلم بها احد , وان الذي نشرها في العراق هو الخطيب المعروف السيد جواد شبر – كما ذكر الرفاعي ذلك – في اماليه (او الاصح مغامراته) اذ ما ان علم بها السيد شبر حتى سافر من النجف الى النعمانية وطلب من صاحب الاستفتاء استنساخها , واعطاها له , وذهب بها الى بغداد ونشرها في الصحف والمجلات , وعلقت في الاسواق والساحات العامة , وساهم القوميين والبعثيين في نشرها في ارجاء مدن العراق المتعددة نكاية بالحزب الشيوعي المنافس الاول لهم في الساحة السياسية والعقائدية . ورغم ان تاثير الفتوى على الشارع العراقي ضعيفا جدا – كما اثبت ذلك حنا بطاطو واخرون - بسبب انتشار الميول العلمانية انذاك بقوة في المجتمع وتراجع الواعز الديني وانعزال المؤسسة الدينية , الا ان الشيوعيين العراقيين اصابهم الغضب والتوتر , ليس بسبب استغلالها من قبل الاحزاب القومية المعادية انذاك فحسب , بل لان اغلبية الشيوعيين العراقيين هم متدينون في سرائرهم وفي بنيتهم الحقيقية والجوانية , وان التشدق بالالحاد والعلمانية المتطرفة والتسامي عن المنظورات الدينية لايعدو ان يكون مظهرا خارجيا لايعبر عن حقيقة الواقع , فاشاعوا ان الفتوى جاءت كرد فعل مرجعي ضد قانون الاصلاح الزراعي الذي قامت به حكومة الثورة , ودفاعا عن الشيوخ الاقطاعيين الذين تضررت مصالحهم من هذا القانون , رغم علمنا ان اغلبية الاقطاعيين التقليديين هم من اهل السنة مثل ال سعدون , وان باقي الشيوخ الاخرين من الشيعة هم سراكيل فقط , ولم تتصاعد ملكيتهم الا بعد اقرار قوانيين التسوية واللزمة عام 1932 , وكلا الطرفين (الملاكين والسراكيل والشيوخ الاقطاعيون) لم يعرف عنهم تاريخيا واجتماعيا انهم يدفعون الخمس لرجال الدين , ليس لان العراقي هو في الاصل لايدفع الخمس , وان التدين عنده طقوس مظهرية ذات نسق رتيب وريائي فحسب , وانما لان الشيوخ – كما اثبت ذلك الدكتور الوردي – كانوا غير ملتزمين دينيا حقا , وانهم تركوا قراهم واراضيهم وانتقلوا للسكن في الاحياء العصرية في المدن الكبرى , وعاش اغلبهم حياة منفتحة جدا ومبتذلة مع الراقصات والغانيات في الملاهي والبارات , فضلا عن ذلك تاكيد الدكتور فالح عبد الجبار في كتابه (العمامة والافندي) انعدام وجود ذلك التلاحم او التحالف الراسخ بين المرجعيات الدينية في النجف والشيوخ والاقطاع والتجار (البازار) كما هو حاصل في ايران , وربما كانت العلاقة بين المرجعيات الدينية والتجار الشيعة في الشورجة – واغلبيتهم من الكورد الفيلية - هى اقوى مما كانت مع الشيوخ والاقطاع , كما ان رجال الدين عندنا في العراق كانوا غير ملاكين للاراضي الزراعية الكبيرة - كما هو حاصل ايضا في ايران - ومن اجل ذلك نجد ان المرجع البروجردي المتوفي عام 1961 في قم حرم قانون الاصلاح الزراعي الذي اعلنه الشاه في ايران , بسبب تملك الاغلبية الساحقة من رجال الدين والمرجعيات للاراضي الزراعية هناك والتي حصلوا عليها من خلال الهبات والهدايا والاوقاف او التوريث وغيرها , فيما لم تصدر اي فتوى مؤكدة بالوثيقة بذلك من المرجع الحكيم بهذا الشان , رغم البحث المضني للعديد من الباحثين والكتاب وبخاصة من الشيوعيين , لذا عمد البعض الى التلميح بان المرجع الحكيم لم يعلن الفتوى مباشرة او علنيا مراعاة لنظام الشاة الذي اصدر قانون الاصلاح الزراعي في ايران في ايار 1960 , فعمد الى تحريمه عرفيا او سريا , او من خلال الشياع بين الناس الى ان الصلاة في الاراضي التي تملكت بواسطة قانون الاصلاح الزراعي هى صلاة باطلة , لان تلك الاراضي هى بحكم المغصوبة , وقد اشار الى هذه الظاهرة اثنين من الكتاب الشيوعيين وهما عبد الرزاق الصافي وعبد الرزاق زبير , ويبدو ان الشيوعيين وبعد فتوى المرجع الحكيم بتحريم الشيوعية عرفوا ان خير وسيلة للدفاع هى الهجوم , فاشاعوا بين الفلاحين الفرحين بان تملك الاراضي والاستحواذ عليها من الاقطاعيين والشيوخ وفق قانون الاصلاح الزراعي محرم بنظر المرجع الحكيم , وان الصلاة فيها باطلة