حين يستقرئ السرد وقائع الحياة...(الزلزال) للطاهر وطّار آمال تذروها الريح

شكيب كاظم
a.marzouq@yahoo.com

2017 / 7 / 22

كانت الثورة الجزائرية، التي قادتها جبهة التحرير الوطني الجزائرية، ضد الاحتلال الفرنسي، وإطلاقها الرصاصة الأولى ضد وجوده في الأول من تشرين الثاني /1954 فضلاً عن اختطاف فرنسا عدداً من قادة الثورة الجزائرية خريف سنة 1956 وهم في طريقهم من الرباط إلى تونس العاصمة، أحمد بن بلة، ومحمد بو ضياف، ومحمد خيضر، وحسين آيت أحمد، فضلاً عن الصحفي المرافق مصطفى الأشرف، كانت صورتهم وهم مقيدون بالأغلال، توقد حماستنا القومية والوطنية، كنا فتياناً في نهاية مرحلة الدراسة الابتدائية، وزادها، اعتقال المجاهدة جميلة بوحيرد وحكمها بالاعدام، فضلاً عن رفيقتها جميلة بوباشا، كنا نتبادل صورة بوحيرد ونضعها على أغلفة كتبنا المدرسية، واستقبلنا فريق كرة القدم الجزائري الذي جاء للعراق للعب مع عديد فرقه، منها لعبه أمام فريق مصلحة نقل الركاب في شهر شباط /1958 في ملعب الإدارة المحلية بالمنصور، وتظاهرنا تأييداً لثورة الجزائر، وإعلان الوحدة السورية المصرية، في الملعب وخارجه وصولاً إلى جسر الشهداء، وكان حديث الثورة الجزائرية الذي يذاع من إذاعة بغداد، عند التاسعة مساءً يومياً والمذيع بلكنته الجزائرية المحببة، كان الاستماع لهذا الحديث طقساً يومياً، وتألقت حماستنا يوم تشكيل الحكومة الجزائرية المؤقتة خريف عام 1958، وتولى قيادتها فرحات عباس (1899-1985 ) حتى إذا زار أحمد بن بلة العراق ربيع سنة 1962 فضلاً عن جميلة بوحيرد، دفعنا شعورنا القومي، كي أكون عند بوابة مطار بغداد الدولي، القريب من محطة السكك العالمية، والذي تحول في الثمانينات إلى مطار المثنى العسكري، في استقبال الوفد الثوري الزائر للعراق.

الاستعمار عقد ألسنتهم

هذا الشعور الفياض، دفعني لمتابعة ما يكتبه الأدباء الجزائريون، وكان أدبهم يأتينا مترجماً، فأدباء الجزائر وروائيوه، أيام الحكم الفرنسي (1832-1962) كانوا يكتبون بالفرنسية، فالتعليم بالفرنسية، وتكاد العربية تتلاشى لولا بعض المساجد، فضلاً عن ذهاب الميسورين للتعلم في تونس المجاورة ولاسيما في جامع الزيتونة العريق، قرأنا شكوى جميلة بوحيرد من أنها لا تستطيع التكلم بالعربية، وقرأنا لوعة الروائي الجزائري محمد ديب (1920- 2003) من انه يكتب بالفرنسية، بسبب الاستعمار الفرنسي، كتب ثلاثيته الروائية الدار الكبيرة، الحريق، النول، ونقلها للعربية سامي الدروبي، رافضاً أن يعد أدبه فرنسياً، بل يراه أدباً قومياً يظهر الآن في المغرب العربي عامةً، وفي الجزائر خاصة، غير أن الأمر الذي له دلالة بليغة هو أن هذا الأدب يكتب بالفرنسية في بلاد ذات تراث ثقافي إسلامي لا تزال تحاول، ولو في كثير من العناء، أن تقدم إنتاجاً أدبياً باللغة العربية.

أما مالك حداد 1897)-(1978 فيصيح مخاطباً الشاعر الفرنسي المعروف، لويس اراكــــــــــــون 1897)- (1982 أنا أرطن ولا أتكلم، إن في لغتي لكنة، إنني معقود اللسان… فلو كنت أعرف الغناء لقلت شعراً عربياً (…) لقد شاء الاستعمار أن تكون في لساني آفة، تراجع مقدمة المترجم الدروبي للثلاثية.

فضلاً عن كـــــــــــــاتب ياسين (1929-1989 ) الذي أشتهر وعرف في وطننا العربي بروايته (نجمة)، كان هذا الثلاثي مضيفين إليهم مولود فرعون الذي اغتالته منظمة الجيش السري الفرنسي في شهر آذار 1962، وهي التي أعلنت سياسة الأرض المحروقة، ضد الجزائر، إثر نجاح مباحثات إيفيان بين الثوار والحكومة الفرنسية، وقرار الرئيس الفرنسي الأسبق (شارل ديكول) المتوفى خريف 1970، بمنح حق تقرير المصير للشعب الجزائري، فضلاً عن مولود معمري (1917-1989 ) أقول كان هذا الثلاثي الروائي، يثير حماستنا وتعاطفنا ومرت السنون لنجد أن هذا الذي بنينا عليه الآمال، بدأت تعتوره الانتكاسات والخيبات، والانقلابات التي كانت بدايتها انقلاب وزير الدفاع هواري بومدين في حزيران 1965 ضد السلطة الشرعية الدستورية المنتخبة ممثلة بالرئيس أحمد بن بلة.

بعد الواقع عن الطموحات

كنا نسمع عن تلكؤ سياسة التعريب، وكانت تتوارد إلينا أخبار التخريب الزراعي الذي حصل، وعزم الحكومة على تحقيق (ثورة ) زراعية جذبت لها الطلاب، وما حركت الفلاحين أصحاب المصلحة الحقيقية! وظلت الجزائر تحيا على ما تدره صادرات النفط، المعرضة للهبوط والارتفاع.

قرأت ثلاثية (ذاكرة الجسد) و(فوضى الحواس) و (عابر سبيل) للروائية الجزائرية أحلام مستغانمي، ابنة مدينة قسنطينة، مدينة الجسور التي لا تعد، وابنة المجاهد الجزائري الكبير محمد الشريف الذي يمثل الرعيل الأول من مجاهدي جبهة التحرير الوطني الجزائرية. ولمست، لا بل تأكدت من خيبتها من هذا الذي دفع أبوها حياته من أجله فالوصوليون وماسحوا الأكتاف والانتهازيون يعيثون فساداً في الحياة الجزائرية، فضلاً عما قرأته لياسمينة خضرا، الاسم المستعار للروائي، الضابط الجزائري السابق (محمد مولسهول) (1955- ) ولاسيما روايته (بمَ تحلُم الذئاب) ترجمة وتقديم أمين الزاوي وإذ أقرأ رواية (الزلزال) للكاتب والروائي الجزائري الطاهر وطار، المولود سنة 1930 من أسرة بربرية، درس في معهد عبد الحميد بن باديس ذي التوجهات الإسلامية، التي استهوته زمناً، لكنه ما يلبث أن يغادرها نحو الماركسية. تتأكد لي خيبة الناس بهذه الثورة التي دفعت من أجلها أكثر من مليون شهيد، فالناس تنعق مع كل ناعق، وغيرت جلدها سراعاً لتتواءم مع الحياة الجديدة، وتحاول نسفها وحرفها، أو في الأقل تمشية مصالحها الفردية.

رواية (الزلزال) من روايات الحيز الضيق، فحوادث الرواية تجري في مدينة قسنطينة، فضلاً عن محدودية زمانها، فهي لا تكاد تتجاوز العشر الساعات منذ أن وصل عبد المجيد بو الأرواح إلى مدينته، التي شهدت مسقط رأسه وأجداده، مدينة قسنطينة، التي غادرها إلى تونس، بُعَيّدَ انطلاق الثورة الجزائرية ليؤكد الروائي سلبيته إزاء الحياة، فهو غادر بلده بحثاُ عن أمان ذاتي وإذ يحصل الاستقلال في ربيع 1962، ويتوج رسمياً في تموز/ 1962، يعود عبد المجيد بو الأرواح، صاحب الأرض الزراعية الشاسعة، التي حصل عليها بطرق مشروعة وراثة أو غير مشروعة .

يعود بو الأرواح إلى بلده، لكن الروائي زيادة في تبشيع صورته لا يعيده إلى قسنطينة، إلى مدينة الآباء والأجداد، كي يستثمر أرضه، بل يعيده إلى العاصمة مديراً لإحدى ثانوياتها ويبقى سنوات لا يفكر حتى بزيارة أهله وذويه.

وإذ تباشر الدولة بعمليات ما عرف بـ (الإصلاح الزراعي) في العراق بسرعة، ولما يمضِ على (الثورة) سوى شهرين، فان عمليات الاستيلاء على الأراضي من مالكيها، تتأخر في الجزائر نحو عقد من الزمان، وإذ ينمو إلى مسامع عبد المجيد بو الأرواح توجه الدولة، وقد آل الحال الزراعي إلى يباب وخراب بعد الفوضى التي ضربت الحياة الجزائرية، إثر انسحاب الفرنسيين والأوربيين من الجزائر، غداة إعلان الاستقلال، وإذ يسمع بو الأرواح الهمس القائل بتوجه الدولة نحو الاستيلاء على الأراضي الزراعية من مالكيها، فأنه يقرر – لغرض التملص من هذه القرارات والالتفاف عليها- زيارة مدينته، بعد سنوات طويلة من مغادرتها، كي يلتقي بمن بقي من أهله وذويه، ليوزع عليهم جزءاً من أرضه، شرط أن لا تسجل بأسمائهم إلا بعد موته. فلا تستطيع الدولة الاستيلاء على أرضه لأنها أقل من الحد المقرر!.

الروائي الطاهر وطار – كما قلت آنفاً- يحاول إعطاء صورة سلبية عن مجيد بو الأرواح، نكاية به وفضحاً له، فهو ما عاد إلى وطنه إلا بعد انتهاء حرب الاستقلال، وهو ما عاد إلى بلدته، إلا بعد ان سمع بعزم الدولة على مصادرة الأراضي، فيما عرف بعمليات التأميم، وإنشاء المزارع الجماعية، التي ثبت فشلها لأنها تلغي الدافع الأساسي في أي عمل وهو الحصول على المال، فضلاً عن أنها تساوي بين المجد والكسول، وقد ثبت فشلها حتى في البلد الأم!!

عبد المجيد بو الأرواح يتعاطف مع أية صورة من صور الحياة الجزائرية بعد الاستقلال، لذا هو يصب جام غضبه على الناس كل الناس مناجياً الولي سيدي راشد بان يُزَلْزِل هذه المدينة الضاجة بالفوضى والصخب والقذارة، متمتماً مع ذاته الآية الكريمة: يوم تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كلُ مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى، مناجياً إياه يا صاحب البرهان، يا سيدي راشد، أحضر، وقل في قسنطينة القول الفصل، حرّك (الصخرة) التي تقوم المدينة عليها، حركها بهم وبمنكرهم وفسقهم وفجورهم، حان لك أن تحضر ياسيدي راشد. لقد صبرت أكثر مما ينبغي يا صاحب البرهان!

وبعد بحث دائب خائب عن أقاربه وذويه، الذين غادرهم منذ نحو عقدين من الزمان، ما سأل عن أحد منهم، حتى إذا احتاج إليهم، كي يفلت من قرارات الدولة بالاستيلاء على الأراضي الزراعية، توجه إليهم في رحلة طويلة من العاصمة استغرقت نحو تسع ساعات.

تبشيع صورة بو الأرواح

عبد المجيد بو الأرواح يجن تدريجياً، بعد ان تفجعه تقلبات الحياة، واختلاط الأوراق، هو الذي شاء الروائي الطاهر تبشيع صورته، فجعله عقيماً، حتى إن إحدى زوجاته، حاولت أن تخونه كي ترضيه، وتوحي إليه أنه قادر على الإنجاب مما يذكرني برواية (العاقر) للروائي الأمريكي الزنجي جون شتاينبك، لكن محاولتها هذه تفتضح وتتفاجأ بعودته، هو الذي أخبرها بنيته السفر، قائلة له ” أريد أن أمنحكه . أعلم أنك في انتظاره بفارغ صبر، من أجلك، من أجلك، لم أفعل شيئاً حتى الآن.. ظلت تردد والدمع ينهمر من عينيها الجميلتين، حتى عندما كنا في طريقنا إلى البادية. بعد أسبوع دفنتها وعدت وأقسمت أن لا أتزوج مرة أخرى”” تراجع ص 161 من الرواية.

وزيادة في التبشيع فعبد المجيد بو الأرواح، سليل خونة وعملاء، فجد أبيه تواطأ مع قوات الغزو الفرنسية، فأعطوه الأمان له ولأسرته، إن فتح باب السور الذي كانت قبيلته تقاتل دونه، أما جده فقد هيأ الجنود ليغزوا الفرنسيون بهم المغرب وتونس، أما أبوه فقد عاد من حرب الشام أيام الغزو الفرنسي لبلاد الشام أثناء الحرب العالمية الأولى، فألبسه الفرنسيون برنساً أحمر ونصبوه (قائداً).

بو الأرواح يجن، وهو يرى آماله تذروها الريح، هو البخيل المزواج العقيم سليل الخيانة، ليرى أن أبن أخيه سي الطاهر النشال المعروف، قد صار ضابطاً سامياً، فهو بسبب ماضيه السيئ كانت بينهما نوع من القطيعة فيجيبه من يسأل عنه، وقد أختلط الحابل بالنابل وأصبح هؤلاء يخترعون لهم تأريخاً، يجيبه: وأي ماضٍ يا سيدي، سي الطاهر، إنه من الوطنيين الأوائل، دخل السجن أكثر من مرة، وحوكم عدة مرات بتهم ملفقة كانوا يقولون عنه إنه نشال ولكنه في الحقيقة كان يقوم بتهريب الأسلحة والذخائر، سي الطاهر من الأوائل” تراجع ص 89.

ليناجي بو الأرواح ذاته: الطاهر بو الأرواح، ابن أخي السكير العربيد، ضابط سام؟ وأي ضابط؟ يحل ويربط؟ هذه هي المـسألة إذن! ص98. أما ابن عمه الأمي عبد القادر العرابلي فقد أصبح أستاذاً في ثانوية مبتكراً له تاريخاً مزوراً، وإذ يسأل بو الأرواح، محدثه: أستاذ؟ ماذا؟ هكذا بهذه السهولة؟

يأتيه الجواب الصاعق لمزوري التأريخ: لا. ليس بسهولة. عبد القادر ابن عمك بدأ ممرناً، عبد القادر ابن عمك حصل على الشهادة الابتدائية، ثم على الأهلية. عبد القادر ابن عمك لم ينقطع عن الكفاح، دخل الجامعة وتخرج، عبد القادر ابن عمك استاذ في ثانوية (….) هذه الحرب وما تفعل (….) وهذه الحرية وما تفعل” ص 140.

الرواية ذات مكان وزمان محددين

هذه التقلبات في أمور الناس، وفوضى الحياة تفجع عبد المجيد بو الارواح، فيبدأ بالحديث مع ذاته، وحديثه مع ذاته جلب انتباه الأطفال الذين بدأوا يشاكسونه الأمر الذي يدفعه إلى الذهاب نحو أحد الجسور تخلصاً من صياحهم وجلبتهم ويبدأ برمي ملابسه قبل أن يهم برمي نفسه، في حين كانت الشرطة – وقد جلب انتباهها هتاف الأطفال وصــياحهم نحوه- تمنعه من الانتحار آخذة إياه نحو المستشفى.

رواية مكثفة، من روايات الحيز الضيق، فهي لا تكاد تغادر بعض شوارع قسنطينة، وزمان محدد نحو عشر ساعات ، منذ أن وطئت قدما عبد المجيد بو الأرواح أرض مدينته وحتى ظهور مخايل الجنون وفقدان الزمام وأخذه نحو المستشفى لتضاف إلى الإبداع الروائي الذي كتبه الروائي الجزائري الطاهر وطار، الذي رحل عن عالم الاحياء في 12/من آب/ أغسطس/2010.

وهامش خارج المتن، وجدته ينسب مذهب الأشاعرة إلى أبي موسى الأشعري قائلاً: قضى الأولون على المعتزلة وأهل الرأي، فلا كان المعتزلة ولا كان أهل الرأي، ناصر الأولون أبا موسى الأشعري، وبنوا على وجهة نظره مذاهب…” تراجع ص113

أقول: إن الأشاعرة أو الأشعرية ينسبون إلى أبي الحسن الأشعري (260-324هـ) صاحب كتاب (مقالات الإسلاميين) وهو من أشهر كتبه، ولا علاقة للمذهب بأبي موسى سوى أنه جد بعيد من أجداد أبي الحسن الأشعري وبينهما نحو ثلاثة قرون زماناً!!



https://www.ahewar.org/
الحوار المتمدن