لانها مغتصبة من ملاكيها الشرعيين , الا ان الفلاحين ورغم بساطة تفكيرهم وثقافتهم المحدودة طالبوا القائلين بذلك بدليل شرعي او وثيقة او ورقة مختومة بهذا الشان , وبالطبع لم يحصلوا على ذلك او اي على دليل مادي اخر , واعتقد ان اشاعة الشيوعيين بين الناس - وخاصة الفلاحين منهم - بفتوى تحريم تملك الاراضي الزراعية وفق قانون الاصلاح الزراعي يرجع الى سبب وظيفي وبرغماتي , وهو علمهم اليقيني ان السبب الاساس لتحريم الشيوعية هو قانون الاحوال الشخصية الذي اعتقد المرجع الحكيم خطا انهم من ساهم باقراره , او من دفع عبد الكريم قاسم لذاك , وبما ان هذا القانون فيه فقرات علمانية ومدنية تخالف الايات القرانية والثوابت الاسلامية صراحة , فانهم بالتالي وقعوا في موقف محرج , اذ انهم لايستطيعون القول ان التحريم كان لهذا السبب امام العامة والفلاحين من الناس المحافظين , لان ذلك يظهرهم بمظهر العلمانيين الخارجين عن الاسلام صراحة , فاشاعوا بدلا من ذلك ان فتوى تكفير الشيوعية كانت بسبب قانون الاصلاح الزراعي . فضلا عن ذلك ان الفارق الزمني الكبير بين اصدار قانون الاصلاح الزرعي رقم 30 في عام 1958 والفتوى في شباط عام 1960 يعطي اسئلة ملحة او محرجة للشيوعيين المناوئين حول سبب تاخرها كل هذا الوقت وعدم اعلانها مع اقرار القانون , وهذا ما يدحض الراي حول تلازم الفتوى مع اقرار قانون الاصلاح الزراعي .
وقبل ختام هذا القسم لابد ان اشير الى انني شخصيا سالت احد الوجهاء في محافظة الناصرية ويدعى الحاج (خير الله جعاز القره غولي) المعروف عند الاهالي ب(حجي خوير) وكان انسانا فقيها وورعا وذو علاقات خاصة مع المراجع الكبار (الاصفهاني والحكيم والخوئي) حول موقف السيد الحكيم من شرعية ملكية تلك الاراضي عند الاقطاعيين والشيوخ ؟ فقال انا سالته بذلك , وكانت اجابته بالاتي (لااثر للطابو بعد انهيار الدولة العثمانية) اي ان المرجع كان لايعتبر الاراضي التي حصل عليها ملاكيها من خلال العلاقة الخاصة مع الدولة العثمانية شرعية , الا ان هذه الفتوى اذا شملت الاقطاعيين والملاكين مثل ال سعدون و(اللوردات الغائبين) من ال سركيس وال دانيال وغيرهم الذين تملكوا تلك الاراضي بعد اصلاحات الوالي مدحت باشا عام 1869 والعلاقة المتميزة مع الدولة العثمانية , فماهو الموقف الشرعي من الاراضي التي تملكها الشيوخ في العهد الملكي بعد اقرار قوانين اللزمة والتسوية عام 1932 ؟ وبالطبع لم اعرف جواب هذا السؤال لاني لم اساله بذلك . واعتقد ان جوابه يعني جميع تلك الاراضي التي حصلت بتلك الطريقة , اي من خلال العلاقات والنفوذ مع السلطات الحاكمة (العثمانية منها والملكية) كانت غير شرعية , لاننا نعلم جيدا ان الشيوخ والمتنفذين قد حصلوا على تلك الاراضي الزراعية الهائلة واحتكروها لانفسهم بعد ان كانت ملكا مشاعا للعشيرة , واستعبدوا الفلاحين وسرقوا مجهودهم السنوي وانفقوه على مصالحهم الشخصية وملذاتهم الشهوانية , انما كان بطرق غير مشروعة او دستورية , ومن خلال الابتزاز والضغط والتهديد اولا , والعلاقات الشخصية مع المتنفذين والسياسيين ثانيا . كما يجب التنويه ايضا ان السيد الشهيد محمد الصدر صاحب النهضة الاسلامية الشعبوية في العراق , اعلن في نهاية التسعينيات تحريمة الصلاة في الاراضي الزراعية والملكيات الخاصة التي حصل عليها اصحابها من خلال قانون الاصلاح الزراعي , وطالبهم بحصول براءة الذمة من المالكيين الاصليين . وقد اثارت هذه الفتوى جدلا محتدما في المجتمع العراقي , الا ان التطبيق لها او الالتزام نحوها كان ضعيفا جدا وباهتا , لقدم ملكية تلك الاراضي بين الناس , وتحولها الى منازل سكنية ومنشات خدمية , وتعقيد المسالة اجتماعيا واقتصاديا , فضلا عن ذلك تحول المجتمع العراقي من النمط الزراعي الريفي الى النمط الريعي النفطي المدني , والذي اصبحت الزراعة لاتشكل موردا اساسيا او هاجسا عند اغلبية العراقيين .



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن